فيصل جلول
“الديموقراطية الجيدة” تكون في الدول التي تحظى بمباركة الولايات المتحدة الاميركية حصرا، وما عداها دول مارقة عدوة ، او دول ثرية وحليفة، وبالتالي محمية من التصنيف ” الديموقراطي”، او دول في الطريق الى الديموقراطية توضع تحت المراقبة لضمان الولاء، او دول فقيرة لا جدوى من تصنيفها الا عندما تتخذها الجماعات الارهابية مقرا ومنطلقا لعملياتها الدولية .
لا نخل عندما نوجز بهذه الطريقة خلاصة القياس الديموقراطي في السياسة الخارجية الاميركية.. هذا القياس يمكن معاينته بيسر كبير لوفرة التفاصيل في اميركا اللاتينية عموما وفي فنزويلا هذه الايام ومن قبل في البرازيل .
في كاراكاس حكومة منتخبه ديموقراطيا لا تكف واشنطن عن زعزعة الاستقرار فيها، لانها تنتهج سياسه خارجية ولاتينية خصوصا لا تناسب مصالح الولايات المتحدة وهيمنتها . وفي البرازيل اطاح اللوبي الذي تدعمه واشنطن برئيسة منتخبة ديموقراطيا وجيء بمافيوزي من اصل لبناني رئيسا، وضع البلاد على حافة الانهيار، وهي عضو في مجموعة العشرين، ولديها كل الفرص لتكون رائدة في محيطها وفي العالم. بالمقابل، تسكت واشنطن عن طغاة لاتينيين لانهم يوالونها وهذه السياسة المزدوجة المعايير ليست جديدة فقد حثت جنرالات الجيش التشيلي بزعامة القبيح بينوشيه على الاطاحة بحكومة الرئيس الراحل سلفادور اللييندي المنتخبة ديموقراطيا في سبعينات القرن الماضي ومنعت من بعد الاجراءات الاممية العقابية ضد الانقلابيين.
واذا كان القياس الديموقراطي الاميركي هو نفسه في كل القارات التي تحتفظ واشنطن فيها بمصالح حيوية واستراتيجية، فانه يطبق بقسوة في اميركا اللاتينية التي تعتبرها حديقتها الخلفية، ومن هذه الحديقة يمكن تبين حجم وقوه السيطرة الاميركية على شؤون العالم وبالتالي تراجعها او تقدمها.
الدول اللاتينية الرافضة للسياسة الاميركية والتواقة الى التحرر من الهيمنة وبناء مستقبل زاهر، ادركت منذ القرن الماضي ان الحرية لا تصان في بلد واحد وانما في مجمل القارة، ما يعني وجوب وحدتها الاندماجية او الفدرالية او الكونفدرالية. هذا الخيار عرضه في القرن التاسع عشر سيمون بوليفار، محرر اميركا اللاتينية من الاستعمار الاسباني، المولود في العاصمة الفينزويلية والذي طبع القارة ومازال يطبعها بأثره التوحيدي التحرري، الى حد ان بوليفيا سميت باشتقاق من اسمه، وتتنتشر تماثيله في معظم ارجائها، وان الراحل هوغو تشافيز جنرال فنزويلا الحر، كان يعتمده مرشدا وهاديا لمستقبل القارة. وكان بوليفار مرجعا ل تشي غيفارا الذي افترض ان الحرية والتنمية لا تنجز في بلد واحد، وان هذه المهمة تقتضي تحرير كل بلدان القارة، وقد اختلف في هذا التقدير مع رفيقه فيديل كاسترو الذي اعتبر ان بناء قاعدة صلبة وقويه للتحرر في كوبا من شانه ان يجذب دولا وشخصيات لاتينية اخرى للسير على خطى هافانا. فكان ان بادر غيفارا لصناعة الثورة في بوليفيا وسقط فيها مدافعا عن فكرته، في حين واصل كاسترو الدفاع عن الاقليم القاعدة للتحرر اللاتيني، فحوصر وما يزال شقيقه راوول يقاوم الحصار بشجاعة نادرة .
صمد “الاقليم القاعدة ” الكوبي طيلة الحرب الباردة، واهتز من دون ان يسقط بعد انهيار الاتحاد السوفييتي الى ان بدأت موجة التحرر الجديدة في العقدين الماضيين بكسر الحصار عن كوبا، وذلك عبر استخدام سلاح الانتخابات الحرة كوسيلة للوصول الى السلطة بدلا من حروب العصابات المسلحة التي باءت كلها بالفشل. وقد شملت هذه الموجة القسم الاكبر من الدول اللاتينية وظهر حكام جدد لا يكنون الاحترام للبيت الابيض الى حد ان الراحل شافيز تمكن من تحويل قمة الاميركيتين الدورية الى مرافعة لاتهام الولايات المتحدة بنهب ثروات القارة والتدخل السافر في شؤون بلدانها، وتنظيم مستقبلها بما يضمن المصالح الاستراتيجية الاميركية وعلى حساب فقرائها وجياعها .
تمكنت فنزويلا مع مجموعة من دول القارة من فك الحصار عن كوبا، وانطلقت عملية بوليفارية “ديموقراطية” للسيطرة على انظمة الحكم هنا وهناك وهنالك، وتم تحقيق انتصارات بائنة في عدد مهم من هذه البلدان ، الا ان واشنطن سرعان ما استعادت هامش المناورة وشنت عبر انصارها هجوما مضادا باسم ” الديموقراطية” و”الحرية” ومناهضة “الاستبداد” رغم ان الدول المستهدفة تمثلها حكومات منتخبة ديموقراطيا.
لا بد من الاشارة هنا الى الموجة الديموقراطية “البوليفارية” ان جاز التعبير، قد فرضت على الولايات المتحدة فك الحصار عن كوبا والاعتراف بالنظام الكوبي، لكن الرئيس الاميركي الجديد دونالد ترامب تراجع عن الاتفاق الذي وقعه سلفه باراك اوباما، ويريد العودة الى الوراء وبالتالي مواصلة الحصار على هذا البلد في خطوة تنطوي على معنى صريح مفاده ان واشنطن لا تريد الاعتراف بالموجة الديموقراطية اللاتينية وترغب بوضع حد لها في كل مكان ولا سيما في قاعدتها التاريخية في كوبا وقاعدتها الفنزولية ومن المؤسف القول ان هذا التراجع نجح في البرازيل، وهو قيد الاختبار في فنزويلا، ولكن بصيغة جديدة قوامها الخلاص من النظام التشافيزي تحت طائلة تهديم البلد واشعال حرب أهلية تطيح بكل ما بناه لقرن مقبل على الاقل.
يفضي هذا السياق الى ان الديموقراطية بالنسبة للولايات المتحدة هي اداة تطويع وتبعية وليست وسيلة للتحرر من الاستبداد والقمع والهيمنة فهذه الظواهر تتماهى بنظر المواطن اللاتيني مع “اليانكي” وتستدعي التحرر منه باعتباره المسؤول الاول عن نهب القارة وافقارها واستتباعها واختيار حكومات دمى في عواصمها تعمل اولا واخيرا على احترام شروط التبعية بين “العراب” الاكبر في واشنطن وحديقته الخلفية البائسة. انها ديموقراطية العناق بالخناق التي يخيم شبحها من جديد على سماء القارة.