بانحيازها الكامل لعدوان اسرائيل على غزة، فان الادارة الاميركية وضعت نفسها في موقف اقليمي أكثر خطورة، خصوصا في ما يتعلق باحتلالها في كل من العراق وسوريا. وصار من الواضح لملايين الناس حول العالم، وخصوصا في غرب آسيا، ان هذا الاحتلال لم يحقق لا سلاما ولا استقرارا، لا في العراق ولا في سوريا، بل وإتخذ دورا أكثر وقاحة بتسخير قدراته علانية لدعم آلة حرب اسرائيل على الفلسطينيين الآن.
خليل حرب
يذهب الاحتلال الاميركي بعيدا في إحتضانه للاحتلال الاسرائيلي. لم تعد هناك اي مراعاة تذكر لمصالح ومشاعر ومواقف لا حكومات الدول العربية والاسلامية، ولا شعوبها. بعد شهرين على المذبحة المستمرة، تقول وزارة الخارجية الاميركية “لم نر أي دليل على أن إسرائيل تقتل المدنيين عمدا”.
واذا كان الغزو الاميركي للعراق في العام 2003، قد خلق محيطا عربيا وإسلاميا معاديا على المستوى الشعبي، الى جانب مئات الاف الجثث والمذابح وملايين النازحين، وهي كارثة متعددة الجوانب لا تزال آثارها محفورة بعمق في اذهان شعوب المنطقة، ولم تشف منها، فان الدعم المفتوح للسياسة الاجرامية لحكومة اسرائيل الان، بما في ذلك تسليمها 10 الاف طن من السلاح والعتاد بجسر جوي متواصل (200 طائرة شحن) منذ 7 أكتوبر/تشرين الاول، بحسب وزارة الدفاع الاسرائيلية، أضاف كل عناصر التشويه -والتوتير- الممكنة في وجه الولايات المتحدة ووجودها.
تتزايد الشكوك والتساؤلات حول جدوى الاحتلال، في العراق وسوريا، حتى في الداخل الاميركي، والمغزى من استمرارهما على اراض كان الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب وصفها في بداية العام 2019 بانها بلاد “الرمال والموت”، مقررا الانسحاب من سوريا، قبل ان يتراجع تحت ضغط اللوبيات المؤيدة للحروب والتدخل الخارجي، ووزير دفاعه جيم ماتيس الذي إستقال احتجاجا، بالاضافة الى نتنياهو، رئيس وزراء دولة الاحتلال الموازية، الذي طلب تأجيل الانسحاب.
حرب غزة، اكدت ان الاحتلال احتلالين فعليا. نظراء المحتلين في العراق وسوريا، هم الاسرائيليون في فلسطين. “محور المقاومة” كما يقول الأمين العام لكتائب سيد الشهداء الحاج أبو آلاء الولائي، يرى ان الاحتلال الاميركي هدفه “قطع شريان” المقاومة في المنطقة، ومنع تواصلها جغرافيا.
وهناك من يستشعر القلق في واشنطن. قبل ايام، بدأ السيناتور الجمهوري راند بول تحركا داخل الكونغرس من اجل المطالبة بسحب القوات الاميركية من سوريا، على اعتبار “ان الشعب الاميركي سئم من الحروب التي لا نهاية لها في الشرق الاوسط، وبرغم ذلك، هناك 900 جندي اميركي لا يزالون في سوريا من دون ان تكون هناك مصالح اميركية حيوية على المحك، ولا وجود لتعريف للنصر، ولا وجود لاستراتيجية خروج، ولا وجود لتصريح من الكونغرس بالتواجد هناك”. ويعتبر بول ان على النواب الاميركيين مناقشة ما اذا كانت المهمة التي ارسل الجنود الاميركيون للقيام بها في سوريا، قابلة للتحقيق ام لا.
وهناك قرار مصادق عليه من الكونغرس منذ العام 1973 حول “سلطات الحرب”، والذي يستند عليه السيناتور بول في تحركه، يفرض على الادارات الاميركية سحب جنودها من مناطق معادية، طالما ان الكونغرس لم يعلن الحرب. صحيح ان بايدن نفذ انسحابا فوضويا من افغانستان بعد “حرب لانهائية” تذمر منها الاميركيون طويلا، والاهم ان الخروج كان بمثابة من “عاد بخفي حنين” وتحت نيران المقاومين الافغان، الا انه ابقى على قواته المحتلة في العراق وسوريا.
ورسميا، تبدل الغزو الاميركي للعراق من مهمة قتالية الى “مهمة استشارية ودعم”. وهو تغيير كان بمثابة عملية تجميل لاستمرار وجود الاحتلال. واذا كان تنظيم داعش هو الذريعة التي استخدمت من اجل عودة المهمة القتالية للاميركيين في العام 2014، فان كل اطراف “محور المقاومة” تعتبر ان نجاح الدواعش في خرق الحدود بالتقدم من مدينة الرقة السورية في 8 حزيران 2014 نحو مدينة الموصل العراقية (واعلان الخلافة منها) وخرق الحدود بين البلدين، لم يكن صدفة.
وتعززت هذه الشكوك من خلال ظواهر عديدة، من بينها ان الطائرات الاميركية قصفت اكثر من مرة تجمعات ومواقع لقوات “الحشد الشعبي” العراقي بينما كانت تخوض معارك مع الارهابيين، او تستعد لمهاجمتهم، او من خلال محاولة عرقلة دور الحشد في معركة التحرير.
ولما لاح النصر للعراقيين، فان واشنطن تجاهلت ان الحكومة العراقية اعلنت رسميا في 9 كانون الاول/ديسمبر 2017، النصر النهائي على التنظيم، اذ توجه رئيس الوزراء وقتها حيدر العبادي الى العراقيين قائلا “أيها العراقيون: إن أرضكم قد تحررت بالكامل وإن مدنكم وقراكم المغتصبة عادت إلى حضن الوطن.. وحلم التحرير أصبح حقيقة وملك اليد”.
أبقت الولايات المتحدة على قواتها برغم تلاشي خطر داعش. ومثلا، قالت قوات التحالف التي تقود عملية “العزم الصلب” انها في اطار مجمل عملياتها خلال شهر يونيو/حزيران الماضي ضد داعش، بلغت 37 عملية، قتلت 13 عنصرا وجرى اعتقال 21 آخرين بالشراكة مع الحلفاء من قوات “قسد” (في الشمال السوري) والجيش العراقي وقوات البيشمركة الكردية (في اقليم كردستان العراقي). وكان هناك 30 عملية في العراق قتل فيها 12 ارهابيا و7 عمليات في سوريان قتل فيها ارهابي عدد 1.
والسؤال هو، هل توحي هذه الارقام بأن معركة الاميركيين مع الارهابيين محتدمة؟ هل تستحق نتائج هزيلة مثل هذه تمركز الاف الجنود ما بين القواعد العسكرية في العراق وبين قواعد شمال شرق سوريا، وفي قاعدة التنف في الجنوب السوري، لتقتل إرهابيا واحدا في سوريا؟
يتصرف الاميركيون بصلف. يتجاهلون مثلا ان العراق صار قادرا على تخصيص 22 مليار دولار لميزانية وزارة الدفاع وحدها، وان عديد الجيش المسنود من قوات الحشد الشعبي، وهي كلها قوات صارت تتمتع بخبرة قتالية كبيرة بعد سنوات القتال ضد الارهابيين، وخوضها معارك مفتوحة وداخل المناطق الحضرية.
تفرغ الاميركيون منذ اعلان العراق النصر على داعش، للتضييق وملاحقة الحشد الشعبي وقادته من فصائل المقاومة المتعددة، وصولا الى اغتيال “قائدي النصر” على داعش، اي قائد الحشد الشعبي العراقي ابو مهدي المهندس وقائد قوة القدس في الحرس الثوري الايراني قاسم سليماني، ثم يتمادون في التعبير عن هنجية قوة محتلة، بتجاهلهم تصويت مجلس النواب العراقي في 5 كانون الثاني/يناير 2020، على قرار يلزم الحكومة العراقية بالعمل على انهاء وجود جميع القوات الاجنبية على الاراضي العراقية.
اما في سوريا، فكما هو معروف، فان قوات الاحتلال الاميركية بدأت تتمركز في هذا البلد مع ظهور تنظيم داعش الارهابي في العام 2014، ونفذت أولى ضرباتها الجوية ضد الارهابيين في 7 اغسطس/آب 2014، ثم الاعتداءات الاولى ضد الدولة السورية نفسها في 7 ابريل/نيسان 2017 بقصف مطار الشعيرات العسكري في محافظة حمص، بعدما كانت احتلت في قاعدة التنف العام 2016.
الحاج أبو آلاء الولائي، الامين العام ل”كتائب سيد الشهداء”، الذي وضع للتو على لائحة عقوبات وزارة الخزانة الاميركية، وعلى لائحة وزارة الخارجية الاميركية بوصفه “ارهابي عالمي” لان الكتائب “خططت وشاركت في هجمات ضد افراد اميركيين في العراق وسوريا”، يقول ردا على سؤال حول تمسك الاميركيين باحتلالهم لقواعد وثكنات في انحاء العراق وسوريا، انه “في البعد العام، فان الشرق الاوسط بما له من اهمية استراتيجية على مستوى الثروات الطبيعية والموقع الجغرافي والامن القومي، اصبح محط انظار اقطاب المحاور العالمية ودفعهم الى التسابق لتثبيت موطىء قدم لهم فيه سواء على مستوى بناء القواعد العسكرية او مد الاذرع السياسية او بناء الفواعل الاقتصادية او التأثير بثقافاته المجتمعية”.
ويقول الحاج أبو آلاء الولائي انه في “البعد الخاص، فإن الاحتلال الاميركي يجد بأن خط محور المقاومة الممتد عبر ايران والعراق وسوريا وصولاً الى باقي البلدان، يمثل الشريان الابهر للمحور، وان تواجد الاحتلال الاميركي في العراق وسوريا سيساهم من وجهة نظره بقطع ذلك الشريان”.
ومنذ 17 اكتوبر/ تشرين الاول الماضي، وقع اكثر من 70 هجوما على مختلف مواقع تمركز القوات الاميركية ما بين العراق وسوريا، في اطار ردود من فصائل المقاومة على موقف واشنطن المنحاز بالكامل لاسرائيل في المذبحة التي ترتكبها في غزة، حيث ارسلت الولايات المتحدة تعزيزات عسكرية تتمثل في السفن الحربية وحاملتي طائرات، والاف الجنود الى المنطقة، ليكون ذلك فعليا بمثابة مساندة مباشرة لاسرائيل، لكن واشنطن حاولت التسويق لخطوتها هذه بانها بهدف منع انتشار الصراع اقليميا، وهو ما يتعارض بشكل فاضح مع السلوك الاميركي نفسه حيث شنت قوات الاحتلال الاميركي غارات على مواقع تابعة للمقاومة في كل من العراق وسوريا ما اوقع العديد من الشهداء، بل انها تساهم في الوقت الراهن في التصدي للصواريخ والطائرات المسيرة التي تطلقها القوات المسلحة اليمنية باتجاه اسرائيل.
ويطرح هذا السلوك تساؤلات اضافية عن حقيقة دور واهداف الوجود العسكري الاميركي هذا. ويقول الحاج أبو آلاء الولائي ان “الاحتلال الاميركي ومن خلال انتهاكاته المستمرة للسيادة العراقية واراقته للدم العراقي عبر عملياته الجوية الغادرة بحق العراقيين، وبدون موافقة او علم الحكومة العراقية، قد اسقط عن نفسه بنفسه صفة الاستشارة والتدريب، ولم يعد لهذه التعابير اي معنى، واصبح وجوده واضحاً بأنه محتل عسكري ووجود قتالي وقوات مميتة لا علاقة لها بالتدريب ولا بالاستشارة”.
وعندما سئل عما اذا كان الاحتلالان الاميركيان في العراق وفي سوريا، مترابطين، وما اذا كان انتهاء احدهما يعني انتهاء الآخر، قال الامين العام لكتائب سيد الشهداء انه “على المستوى الاستراتيجي فإن الاحتلال الاميركي في العراق وسوريا ينطلق من ذات المنطلق الذي اشرنا اليه سابقا، وان تعمد اختيار هذين البلدين (العراق وسوريا) ليعزز من وجوده فيهما هو من اجل قطع شريان المقاومة”. واضاف قائلا انه فيما يتعلق بنهاية احد الاحتلالين، فانه “لا علاقة طردية بينهما. نعم سيؤثر كثيراً انتهائه في احد البلدين على وجوده في البلد الاخر، لكنه لن ينهيه فوراً، والدليل ان الاحتلال كان متواجداً في العراق قبل ان يتواجد في سوريا”.
فرضت تطورات الحرب على غزة، معادلات ملتهبة جديدة على المواجهة الجارية بأساليب متعددة بين “محور المقاومة” وقوات الاحتلال الاميركي. تلعب واشنطن الورقة الكردية في الشمال الشرقي السوري، وتعزز تفكيك المكونات السورية بين بعضها البعض، وتبقي سوريا في حالة حرب داخلية، ويساهم الاحتلال من خلال قاعدة التنف، بمنع سيطرة الدولة السورية على البادية وجنوب البلادن ومنها تقوم بتدريب مجموعات ارهابية تابعة لها، وتقف كعائق عند نقطة التلاقي الثلاثية بين الاردن والعراق وسوريا، لامتداد خط التواصل الجغرافي (والامني والاقتصادي) من بغداد الى دمشق، تماما كالدور الذي تؤديه عين الاسد في الغرب العراقي، كقاعدة عسكرية للاحتلال تمنع تمدد الحضور الايراني غربا نحو البحر المتوسط.
وربما لهذا، ولاسباب اخرى عديدة، يدركها المحور المقاوم والمحور الاميركي، فان الصواريخ والطائرات الانتحارية المسيرة، لا تزال تستهدف الجنود الاميركيين، ملوحة لهم بالموت وتزرع المزيد من عدم اليقين في جدوى البقاء. وقد نشر موقع “انترسبت” الاميركي مؤخرا وثائق سرية تتعلق بعمليات سرقة طالت معدات عسكرية “حساسة” في القواعد العسكرية الاميركية في العراق وسوريا، ولفت التقرير الى تأكيدات وزارة الدفاع البنتاغون بانه ليس لدى الرئيس بايدن اولوية اكثر اهمية من حماية حياة الجنود الاميركيين في الميدان، ليتساءل الموقع كيف بامكان الولايات المتحدة حماية جنودها طالما انها لا تستطيع تأمين معداتها العسكرية من السرقة.
الاحتلال هو أيضا عقبة في وجه التواصل سياسيا وإقتصاديا وإجتماعيا وأمنيا بين شعوب غرب آسيا. لكنه يدرك ان الايرانيين والاتراك والعراقيين والسوريين (والروس طبعا)، يراهنون على ان تكون ايامه معدودة. ولا تزال ذاكرة العراقيين والسوريين، وحلفائهم من الايرانيين واللبنانيين ايضا، تستعيد ذلك اليوم الباهر الذي تحقق في 18 يونيو/حزيران العام 2017، عندما اكتمل مشهد التقاء فصائل المقاومة العراقية والجيش السوري وحلفائه للمرة الاولى عند حدود البلدين، بعد دحر داعش، وتحديدا في محافظة الأنبار على بعد 50 كيلومترا شمال معبر التنف. وان هؤلاء لا زالوا يؤمنون بقول “أليس الصبح بقريب؟”.