ليست المرة الاولى التي يقاتل فيما اليمنيون من أجل فلسطين، لكنها المرة الاولى التي ينخرطون فيها في توجيه ضربات مباشرة الى الكيان الاسرائيلي انطلاقاً من أراضي “اليمن السعيد”.
خليل حرب
2000 كيلومتر تقطعها الصواريخ والمسيّرات اليمنية للوصول إلى الكيان الإسرائيلي، وتعني في ما تعنيه أن مقولة «احتواء الصراع» التي رفعها الاميركيون كشعار مضلل، تبريراً لانخراطهم المستتر والعلني في العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين، أصبحت فارغة من مضمونها.
اليوم، ينتزع اليمن بجدارة دوره كلاعب أساسي في «محور المقاومة»، مثيراً لإرباك خصومه، بعدما رفع سقف التحدي بإعلانه، صراحه، انتقاله أولا من مرحلة التهديد للولايات المتحدة من الانخراط في الحرب الإسرائيلية، إلى مرحلة استهداف مدينة ام الرشراش (إيلات بحسب تسمية الاحتلال) بالصواريخ والمسيّرات المفخخة، وثالثاً الى مرحلة «حرب السفن» ضد البواخر التي تحمل ترفع علم الكيان الصهيوني أو تشغّلها شركات إسرائيلية أو تعود ملكيتها لشركات إسرائيلية، وفق إعلان القوات المسلحة اليمنية في 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، ورابعاً إلى ما يعتقد أنها المحاولة الأولى لاستهداف سفينة عسكرية اميركية بالصواريخ.
ومنذ الليلة التي خرج فيها زعيم جماعة «أنصار الله» السيد عبد الملك الحوثي مهدداً بالدخول في المعركة في حال تدخلت الولايات المتحدة بشكل مباشر في الحرب، بعد 3 ايام فقط على عملية «طوفان الأقصى»، أصبح «احتواء الصراع» فجأة مصطلحاً مترنحاً بالكامل.
اتخذ الدور اليمني أشكالا متنوعة منذ ذلك اليوم، من ام الرشراش الى البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن، ضمن خريطة، أقل ما يقال انها تسبّب إرباكاً اقليمياً للانتشار العسكري الأميركي المنحاز للعدوان على غزة، ورفع من مستوى التحدي من جانب محور المقاومة، وساهم في اعادة الأميركيين حساباتهم السياسية والامنية للمشهد الاقليمي برمته، والأهم، ربما، انه أجبر الإسرائيليين على مراجعة خساراتهم الاقتصادية وأكلاف الحرب على كيانهم.
ومن آخر التداعيات الاقتصادية، غيّرت سفينة الحاويات «زيم يوروب» التي تديرها شركة النقل البحري الاسرائيلية «زيم» مسارها بعدما عبرت، آتية من بوسطن الاميركية، مضيق جبل طارق الى البحر الابيض المتوسط الجمعة الماضي، في طريقها إلى قناة السويس المصرية للعبور نحو البحر الأحمر وباب المندب قبالة اليمن، ومن هناك الى مرفأ كلانغ الماليزي. لكنها عادت يوم السبت أدراجها نحو جبل طارق، وعبرت نحو غرب إفريقيا في المحيط الأطلسي للاستدارة حول أفريقيا نحو رأس الرجاء الصالح، ومن هناك الى ماليزيا، وهي طريق بحري أطول بـ 56% من طريقها المقرر سابقا عبر قناة السويس – باب المندب، بحسب ما ذكر موقع «فرايت ويفز» الاميركي المتخصص بأخبار الملاحة التجارية البحرية في 27 تشرين الثاني – نوفمبر.
وأعلنت القيادة المركزية الأمريكية «سينتكوم»، في اليوم نفسه، عن محاولة من جانب «أنصار الله» لضرب السفينة العسكرية الاميركية «يو اس اس مايسون» بصاروخين بعيدي المدى، أثناء وجودها في خليج عدن، في إطار ما وصفتها بأنها مهمة إنقاذ لسفينة الشحن «سنترال بارك» التي تشغلها شركة «زودياك» البحرية المملوكة من الملياردير الإسرائيلي إيال عوفر.
ماذا يعني ذلك من منظور أوسع نطاقا؟
أولاً، إن «أنصار الله» اليمنية تعتبر نفسها خارج تفاهمات الهدنة المؤقتة المعلنة في قطاع غزة.
ثانياُ، في حال كان إعلان «سينتكوم» دقيقا، فإن الحادثة تعتبر بمثابة الاحتكاك الاول، ان صح التعبير، بين القوات اليمنية في صنعاء وقوات الاحتلال الاميركية التي عززت تمركزها العسكري في أنحاء المنطقة بالتزامن مع بدء العدوان الاسرائيلي على غزة، وذلك منذ إعلان «انصار الله» اسقاط طائرة أميركية مسيرة من طراز «ام كيو 9» في اجواء المياه الاقليمية اليمنية في 8 تشرين الثاني – نوفمبر الماضي.
ثالثاً: ان كلفة فاتورة الحرب تتزايد على إسرائيل.
لكن كيف؟
عرقلة حركة الملاحة التجارية بين قناة السويس وباب المندب لا تشكل ضغطا على اسرائيل وحدها، اذ تمر من خلال هذا المعبر حوالى 21 ألف سفينة سنوياً تمثل نحو 12% من حركة التجارة العالمية، الى جانب 6 ملايين برميل من النفط يومياً تعادل 9% من إجمالي كمية النفط المنقول بحريا.
يربط باب المندب، بهذا المعنى، حركة التجارة بين الشرق الآسيوي وغرب آسيا وأوروبا. وتلعب أم الرشراش (ايلات)، من خلال مينائها المطل على خليج العقبة في أقصى شمال البحر الأحمر، دوراً بارزاً في هذه الحركة التجارية، وفي ربط اسرائيل بأسواق الشرق الاسيوي، خصوصا منذ حُوّلت المدينة الى منطقة تجارة حرة تستفيد من مزايا وإعفاءات الشركات من رسوم الاستيراد عام 1985. وقد تعزز دور هذا الميناء بعد توقيع اتفاق التطبيع مع دولة الإمارات قبل 3 سنوات، عندما تم الاتفاق على نقل شحنات خام النفط الإماراتي إلى أم الرشراش، لنقله عبر خط أنابيب «إيلات – عسقلان»، أي من البحر الاحمر الى البحر الابيض المتوسط.
ولاسرائيل، كما هو معلن، طموحات إقليمية أوسع متعلقة باطلالتها الوحيدة هذه على البحر الأحمر، لتعزيز موقع المدينة ودورها التجاري، بما في ذلك تصورات لـ«السلام» المستقبلي مع المملكة العربية السعودية والربط بالسكك الحديد مع المناطق الداخلية التي تحتلها في فلسطين.
مشاهد ضرب ام الرشراش، بالصواريخ والطائرات المسيرة يقوض الصورة المرتجاة للطموحات الإسرائيلية في الصميم، بما في ذلك حركة السياحة الكبيرة التي تحصد منها عائدات كبيرة. لهذا، ولأسباب عديدة، يمكن فهم التكتم شبه الكامل الذي تحيط به اسرائيل ما يجري على «الجبهة اليمنية»، لعل من بينها تجنب الإحراج الأمني والسياسي الذي يفرضه اليمنيون من ساحة المساندة البعيدة هذه.
لكن الأثر الفوري للهجمة اليمنية على حركة التجارة البحرية لإسرائيل ستتظهر مباشرة من خلال الارتفاع السريع في كلفة النقل، إما بسبب اضطرارها إلى تجنب استخدام البحر الأحمر وباب المندب واللجوء إلى الاستدارة الطويلة حول أفريقيا للوصول إلى آسيا، او من خلال الاعتماد أحيانا على النقل الجوي الاعلى كلفة، وإما بسبب ارتفاع رسوم شركات التأمين المتعلقة بالسفن الاسرائيلية تحديدا او التي تنقل بضائع مخصصة لاسرائيل، اضافة الى زيادة كلفة أجور العاملين على متن السفن، حتى ولو كان تشغيلها يتم من شركات أجنبية. إذ ستجبر هذه على المجازفة باستمرار عملها مع الجانب الاسرائيلي.
غير ان هذه الاحتمالات الاقتصادية تتخذ بعداً مختلفاً بمخاطرها في ظل تقديرات وزارة المالية الاسرائيلية بأن كلفة الحرب (حتى الان) تبلغ 270 مليون دولار يوميا، وانه بحسب موقع «بلومبيرغ» الأميركي، من المرجح ان الكيان الاسرائيلي سيتحمل ثلثي هذه الكلفة، وأن واشنطن ستتكفل بالثلث الباقي. ويعني ذلك ان الكلفة الاجمالية تخطت بكثير الـ 50 مليار دولار حتى الان.
واذا اضيف الى هذا المشهد المزيد من الأرقام الاسرائيلية التي تفيد بأن الاحتياطات الأجنبية تراجعت بقيمة 7.3 مليار دولار، وأن الكيان اضطر الى الاقتراض 8 مليارات دولار بشكل أولي، إضافة إلى انكماش الاقتصاد في الربيع الأخير من العام الحالي بحسب خلاصة «ستاندارد آند بورز»، فإن ذلك يعني أن الاهتزاز الذي يصيب حركة التجارة الخارجية لإسرائيل، سيلحق ضررا هائلا باقتصادها. فالبنك الدولي يقول ان حجم تجارة السلع بين إسرائيل والعالم يصل الى 34.6 % من ناتجها المحلي الاجمالي المقدر بـ 522 مليار دولار (صادرات السلع من اسرائيل بلغت عام 2022 نحو 73.8 مليار دولار، أما وارداتها من السلع فبلغت 107.2 مليارات دولار).
وتعني نسبة الـ 34.6% ان من بينها عشرات مليارات الدولارات من حجم التجارة الاسرائيلية – الآسيوية على الأقل التي ستتأثر مباشرة بنيران الاشتباك الإقليمي في البحر الاحمر.
وسيضاف انعدام اليقين الإسرائيلي هذا إلى وقائع أخرى، من بينها تراجع المستثمرين عن المخاطرة في إبرام صفقات جديدة، إذ تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن هناك تراجعاً حاداً في حجم رأس المال المستثمر بنسبة 70% خلال تشرين الأول – أكتوبر الماضي، من مليار دولار الى نحو 300 مليون دولار فقط.
نقلة الشطرنج المفاجئة التي قام بها عبدالملك الحوثي تطيح بأحجار عديدة بحركة واحدة. ما من مستثمر عاقل، في ظل التحدي الذي ألقاه الحوثي، سينظر الى اسرائيل باعتبارها مرتكزاً في مشروع «الممر الهندي» مثلا، ولا في ضخ استثمارات في أحلام مشروع «قناة السويس البديلة»، أو مضاعفة شحنات النفط الاماراتي الى الكيان الاسرائيلي عبر «ايلات».
يبقى من المهم، الآن، مراقبة كيف يمكن أن يتطور الاقتحام اليمني لـ«طوفان الاقصى» في ما يتعلق بالحرب على اليمن والتي لم تضع أوزارها رسميا حتى الآن، خصوصا من جانب المملكة السعودية التي تحدثت تقارير غير رسمية عن مشاركتها في التصدي لصواريخ أطلقها اليمنيون باتجاه الكيان الاسرائيلي. ولهذا، فإن السؤال سيكون مشروعا عما إذا كان التدخل الأميركي الفظ في حماية إسرائيل ومحاولة احتواء صواريخ اليمن ومسيّراته المفخخة، والتصدي لقرار «أنصار الله» احتجاز السفن التي تخدم الاقتصاد الاسرائيلي، سيقود الى تجدد العدوان على اليمن نفسه، وما إذا كانت أطرافه، وتحديداً السعودية والإمارات، ستصبح هي الأخرى، عرضة مجددا لصواريخ اليمنيين.
https://new.thecradle.co/articles/how-yemen-is-inflating-israels-war-cost