د.مازن سليم خضور
عند بوابة أوتوستراد المزة الأكبر، ساحة الأمويين يمتد الشارع طويلا، هنا وللوهلة الأولى لن تلاحظ تفاصيل كثيرة، فقط رفاهية ممتدة على طول الأرصفة، يبدو أن للجغرافية هنا امتيازات لا تجدها على كامل شوارع المدينة، امتيازات تتقاسمها المزة مع بعض أحياء وشوارع أخرى.. تكاد تفاصيل الحرب تغيب عنها تماما.
قد يبدو المشهد اعتيادياً قبل أن تحط الرحال راجلاً، تمضي مفتوح العينين، تُكثر الالتفات قليلا مع بعض الخطوات المتسارعة، وما إن تتجاوز أمتاره الأولى حتى تتكون لديك صورة مغايرة عن تلك التي لاحظتها في الخطوات الأولى، المشهد هنا قد يختصر واقع بلاد تشهد منذ سنوات حرباً ضروساً تُخاض فوق شوارع مختلفة لا تشبه وبكل الأحوال أوتوستراد المزة ولا حتى حال ساكنيه.
على جانبي أوتوستراد المزة استطاعت الأبنية المترفة أن تخفي ما وراءها من بؤس العشوائيات وما تفيض به من فقر المكان والحال، بين “المزة 86″ و”بساتين الرازي” سابقاً وصولاً لأكثر البيوت فقراً في محيط “ضاحية السومرية” حيث لا أسقف اسمنتية لمعظم المنازل البدائية ولا حتى أعمدة داعمة، هناك يرسم الفقراء حدود مشاركة المكان حيث تغيب الامتيازات وتتلاشى الرفاهية.. لا شيء هناك يشبه ترف الحال على الجانب الآخر لذات الشارع، وتتجاوز المخالفات والتعديات حدود عشوائيات كانت شرطاً لمشاركة الفقراء امتياز الجغرافية.
عند إكمالك خط المسير قد لا تجد في كثير من الأحيان شغوراً لكامل خطواتك، تزاحمك المواقف المأجورة وغير المأجورة، تنافسها أمتار لمطاعم امتدت فوق الأرصفة دون وجه حق، وسيارات لم يعد يليق بخطى أصحابها ما عُبّدت به هذه الارض.
بين ملتزم بالوقوف خلفها ومتجاوز لها وبكل ألوانها، تمتد الإشارات الضوئية على طول أوتوستراد المزة، ويقف شرطي المرور في معظم الأحيان عاجزاً عن مخالفة من يتجاوزها ويتجاهل وقوفه بجانبها، أصحاب هذه السيارات بالنسبة له بلا ملامح، لا يلحظهم ولا يلاحظوه، ويبدو أن لون نوافذها السوداء “الفيمي” تجاوز حدود النوافذ وغلّف القلوب معها. وتمضي السيارة مسرعة ونحو اتجاهها المعاكس يستدير الشرطي متجاهلاً المشهد حفاظاً على ماء الوجه وإن حالفه الحظ لحظة التفاتته تلك، يحظى بسيارة أجرة “تكسي” أو “سيرفيس” قد خالف أماكن الوقوف طمعاً بأخذ راكب عن الطريق، ليطلق صوت صافرة انذاره معلناً عودة القانون في زمن الحرب.
لا تغيب عجلة الحياة رغم انتشار الفساد ومزاحمة البلطجة، وتمتد البنوك والشركات والجامعات والمشافي دون أن يكون في كل ما سبق أي عائق. وتجد أيضاً بعض الأكشاك و”البسطات” والباعة المتنقلين، لا انتظام في توزع الأدوار هنا.. كلٌ يفترش الحياة وفق استطاعته أو وفق معيار مرور الحرب في دربه.
يستمر مشهد متناقضات الحرب والحياة في زمنها بالاتساع، لكنك تلحظ أن الليل يحمل أكبرها إن لم تغادر المزة قبل غروب الشمس. ففي عمق الصورة تنتشر سيارات حديثة تجاوزت العقوبات المفروضة وقرارات ايقاف الاستيراد، جموعٌ من المواطنين لا خوف يعتلي ملامح وجههم رغم وحشة الليل والوقت المتأخر، ومطاعم مليئة بروادٍ لا يأبهون بأسعارها المرتفعة وإن وصلت لحدود تجاوزت أضعاف ما يجنيه البعض في شهر وأكثر ممن لم يعرفوا عن الجغرافية سوى لعنتها.
الى الأمام قليلا وقبل أن تقترب من نهاية أوتوستراد المزة، تجد برجاً ضخماً غير مكتمل البناء، يقف وحيداً كشاهد على حياة اغتالتها الحرب، فيه من التفاصيل وإن لم تكتمل ما يستطيع القول لك، أنه وعلى هذه الارض كان هناك حركة عمرانية وإن توقفت، لكنها لا بد و ان تعود يوما.
وفي عمق الصورة أيضا، ستجد طفلاً يحمل في ميمنته ورداً للبيع، لا يشبه ذلك الذي كان يقطف قبل أن تعلن الحرب فاجعة قدومها، وآخر نائماً فوق الرصيف، رماه الغفى محاطا “بربطات” خبز لن يعود الى منزله إلا في حال بيعها.
غريبة هي حسابات القدر في زمن الحرب، كيف لطفلين لم يعرفا عن العدل والانصاف شيئاً.. أن يبيعا معاً وعلى ذات الرصيف.. الحب والحياة.