الرئيسية » اراء ودراسات » الصين خارج “سورها العظيم”: ماذا تعني المفاجاة الرائعة؟

الصين خارج “سورها العظيم”: ماذا تعني المفاجاة الرائعة؟

لم تعد الصين مقيدة داخل “سورها العظيم” الذي حماها من الغزوات طوال قرون. وبرغم تبدل نهجها بالانفتاح المتزايد على دول العالم خلال العقود القليلة الماضية، الا ان اهتمامها بمنطقة الشرق الاوسط، التي ترتبط العديد من مصالح دولها تاريخيا، بالقوة العظمى الاولى، اي الولايات المتحدة، هو ما يثير اهتماما استثنائيا.

++++++++++++++++++++++++++

يستعاد هذا المشهد الصيني المتغير، في ظل الاختراق الدبلوماسي الذي حققته بكين برعايتها التسوية السعودية-الايرانية في العاشر من اذار 2023، بعد سنوات من القطيعة والتوتر.. والنيران، بين العاصمتين الاقليميتن الكبيرتين، الرياض وطهران، ما يعني ان المنطقة، والعديد من دول العالم، دخلت في مرحلة الترقب ازاء ما اذا كانت “الصفقة الصينية” ستكتب لها الحياة، او ان العصي ستوضع في عجلاتها، وبالتالي ما اذا كانت الصين ستكون قادرة على حماية “انتصارها” الدبلوماسي.

يفتح هذا التساؤل الباب امام محاولة لرسم صورة لطبيعة حركة الصين بالاجمال، فهي اعادت تفعيل “طريق الحرير” التاريخي بنسخة ملائمة للعصر، وتحاول التسيد في عالم المنافسة التكنولوجية، وخاصة في حروب الجيل الخامس. تكتسب هذه الحركة اثارة استثنائية لان الكثير من هذا التمدد الصيني يجري باتجاه ميادين كان للاميركي الحصة الاكبر فيها، سواء من خلال ريادته العلمية والتكنولوجية التي استمرت طويلا، او من خلال تفوقه العسكري فيما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ثم انهيار الاتحاد السوفياتي، او من خلال حلفائه السياسيين وادواته في الحروب الناعمة في انحاء العالم.

ولهذا، فان الاميركيين يراقبون، وربما بحذر وترقب، هذا المارد الصيني بينما تتسارع خطواته بعد خروجه من قوقعته التاريخية. في غضون اقل من شهر، اطلقت الصين خطة للسلام في اوكرانيا، ثم فاجات العالم، بالاختراق الدبلوماسي بين الرياض وطهران. هذا ليست مجرد مصادفات قدرية عابرة بالنسبة الى واشنطن، خاصة ان الرئيس الصيني شي جين بينغ توجها بزيارة دولة الى موسكو بدعوة من الرئيس فلاديمير بوتين، المنخرط منذ اكثر من عام، بوحول الحرب الاوكرانية، مع الغرب. 

وصحيح ان مياه كثيرة جرت لتفرض انتقال السعودية من التهديد بنقل المعركة الى عقر دار ايران في العام 2017 بعد سنوات من القطيعة.. والصواريخ، ولتقرر طهران ايضا ان من مصلحتها القومية، محاولة اغلاق بعض ملفات الملتهبة مع السعوديين، الا ان الحقيقة الثابتة هي ان الصين كانت هناك في الوقت المناسب تماما من اجل قطف الثمار في لحظة نضوجها الملائمة. 

يعكس الاتفاق السعودي-الايراني، توغلا صينيا عميقا في شجون المنطقة وازماتها، لان الاشتباك الاقليمي بين الرياض وطهران ممتد على عدة جبهات وميادين. حتى الرئيس السوري باشر الاسد عندما علق للمرة الاولى على هذا الاتفاق خلال زيارته الاخيرة الى موسكو، قال انه “خطوة ايجابية ومفاجاة رائعة”، وهو تعبير يستدل منه ان تداعياته على المنطقة عامة، وسوريا بشكل خاص، ستكون كبيرة.

سوريا نفسها، تذوقت “نكهة” الدور الصيني المتصاعد في المنطقة. فما بين عامي 2011 و2017، في عز الحرب في سوريا، وعليها، استخدمت الصين حق النقص “الفيتو” في مجلس الامن الدولي 6 مرات، للتصدي لقرارات تتعارض مع مصالح دمشق. ولفهم معنى ذلك، فانه من المهم الاشارة الى ان الصين لم تستخدم “الفيتو” طوال تاريخ وجودها في مجلس الامن منذ عدة عقود، سوى 13 مرة (بينهم المرات ال6 حول سوريا).

ولم يكن موقف ااصين اعتراضيا فقط فيما يتعلق بالحرب السورية، وهي طرحت في بدايات الازمة رؤيتها الخاصة للحل السوري في العام 2012، ثم طرحت خطة ال5 مبادئ في العام 2014، وخطة رباعية في العام 2021، وهو تتابع تقول الصين من خلاله، انها حاضرة هنا في قلب الازمة ومهتمة بمعالجتها. وتتلاءم افكار هذه الخطط الصينية مع رؤية بكين ومبادئها، والاهم بينها “احترام سيادة سوريا وسلامة اراضيها”، وهي عبارة يمكن نسخها تماما لتعبر فيه عن موقفها من قضيتها الاهم سياديا، اي جزيرة تايوان، المنفصلة عنها.

وفي سياق مواز، تحتل السياسة الخارجية للصين مع الدول العربية، مكانة بارزة في اولويات بكين. ويقول “معهد واشنطن” الاميركي ان الصين تعاملت بانتظام مع دول المنطقة من خلال اليتين: “منتدى التعاون الصيني الافريقي” الذي اجتمع كل ثلاث سنوات منذ اقامته في العام 2000 ويضم جميع دول شمال افريقيا، و”منتدى التعاون الصيني العربي”، الذي اجتمع كل عامين منذ اقامته في العام 2004 ويضم جميع دول الجامعة العربية. وقد ركز “منتدى التعاون الصيني العربي” بصورة اكثر على النزاعات الاقليمية، ولا سيما “السلام” العربي الاسرائيلي، على الرغم من ان المناقشات شملت ايضا صراعات في العراق وليبيا والصومال والسودان وسوريا واليمن، علما بان الصين اوفدت مبعوثا خاصا لها مكلفا قضية الشرق الاوسط منذ العام 2002، وهو منصب يتولاه حاليا الدبلوماسي تشاي جون.

تحاول الصين الالتزام ب”توازن” في علاقاتها مع دول المنطقة، وهي تسعى الى تطويرها مع الدول العربية وايران وتركيا واسرائيل ايضا. وعبرت بكين عن ذلك من خلال “وثيقة سياسة الصين تجاه الدول العربية” التي اعلنته في العام 2016، وحددت فيها مجموعة من المرتكزات والمنطلقات في سياستها الخارجية مع العالم العربي وقضاياه، وركزت على مجال الطاقة كمحور رئيسي الى جانب مشاريع البنى التحتية وتسهيل التجارة والاستثمار والطاقة النووية والفضاء والاقمار الاصطناعية ومجالات الطاقة البديلة والنظيفة. لكن الوثيقة تؤكد ايضا على تعهدات صينية باحترام متبادل للسيادة ووحدة الاراضي، وعدم الاعتداء، وتجنب التدخل في الشؤون الداخلية، والمساواة والمصالح المتبادلة، ومساندة عملية السلام في الشرق الأوسط بدعم اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة الكاملة على حدود العام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وذلك بالاضافة الى حل القضايا الساخنة في المنطقة بطرق سياسية ودعم اقامة منطقة خالية من الاسلحة النووية.

المهم بالنسبة الى الصين ان مثل هذه الوثيقة، وغيرها من التفاهمات والاتفاقيات، ساهمت في رفع مستوى العلاقات التجارية مع العديد من دول المنطقة، بمستويات ليست عادية، تجسدت مثلا في اعمال القمة الصينية-العربية التي استضافتها السعودية في كانون الاول 2022 بحضور الرئيس الصيني شي جين بينغ، فيما قال وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، أن القمة شكلت نقطة انطلاق للعلاقة بين المنطقة والصين.

الحرص الصيني الى معالجة ملفات التوتر التي تؤرق العلاقات السعودية مع ايران، يمكن فهمه ايضا من خلال فكرة ان السعودية وبرغم مراعاتها لعلاقتها مع واشنطن، الا ان ذلك لم يمنعها من السعى لتنويع اقتصادها والانفتاح بشكل اكبر على اسواق جديدة وتحديدا في الصين، فيما يقول مراقبون ان من بين اسبابه البرود في العلاقة مع الادارة الاميركية الحالية، حين كان الرئيس جو بايدن تعهد في حملته الانتخابية بجعل المملكة “دولة منبوذة”، لكنه اتاها زائرا في تموز 2022، متلمسا امكانية استغلال ثقلها النفطي من اجل الحد من تاثيرات الحرب الروسية-الاوكرانية، واغراق الاسواق العالمية بالنفط، لضرب المردود المالي الذي تحققه موسكو بعد ارتفاع الاسعار عالميا بسبب الحرب.

ومن المهم الاشارة ايضا الى دعوة الصين وروسيا الى توسيع اعضاء “مجموعة بريكس”، لكي تكون السعودية جزءا منها، وفي هذا الاطار منحت الرياض صفة “شريك حوار” ضمن منظمة شنغهاي للتعاون، والتي تعد الصين ابرز اركانها. ولا يقتصر التقارب الصيني-السعودي على ذلك، ففي العام 2022، اتخذت شركة “ارامكو” قرارا استثماريا ببناء مصفاة ومجمع للبتروكيماويات بعشرة مليارات دولار في شمال شرق الصين، ما وصف بانه اكبر استثمار منفرد لها في الصين.

كما لا يقتصر الامر على مجال الطاقة، اذ ان السعودية وقعت مع شركة “هواوي” مذكرة تفاهم وبناء مجمعات عالية التقنية في المملكة، علما بان الشركة تفرض عليها واشنطن عقوبات ضمن صراع “الجيل الخامس” في مجال التكنولوجيا مع الصين.

الحرص الصيني على ابرام التفاهم بين الرياض وطهران، يؤكد رؤيتها لهما كمرتكزين اقليميين، وهو يبرز ايضا من خلال ما تظهره الاتفاقيات المبرمة بين بكين وطهران. وتحتل ايران موقعا جغرافيا مهما بالنسبة لخرائط طرق الحرير الجديدة، فهي بوابة العبور البري نحو البلاد العربية وصولا الى سواحل شرقي البحر المتوسط، وهو كما يقول الخبراء، احد اسباب الاهتمام الاميركي بمحاولة تطويق طهران، اي السعي الى قطع الطريق امام تمدد الصين واستكمال مشروعها.

الاتفاق التاريخي بين بكين وطهران كان قد وقع في اذار العام 2021، وهو تعاون شامل بقيمة 400 مليار دولار، وذلك تحت عنوان “برنامج التعاون الشامل بين جمهورية الصين الشعبية والجمهورية الاسلامية الايرانية”، او ما يعرف بمعاهدة الـ 25 عاما، حيث يؤكد الاتفاق على التفاعل الاقتصادي والثقافي بين الطرفين، وهو يدخل ايران بشكل مباشر في “مبادرة الحزام والطريق” الصينية والتي تهدف بكين من خلالها الى بناء شبكة واسعة من مشروعات البنى التحتية الممتدة من شرق اسيا الى اوروبا.

وبذلك، فان الابواب مشرعة امام تعاون الصين مع ايران في المجالات الاقتصادية والصناعية والعسكرية، وضمان استيراد الصين المستمر للنفط الايراني، وتطوير شبكات السكك الحديدية والطرقات السريعة والبرية والبحرية والجوية.

الى ذلك، يراقب الاميركيون ايضا تطور علاقات الصين مع العراق. ففي شباط 2023، اعلن البنك المركزي العراقي، موافقته على استخدام اليوان الصيني كعملة لاستيراد منتجات من الصين، وهو اجراء اتخذته الحكومة بهدف دعم استقرار الدينار العراقي، وتسهيل التعاملات بين البلدين. وفي العام 2018، استوردت الصين 27 % من الحجم الاجمالي للنفط العراقي المصدر، ودفعت 22 مليار دولار من اجمالي 83 مليار دولار من العائدات التي حققها العراق، فيما ارتفعت النسبة الى نحو 44 % في العام 2022، لتحتل الصين بذلك المرتبة الاولى عالميا في استهلاك النفط العراقي. وفي اذار 2023، حصلت ثلاث شركات صينية على عقود نفطية ضمن جولة التراخيص طرحتها بغداد، بينما تجاوز حجم التبادل التجاري بين الصين والعراق 53 مليار دولار خلال العام 2022. ويختصر السفير الصيني لدى بغداد تسوي وي، ما يجري بين بكين وبغداد بالقول ان “العراق يعد بالنسبة الى الصين، اكبر دولة من حيث العقود وثاني شريك من حيث النفط الخام وحجم التبادل التجاري”.

تجري خلال السنوات الماضية الكثير من المقارنات بين طبيعة النفوذ والدور الاميركي في المنطقة والمرتكز بشكل اساسي منه على القواعد العسكرية المنتشرة، وبين التغلغل الصيني في المنطقة ذاتها، وانما من ابواب الاقتصاد والمال والمشاريع الاستثمارية المتبادلة. وبينما تتوسع الصين نحو دول مثل السعودية وايران والعراق وغيرها من دول المنطقة، فان واشنطن توسع الحضور الاميركي في شرق اسيا، وخاصة في الحزام الامني المحيط بشكل مباشر بالصين، بما في ذلك تايوان. وبينما تطلق بكين مبادرة سلام سياسية نحو المستنقع الاوكراني بالدعوة الى التخلي عن عقلية الحرب الباردة، تقوم واشنطن، وحلف “الناتو” بتكثيف امداد كييف بالسلاح. وبينما يذهب شي جين بينغ الى القمة العربية-الصينية، يذهب جو بايدن من بعده الى القمة الاميركية-الافريقية، في محاولة لوقف التمدد الصيني في القارة السمراء حيث وصلت التجارة بين بكين والدول الافريقية في العام 2021 الى اكثر من 254 مليار دولار.

ولهذا، فان السؤال هنا يتعلق بما اذا كان الحضور الصيني المتزايد في الشرق الاوسط سيكون عاملا مساعدا لخلق توازن مع الحضور الاميركي؟ وهل بامكان الحكومات العربية الاستفادة من هذا التنافس لتوسيع خياراتها السياسية والاقتصادية، خارج الفلك الاميركي؟

المنتدى الصيني-العربي

بحسب منتدى التعاون الاقتصادي الصيني العربي، فان حجم التبادل التجاري بين الصين ودول الشرق الاوسط، بلغ حوالي 507 مليار دولار في العام 2022، وانه بعد تسجيل رقم قياسي جديد من النمو بزيادة 35.7٪ في العام 2021، تحافظ التجارة بين الصين ودول الشرق الاوسط على مستواها العالي ونموها السريع. وازداد حجم التبادل التجاري بين الطرفين في العام 2022 الى أربعة اضعاف ما كان عليه قبل 15 عاما.

الصين والخليج

حول التبادل التجاري مع دول الخليج، تشير ارقام البنك الدولي الى انه مع السعودية يبلغ (63 مليار دولار) وهي الشريك الاكبر بين دول مجلس التعاون الخليجي. الامارات ( 46 مليار دولار). سلطنة عمان ( 21 مليار دولار). الكويت ( 18 مليار دولار). قطر ( 12 مليار دولار) البحرين ( 1 مليار دولار).

عن خليل حرب

خليل حرب، صحافي لبناني، مدير تحرير في جريدة "السفير" سابقا. يشغل اليوم منصب رئيس تحرير موقع "جورنال".