الرئيسية » العالم والخليج » عن “هيروشيما الاخرى” التي تحرج دول التطبيع العربي

عن “هيروشيما الاخرى” التي تحرج دول التطبيع العربي

“هيروشيما الاخرى” التي قال ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان انه لا يريد ان يراها، تتحقق بالفعل أمام ناظريه في قطاع غزة منذ أكثر من شهر. قتلت اسرائيل وجرحت أكثر من 40 ألف شخص حتى الان، بينما لم يتراجع الزعيم السعودي عن تصريحه الشهير بان المملكة تقترب يوميا أكثر وأكثر من التطبيع مع إحدى أكثر حكومة اسرائيل تطرفا.

وحتى لا يساء فهم مغزى تصريح الامير بن سلمان، فانه أورده في اطار مقابلة مع قناة “فوكس نيوز” الاميركية، قبل أسبوعين من انفجار عملية “طوفان الاقصى” في 7 أكتوبر/تشرين الاول، ولم يكن يقصد فيه اسرائيل، وانما كان يعلق على سؤال حول مخاطر امتلاك قنبلة نووية، من جانب ايران.  

وصار من الواضح الان، ان “الهيروشيما الاخرى” في غزة والتي أسقط عليها اكثر من 30 ألف طن من المتفجرات (هيروشيما اليابانية الاكبر مساحة من غزة بثلاث مرات، ألقيت عليها قنبلة قوتها 15 الف طن من المتفجرات)، لم تدفع لا السعودية، ولا الدول العربية الخمسة الاخرى التي تمتلك بالفعل معاهدات سلام مع اسرائيل، اي مصر والاردن والامارات والبحرين والمغرب، لا الى تمزيق هذه المعاهدات، ولا حتى التهديد بإلغائها ولو من باب الضغط السياسي لوقف الابادة الجماعية المرتكبة في غزة.

ولطالما قامت الدول العربية التي أبرمت “معاهدات سلام” مع اسرائيل، بالتسويق امام شعوبها بان الصلح مع اسرائيل سيجلب الامن والرخاء والازدهار لها وللمنطقة كلها. ولي العهد السعودي نفسه كان يقول لقناة “فوكس نيوز” في 21 ايلول/ سبتمبر، اي قبل “طوفان الاقصى”، انه “في حال نجحت إدارة (الرئيس الاميركي جو) بايدن بأن تعقد اتفاقا بين السعودية واسرائيل، فسيكون أضخم اتفاق منذ انتهاء الحرب الباردة (1947-1991)، والاتفاقيات المرتقبة مع الولايات المتحدة مفيدة للبلدين ولأمن المنطقة والعالم”.

وباعتقاد الرئيس الاميركي جو بايدن، الراعي الرسمي للعدوان الاسرائيلي، بعد اسبوعين على “طوفان الاقصى”، ان هجوم حركة حماس ، كان من بين أحد أسبابها “هو أنهم كانوا يعلمون انني كنت على وشك الجلوس مع السعوديين” حول مساعي التطبيع، لكن وزير خارجيته أنطوني بلينكن كان أكثر سرعة وصراحة منه، اذ في اليوم التالي لهجوم حماس، قال “لن يكون مفاجئا أن يكون أحد الدوافع (لهجوم حماس) هو تعطيل الجهود الرامية الى الجمع بين السعودية واسرائيل”.

من غير الواضح ما اذا كان هجوم حماس قد تقرر لاهداف من بينها إسقاط مسار التطبيع السعودي-الاسرائيلي، لكن مواقف بايدن وبلينكن تتعمد من جهة تضليل البوصلة عن المظلومية الفلسطينية القائمة في غزة تحديدا منذ احتلالها العام 1967، وتوصل اشارة الى الرياض بان واشنطن لا تزال تضع هذا الهدف بأولوياتها حاليا، خصوصا انها كان من الممكن ان تخدم بايدن، والحزب الديمقراطي انتخابيا في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.

فماذا كان الموقف السعودي؟

لم يخرج موقف رسمي سعودي، لا من ولي العهد ولا من وزارة الخارجية، لكن الرياض تعمدت تسريب خبر عبر “مصادر مطلعة” و”مصدر في الحكومة السعودية” الى وكالة “رويترز” في 13 تشرين الاول، ثم الى وكالة الصحافة الفرنسية في 14 تشرين الاول، اي بعد اسبوع على بدء الغارات الوحشية على غزة، بان السعودية قررت “تجميد” او “تعليق” محادثات التطبيع، وانها ابلغت المسؤولين الاميركيين بذلك.

وعلانية، لم يبدو ان اسرائيل اخذت هذا التهديد الضمني على محمل الجد. اما السعودية فمنذ بيانها الاول في 7 تشرين الاول/أكتوبر، الذي دعت فيه الى “الوقف الفوري للتصعيد من الجانبين وحماية المدنيين وضبط النفس”، انتقلت سريعا من بعده، خصوصا بعد الاتصالات الاميركية من جانب بايدن وبلينكن، الى التشديد على ادانتها لاستهداف “المدنيين” مهما كانوا وتحت اي ذريعة، فيما بدا ارضاء للاميركيين الذين ضغطوا على العواصم الاقليمية من اجل التنديد بمقتل “المدنيين” الاسرائليين في هجوم حماس.

لم تبرم المملكة السعودية اتفاق سلام مع اسرائيل حتى الان، وهي بالتالي يفترض انها متحررة من التزامات ولياقات العلاقات الدبلوماسية بين الحكومات، لكن المثير للتساؤل والاستغراب، الى جانب تكرار لازمة “حماية المدنيين والالتزام بالقانون الانساني الدولي”، لم تتحرك لاستغلال ثقلها السياسي والنفطي المتعارف عليه، من اجل الضغط باتجاه من اجل وقف العدوان على غزة، وانتطرت حتى 30 تشرين الاول/اكتوبر من اجل الاعلان عن قمة عربية “طارئة” في الرياض في 11 تشرين الثاني/نوفمبر.

ويطرح هذا الارتباك، او ما يبدو ترددا، تساؤلات عما اذا كان السعودية، صارت مثلها مثل الدول المطبعة فعليا، بحرجها في التشدد ولو قليلا من اجل الضغط دفاعا عن القضية الفلسطينية، وانها ربما تكون قطعت شوطا طويلا لم تتكشف تفاصيله الى الان في مسار التطبيع، حيث اعلن عن زيارة الى السعودية لكل من وزير السياحة الاسرائيلي حاييم كاتس ووزير الاتصالات الاسرائيلي شلومو كرعي الذي كان مرتاحا لدرجة انه بث فيديو لنفسه وهو يؤدي صلاة العرش اليهودية اثناء وجوده في الرياض، وذلك قبل ايام قليلة من “طوفان الاقصى”.

وقد كانت الامارات العربية المتحدة أكثر سخاء في تعبيراتها. ففي كلمة أمام مجلس الامن الدولي في نيويورك، قالت وزيرة الدولة لشؤون التعاون الدولي ريم الهاشمي “نكرر أن الهجمات التي شنتها حماس في 7 تشرين الاول/أكتوبر هي هجمات بربرية وشنيعة، ونطالبها بالإطلاق الفوري وغير المشروط لسراح الرهائن، لحقن الدماء وتجنيب جميع المدنيين المزيد من الويلات”. لكنها من باب توازن الخطاب الاماراتي، انتقدت ايضا “سياسة العقاب الجماعي الاسرائيلي تجاه قطاع غزة”.

ارتبطت دولة الامارات، مع جارتها البحرين، باتفاقتي سلام مع اسرائيل منذ سبتمبر/أيلول العام 2020، ولم يتأثر وجود السفارة الاسرائيلية في ابوظبي حتى الان، ولم تعمد وزارة الخارجية الاماراتية حتى الى استدعاء السفير الاسرائيلي لديها لتقديم احتجاج او التعبير عن الاستياء مما يجري بحق الفلسطينيين، وهو اجراء دبلوماسي اقل من عادي من جانب الدول، خصوصا ازاء الابادة الحاصلة، لا بل ان وزير الخارجية الاماراتي عبدالله بن زايد اجرى اتصالين بعد يومين على اشتعال المواجهة، بنظيره الاسرائيلي ايلي كوهين وزعيم المعارضة يائير لابيد الذي قال ان الوزير الاماراتي “اعرب عن تضامنه مع اسرائيل، فشكرته على دعمه”.

وبانتظار جلاء المزيد من التفاصيل حول طبيعة الرحلات الجوية السرية التي تحركت بين مطاري بن غوريون في تل ابيب والبطين في ابوظبي، وتكررها منذ بدء العدوان على غزة، وطبيعة حمولتها، فان الموقف الرسمي الاماراتي يبدو بلا التباس: فقد أدانت وزارة الخارجية الاماراتية في 9 تشرين الاول/اكتوبر “الهجمات التي تشنها حركة حماس ضد المدن والقرى الإسرائيلية القريبة من قطاع غزة، والتي تشكل تصعيدا خطيرا وجسيما”.

ومن المعلوم ان مصر كانت أول دولة تتحرك للتطبيع علانية مع اسرائيل في العام 1978 عندما كان الرئيس انور السادات رئيسا، في حين حاولت واشنطن لاحقا فرض مسيرة سلمية جديدة بعد الحرب على العراق في العام 1991، حيث وقعت المملكة الاردنية اتفاقية “وادي عربة” العام 1994 ومنظمة التحرير الفلسطينية الاتفاقية المعروفة باسم “اوسلو” العام 1993.

لكن الكثير من التساؤلات تظل مطروحة حول الاسباب التي دفعت دولا، ليست من دول الطوق المحيطة بفلسطين، وليست في حالة صراع مباشر مع اسرائيل، الى تقديم تنازلات عربية اضافية من اجل ابرام اتفاقيات سلام مع اسرائيل من دون حتى محاولة ربط هذه الخطوات باجبار اسرائيل على ان تقدم للفلسطينيين المزيد من حقوقهم المسلوبة، مثل المملكة المغربية ودولة الامارات ومملكة البحرين خلال عهد الرئيس دونالد ترامب قبل نحو 3 أعوام، في حين ان محادثات السلام بين الفلسطينيين، الطرف الاساسي في الصراع، مع الاسرائيليين كانت معطلة تماما منذ نيسان/ابريل العام 2014 لاسباب متعددة، من بينها ان قطاع غزة مخنوق بالحصار، والضفة الغربية يجري ابتلاعها تدريجيا بالمستوطنات، ما يعني ان خيار “حل الدولتين”، برغم كونه من أدنى الحقوق الفلسطينية لانه يمثل تنازلا عن فلسطين التاريخية، اصبح حبرا على ورق.

وكان من الممكن مثلا الافتراض ان البحرين مثلا، وهي تتمتع بشارع وطني حي، حيث لا يبدو ان العلاقات مع تل ابيب تلقى قبولا شعبيا، قد تلجأ الى استغلال الورقة الدبلوماسية لمحاولة الضغط على اسرائيل، لكنها انتظرت حتى 2 تشرين الثاني/نوفمبر، لتعلن من خلال مجلس النواب “وقف” العلاقات الاقتصادية، ومغادرة السفير الاسرائيلي المنامة وعودة السفير البحريني من تل ابيب. وطرح هذا الاعلان الكثير من الشكوك، خصوصا انه لم يصدر عن وزارة الخارجية البحرينية المعنية بشكل مباشر بمثل هذا التطور، خصوصا ان وزراة الخارجية الاسرائيلية علقت على هذا الاعلان بالقول “نود التوضيح أنه لم يصلنا أي إعلان أو قرار من حكومة البحرين”.

اما الاردن الذي كان شارعه يغلي غضبا ازاء الابادة التي تطال الفلسطينيين، وفيها شريحة مواطنين كبيرة من اصول فلسطينية، فقد انشغل في الايام الاولى من العدوان على على غزة، بالتنسيق مع مصر، والتحذير من محاولات تهجير فلسطيني الضفة الغربية الى اراضيها، بينما كانت القاهرة – وما تزال- متخوفة من مشروع لتهجير فلسطيني غزة الى مصر. لكن في الاول من تشرين الثاني/نوفمبر، اعلنت وزارة الخارجية الاردنية ان وزير الخارجية ايمن الصفدي “قرر استدعاء السفير الأردني في إسرائيل (غسان المجالي) إلى الأردن فوراً”، كما وجه وزارة الخارجية “بإبلاغ وزارة الخارجية الإسرائيلية بعدم إعادة سفيرها (روجيل بن موشيه راحمان) الذي كان غادر المملكة سابقاً”.

والاردن في حالة حرج بالفعل، لكنه ايضا يستشعر الخطر أكثر من غيره، خصوصا ان الهجمة الهمجية لاسرائيل على غزة، تترافق أيضا مع اطلاق العنان لجنود الاحتلال والمستوطنين المسلحين للتنكيل بفلسطينيي الضفة، ما يحيي المخاوف الاردنية الدائمة، بان الهدف النهائي لاسرائيل هو “تطهير” الضفة من اهلها الاصليين، وضمها الى الدولة اليهودية المزعومة. واضطر رئيس الوزراء الاردني بشر الخصاونة في 6 تشرين الثاني/ نوفمبر الى القول صراحة ان محاولة لتهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية -او غزة- هي خط أحمر، وسيعتبرها الاردن بمثابة اعلان حرب.

وبخلاف بيانات الادانة للحرب وانتقاد تقاعس الغرب عن التدخل والتأكيد على التمسك ب”حل الدولتين” في فلسطين، فان المملكة المغربية المرتبطة باتفاق تطبيع منذ العام 2020، لم تبادر الى تحرك فاعل يذكر، بالرغم من ان الملك محمد السادسن هو رئيس ما يسمى “لجنة القدس” القائمة منذ العام 1975 بقرار من منظمة المؤتمر الاسلامي، والتي تتخذ من الرباط مقرا لها.

اسئلة كثيرة ستظل مطروحة حول سلوك واداء الدول التي ترتبط -او تتحرك للارتباط -بعلاقات مع اسرائيل في ظل حربها على الفلسطينيين، لكن هذا الاداء المتراوح ما بين الارتباك والتردد والخفة، تمظهر بكثير من الاشكال والمواقف بما في ذلك مثلا بمضي السعودية، وهي بلاد الحرمين الشريفين بالنسبة لمئات ملايين المسلمين، قدما بافتتاح “موسم الرياض” الترفيهي، برغم المذبحة الجارية في غزة، وهو ما اثار انتقادات العديد من الناشطين العرب والمسلمين وحتى السعوديين على وسائل التواصل الاجتماعي.

ومن غير الواضح ما اذا كانت السعودية، وغيرها من الدول العربية وحتى تلك التي تتمتع بعلاقات مع حكومة بنيامين نتنياهو، ستحاول التعويض عن اخفاقاتها السياسية والشعبية، طالما ان سراب “الهيروشيما الاخرى” التي كان يتخوف منها ولي العهد السعودي ايرانيا، صارت هاجسا ممكنا وانما في غزة بعدما لوح بها الوزير الاسرائيلي عميحاي الياهو، وينفذها بالتدرج بنيامين نتنياهو.

https://new.thecradle.co/articles/arab-normalizers-turn-their-cheek-as-another-hiroshima-unfolds-in-gaza

عن خليل حرب

خليل حرب، صحافي لبناني، مدير تحرير في جريدة "السفير" سابقا. يشغل اليوم منصب رئيس تحرير موقع "جورنال".