الرئيسية » اراء ودراسات » نصري الصايغ : قلعة “السفير” كانت حاجة وطلال كان متعددا

نصري الصايغ : قلعة “السفير” كانت حاجة وطلال كان متعددا

اثرى الاستاذ طلال سلمان الصحافة اللبنانية والعربية طوال نحو 60 سنة وخلال اكثر من 40 سنة من عمر جريدة “السفير” التي ما ان اطلقها في العام 1974 حتى فرضت حضورها المهني والسياسي والاجتماعي والثقافي في اليوميات اللبنانية والعربية، وشكلت ظاهرة مهنية استثنائية، او بالاحرى، حالة فريدة في مهنة المتاعب.

وليس من السهل الاحاطة بشخصية الاستاذ طلال ولا بامكاناته المهنية وهو الذي جعل من “السفير” بمثابة جامعة خرجت اجيالا من الكتاب والصحافيين، واستقطبتهم من مشارق الارض ومغاربها، وحولها ايضا الى منتدى لبناني وعربي للنقاش والحوار والاختلاف، واحيانا كثيرة بما قد يبدو لكثيرين انه متباين ومتعارض مع مبادئ ومعتقدات الجريدة واهدافها الكبرى، وهو ما يدل على قدرة الاستاذ طلال على التعامل مع الراي الاخر ومحاورته، بما لا يفسد في الود قضية.

لكن احلامه الخاصة والمعلنة كانت واضحة بان يكون “صوت الذين لا صوت لهم”. ليس مهما ان كنت فلاحا مقاوما في فيتنام، او مناضلا جزائريا ضد الاستعمار، او مثقفا عربيا تنشد ازدهار وطنك المقموع. وليس مهما ان كنت لبنانيا لاي طائفة انتميت، طالما انك تريد لصوتك ان يصل، وطالما ان احلامك، مثل “السفير”، واضحة بحق الفقراء بالخبز والمحرومين بالتعليم والمزارعين بارضهم وحصادهم. وفي كل ذلك، كانت فلسطين ايضا الحلم الدائم لطلال سلمان، لا كقضية سياسية صغيرة فقط، وانما كقضية انسانية اولا وعربية ثانيا.

مجلة الامن العام تحدثت الى الكاتب والصحافي نصري الصايغ، استاذ الفلسفة والحضارة، الذي لازم الاستاذ سلمان في مراحل عديدة من مسيرته، وخصوصا في السنوات الاخيرة، وتولى في “السفير” منصب نائب رئيس التحرير، وعمل لسنوات ما بين بيروت وباريس، وله مؤلفات عديدة من بينها “لست لبنانيا بعد” و”بولينغ في بغداد” و”مصارع الاستبداد” و”الخراب:يوميات شارع في بيروت”، وحاول رسم صورة للاستاذ طلال ولدور “السفير”.

+كيف تصف طبيعة العلاقة (مهنيا وشخصيا) بينك وبين الاستاذ طلال؟

-باختصار شديد، صعب جدا ان تعرف طبيعة العلاقة. هناك دائما علاقات مختلفة، مهنيا وشخصيا. أولى العلاقات تتأسس على فهم مزدوج. هناك ما يقوله وينفذه ويقترحه، وهناك ما يصمت عليه. صمته صعب، وصمته واسع، وكان عليّ ان افهم صمته واعالجه. خاصة في ما يتعلق بالمسؤوليين والكتاب والصحافيين في الجريدة. كان عليّ ان افهم لاعرف. نجحت احيانا، وصمت احيانا. شخصيته مبنية على مهنية وعمل وقلق وديمومة لا يتعب. يتابع ، محافظ دقيق ومنفتح باتساع الافق. سكونه وسكوته مقلق، وكان عليّ بحكم علاقتي به، ان اوكل نفسي مهمات ليست لي.

هذا على المستوى الشخصي لأن شخصيته كتلة متراصة بشدة، ومنفتحة كذلك، وهذا يقوده الى قلق المعرفة اليومية، وقلق المصائر التيتوالت وانتهت الى الانغلاق العربي، والفوضى وانتصار العداوة على القضايا. لذا، طلال سلمان، لم يكن واحدا كان متعددا.

علاقتي به، علاقة مبنية على انجاز الامور العادية واليومية، لها صعوباتها وتساهلها. الامور المهنية يتقنها ويطابق بها غير ان من صفاته الكتمان. لا يفصح الا نادرا، تطلب منه ان يقول، يتذمر بصمت، كما ينوح بصمت. كنت اشعر انه يحملني مسؤولية من دون ان يطلبها. شخصيته المتينة تحصنه جيدا.

ثم، اخيرا بيني وبينه علاقة افق وللاسف خاف عليه وعلينا فاختنقت “السفير”.

+اذا اردنا ان نضع صورة تحدد شخصية الاستاذ طلال، كيف ترسمها؟

-لا اعرف له شبيها. طلال يشبه طلال. نموذج خاص يحمل تراثه ويتقدم به. يغامر ويسهر على مغامرته لا يسال الا قليلا عن امس سياسي. يتطلع الى امل ما. وعندما انهارت الامال، وارتفعت الاسوار، وحفرت الخنادق، شعر ان عليه ان يغامر بالمستحيل، اي البقاء على منبر الصحافة.

وجهه يفسر فرحه ومعاناته. فرحه سهل ومعاناته جليلة. اجتاز مصاعب وتخطى اخطارا ومحاولات الاغتيال، واحراق “السفير”، و….و…  تعديات الانظمة في الداخل والخارج، جعلته اكثر صلابة وايمانا. كانت “السفير” المستهدفة بارادة البقاء وشجاعة الكلام والمواقف من دون استفزاز. هول العواصف العربية جعله يداري الرياح الاتية. فاز اخيرا. لكم كان قويا بصمت وحكمة ودأب.

انه المجازف، المثابر، المترهبن للصحافة. هو كذلك مذ كان فتى وظل على هذا النهج من الترهبن، حتى بلغ الخاتمة المأساوية: اقفال “السفير”. شيء مات يومذاك….. ثم كانت النهاية.

+كيف برايك تمكن الاستاذ طلال من اقامة هذه “الامبراطورية” ان صح التعبير في ميدان الصحافة والاعلام؟ وهل جعلها “ضرورة” ثابتة؟

-لم اعرف في مسيرتي، عنادا كعناده. كان يتقدم ولا يتراجع. بدا مشروع “السفير” من طموح ببناء قلعة، وليس بفتح جريدة عادية. ذلك الزمن، كان زمن الصعود العربي ولقد كان هشا الا عنده. سبب نجاحه في بناء جديد، خلو الساحة في صحافة تتحدى الواقع، وتتطلع الى افق. كانت القومية تستعيد بعض حضورها من بقايا الهزائم العربية. المدى الاعلامي مفتوح على غرب ينطق بالعربية، وعلى رجعية تحول الانحرافات السياسية. جمعت “السفير” في بداياتها، عمالقة سياسة وفكر وادب وشعر واقتصاد. لغة جديدة، افق جديد، جراة نادرة: القومية تواجه التجزئة والتنازل والانحراف.

المرحلة كانت بحاجة الى من يستعيد القضايا وتاسيس تيارات او لملمة اطيافها. وهكذا كان . لم تعد جريدة طلال سلمان مشروع شخص، بل مشروع امة، مشروع فلسطين، مشروع مضاد لامبريالية، لغرب، ولعالم متوحش.

“السفير”، كانت فعل انتماء، والقراء كانوا تيارا. اما الكتاب، فقد فازوا بمرتبة وتحصنوا بجريدة مختلفة. لم تكن صحيفة حزب او نظام او دولة. كانت جريدة قراء وقضايا… حصّن الصحيفة بشعار جميل، بهدف واسع جند له كتابا تخطوا الحدود الكيانية. بسرعة شقت طريقها.

غريب ولدت كبيرة ومتالقة ومنافسة. من لا شيء …. الى ساحات للقول والكتابة. التزمت بحرفية مهنية متقدمة وجديدة، وفيها وحولها، اقام من ينتمون الى الالتزام بوعي وافق.

“السفير” ولدت شابة وظلت كذلك، الى ان حانت ساعة الوداع المؤلمة.

+كيف ساهم الاستاذ طلال بتغيير قواعد المهنة مع انطلاق “السفير” وكيف رفع سقف التحدي المهني، على مدار العقود الاربعة الماضية؟

-ولدت “السفير” لتلعب دورا سياسيا واجتماعيا وادبيا وفنيا. ولدت في زمن ما بعد الانهيارات . كانت ولادة مضادة لوقائع الهزائم. كان عليها ان تكون مختلفة وغير عادية. عملة النجاح، ليست مالية بل بالمواقف والاداء والانفتاح والجراة والجدة والجديد. من كانوا معه وحوله، شهدوا ولادة صحيفة مختلفة غير عادية. كان واضحا ان امامها تحديات داخلية داخلية واقليمية وسياسية.

كان مؤسس “السفير” امام مهمة صعبة ان يخرج عن التقليد بتاسيس نهج جديد. يتمتع بحيوية وحرفية تلبيه لغايه سياسية تحديثية وابداعية.

اول من شعر بالتحدي، كان صاحب صحيفة “النهار” التقيا. تحادثا. كانت “النهار” في الطليعة. الصحف الاخرى موجودة، بلا منافسة لها. “السفير” اشعرت “النهار” ان المنافس الجديد جدي جدا وكان ظن غسان التويني في محله. “النهار” لها عالمها وقراؤها، و”السفير” بسرعة حازت على جمهور لبناني وعربي واسع. لم تعد “النهار” وحيدة وهناك من ينافسها.

فاز طلال سلمان ومن معه ومن حوله من صحافيين وكتاب كبار وعمالقة الادب والفن. اضحت “السفير” محجة اعلامية وصوت الذين لا صوت لهم.

كانت مغامرة طلال سلمان ناجحة، انها تشبه المعجرة لانها ولدت بكرا وكبرت بسرعة الصحف الاخرى، لها تراث مزمن.

“السفير” اولها كان طلال سلمان وظلت كذلك الى يوم الوداع.

+ما هي ملامح الفوارق الابرز ما بين ظروف نشاة “السفير” (لبنانيا واقليميا) وبين الظروف التي رافقت اغلاقها؟ 

-كان زمن بدايات السبعينات مفتوحا على افق لا بد من نسجه. كانت الامة انذاك تتشقق وتتمزق. حروب الامة خاسرة. الشعوب مقيدة. الغرب يغرز اظافره ويستثمر في الخسائر العربية. كان هناك تحديات لبنانية، فلسطينية، عربية ودولية. كان لبنان والمنطقة على فم الهاوية.

جاءت “السفير” ورفعت التحدي، التم حولها ومعها عدد من الكتاب والمفكرين والصحافيين اللبنانيين والعرب. “السفير” لم تكن “لبنانية” كانت عربية عروبية في لبنان. اذا الزمن كان زمن رعاية الامل ودعم الفعل. فلسطين اولوية. لبنان ينشطر. العرب في بحر من القراصنة. “السفير” خاضت الزمن بلهفة المستقبل. بالنظر الى تحقيق الامل. كان الامل الجديد…. ثم، كان العاملون معه ينتمون الى المستقبل. اذا كان الغد افقا، الى ان انطفا  الافق العربي بكامله، وخاض لبنان في دمه.

كانت “السفير” ، سفير امل من قبل. ثم صارت “السفير” وتعيش زمن الياس السياسي. تم اعدام “العربي”. صار العرب اعدادا واعداءا. اما لبنان فقد خرج من حروبه مهترئا. ثم فازت التقنية على الحبر…. وكانت النهاية.

مؤلفات طلال سلمان:

مع فتح والفدائيين (دار العودة 1969).
 ثرثرة فوق بحيرة ليمان (1984).
إلى أميرة اسمها بيروت (1985).
 حجر يثقب ليل الهزيمة (1992).
 الهزيمة ليست قدراً (1995).
على الطريق.. عن الديمقراطية والعروبة والإسلام (2000).
هوامش في الثقافة والأدب (2001).
 سقوط النظام العربي من فلسطين إلى العراق (2004).
هوامش في الثقافة والأدب والحب (2009).
 لبنان العرب والعروبة (2009).
 كتابة على جدار الصحافة (2012).
 مع الشروق (2012).
 هوامش في الثقافة والأدب والحب (2014).
 مع الشروق (2014).

https://www.general-security.gov.lb/uploads/articles/23121.pdf

عن خليل حرب

خليل حرب، صحافي لبناني، مدير تحرير في جريدة "السفير" سابقا. يشغل اليوم منصب رئيس تحرير موقع "جورنال".