اللقاءان الخماسيان حول لبنان، في باريس ثم في الدوحة، خرجا بخفي حنين، اذ ان المياه السياسية الراكدة نسبيا منذ نهاية تشرين الاول 2022، لم تتحرك داخليا، برغم العواصف والتحولات الاقليمية والدولية، لا بل ان اللقاء في العاصمة القطرية، اتخذ منحى جديدا تمثل بالتلويح ب”تطبيق تدابير” بحق المعرقلين للحل في لبنان.
خليل حرب
+++++++++++++++++++++++++
ولا تزال فرنسا تبدو كانها تقود الحراك الخماسي الذي يضم ايضا الولايات المتحدة والسعودية وقطر ومصر، من دون ان تتضح معالم محددة للحل اللبناني العتيد، خارج العموميات المعلن عنها، في حين ان السعودية عند موقفها القائل بانه لا مبادرة لديها لدعم هذا او ذاك من الاسماء المطروحة لتولي رئاسة الجمهورية، ولا تتدخل في اسماء المرشحين، وبانها على مسافة واحدة من الجميع.
ومنذ انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون قبل نحو 9 شهور، لم يتمكن ان فريق سياسي من حشد ما يكفي من الدعم داخل مجلس النواب لحسم اسم الرئيس الجديد على الرغم من اجتماع النواب 12 مرة، وتاكيدات مختلف القوى “حرصها” على الوصول الى نهاية سريعة وامنة لملف الرئيس، وما يرتبط به من ملفات مصيرية، سواء فيما يتعلق بقيام حكومة جديدة او اختيار حاكم جديد للمصرف المركزي وقيادة الجيش، وغيرها من المسائل والملفات المتداخلة والشائكة.
كما لم يثمر التلاقي السعودي-الايراني المبشر منذ اذار الماضي، انفراجا لبنانيا حتى الان مثلما راهن كثيرون، في وقت تبدو الولايات المتحدة منهمكة في حربها الاوكرانية على المستوى الدولي، واغراق روسيا في مستنقع الحرب المستمرة منذ 18 شهرا، ومنشغلة اقليميا بمحاصرة “دولارات” ايران والعراق وسوريا، وفرض العقوبات المتنوعة على الدول الثلاث، بينما تبدو الازمة اللبنانية خارج “رادار” الاهتمامات العاجلة في الوقت الحالي.
وعلى هذا الاساس، تراوح الازمة اللبنانية بالعجز كما يبدو عن ابتكار المخارج والحلول اللازمة للمضي قدما بالبلاد المطوقة بسلسلة لامتناهية من التعقيدات والمصاعب، ما يثير تساؤلات جدية بين اللبنانيين، في ظل هذه المراوحة المؤذية، حول استقرار الكيان وقدرتهم على التطلع الى مستقبلهم ومستقبل ابنائهم.
وفي ظل غياب الاهتمام الدولي والاقليمي، فان فرنسا تبدو الاكثر حماسة، لكنه حراك لم يحقق ثمارا حتى الان، ناهيك عن ان الاجتماع الخماسي في الدوحة في 17 تموز 2023، خرج بنبرة جديدة تتمثل في التوليح بمعاقبة من يراهم المجتمعون، على انهم معرقلون لمسيرة الحل المامولة لبنانيا.
فالبيان الختامي الصادر عن ممثلي الدول الخمسة، يقول ان اجتماع الدوحة كان من اجل “مناقشة الضرورة الملحة المتمثلة في انتخاب القادة اللبنانيين رئيسا جديدا للجمهورية بسرعة وتنفيذ الاصلاحات الاقتصادية الموجبة لتحمل مسؤولياتهم تجاه مواطنيهم. ويرتهن انقاذ الاقتصاد اللبناني وضمان مستقبل اكثر ازدهارا للبنانيين باعمال هؤلاء القادة”. ويتابع البيان “اشار الممثلون بقلق، وبعد التشديد على حرصهم على سيادة لبنان واستقلاله، الى ان المسؤولين السياسيين اللبنانيين لم ينتخبوا خلفا للرئيس ميشال عون بعد مرور تسعة اشهر على نهاية عهده تقريبا. ويجدر بالنواب اللبنانيين تحمل المسؤولية بموجب الدستور وانتخاب رئيس. ونظر الممثلون في الخيارات العملية فيما يخص تطبيق تدابير بحق الذين يعرقلون احراز اي وجه من اوجه التقدم على هذا الصعيد”.
صحيح ان البيان لم يتطرق الى طبيعة هذه “التدابير”، الا انه من الواضح انه اشارة صريحة الى امكانية ملاحقة “المعرقلين” بحسب مفهوم المجتمعين، بالعقوبات، وهو ما يطرح تساؤلات جديدة عما اذا كان المجتمعون يمتلكون مثل هذا التفويض، وما اذا كانوا مخولين تصنيف المتهمين برايهم، بالمسؤولية عن التاخير، في وقت تتباين مواقف واراء اطراف المجموعة الخماسية بنظرتها وتعاملها مع القوى والاحزاب اللبنانية.
لكن من المهم الاشارة الى ان فرنسا، وان كانت تجد لديها ما يشبه الشرعية للتدخل في لبنان، بحكم العلاقات القديمة مع هذا البلد، فانها في الوقت نفسه، وربما الاكثر اهمية بالنسية اليها، متابعة محاولات حشد المكاسب الاقتصادية، لا في لبنان فقط، وانما في المنطقة، ذلك ان الحركة الفرنسية تاخذ بالتاكيد بحساباتها، الصفقة التي ابرمتها للتو مع العراق بقيمة 27 مليار دولار في مجال الطاقة، ودخلت فيها شراكة مع القطريين والسعوديين.
ففي خلفية مشهد الحركة الفرنسية لبنانيا ايضا، ادراك باريس ان صفقة “توتال اينرجي” تمت مع حكومة محمد شياع السوداني الذي يتراس ائتلافيا وزاريا، يضم قوى “الاطار التنسيقي”، الحاضنة التي تجمع من يصفهم الاعلام الفرنسي-والغربي عموما- بانهم اقوى حلفاء ايران في بغداد، ما يعني ان الصفقة سارت في طريقها بضمانات صريحة منهم، وبالتالي فان باريس برغم فتور علاقاتها المعلنة مع طهران، لن تتحرك في الاقليم الاوسع، بخيارات صدامية مع الايرانيين، ولا مع حلفائهم.
ولهذا، يرتدي المبعوث الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان رداء الوسيط وهو يحط في لبنان بعدما كان اتهم قبل عامين، مسؤوليه بـ”قيادة البلد الى الموت”، واصفا لبنان بانهه “سفينة تايتانيك من دون الاوركسترا”، وهو يظهر الان حرصا مشتركا مع ممثلي واشنطن والقاهرة والرياض والدوحة، ليقولوا في البيان “لا بد للبرلمان اللبناني ان ينتخب رئيسا قادرا على تجسيد نزاهة لبنان وتوحيد الشعب اللبناني ووضع مصلحة البلاد اولا وجعل رفاه الشعب اولوية وتاليف كتلة واسعة تنفع اكبر عدد ممكن بغية تنفيذ الاصلاحات الاقتصادية الجوهرية ولا سيما تلك التي اوصى بها صندوق النقد الدولي وذلك من اجل تحقيق طموح الشعب اللبناني وتلبية احتياجاتهم الملحة. وتستعد البلدان الخمسة للعمل مع لبنان من اجل دعم تنفيذ تدابير الاصلاحات هذه اللازمة لتحقيق الازدهار والاستقرار والامن في البلاد. كما يشدد ممثلو هذه البلدان على الحاجة الماسة الى اصلاح النظام القضائي والامتثال لسيادة القانون ولا سيما فيما يخص التحقيق بشان انفجار مرفأ بيروت، ويحثون القادة والاحزاب على اتخاذ تدابير فورية من اجل الخروج من المازق السياسي الحالي”.
وفي هذا الاطار، جاءت زيارة لودريان في حزيران الماضي، بعدما كان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون عينه في السابع من حزيران مبعوثا خاصا للبنان لانهاء ازمة الشغور الرئاسي وتسريع انتخاب الرئيس، في مهمة تبدو حتى الان صعبة جراء الانقسامات السياسية المزمنة، حيث التقى رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي ورئيس مجلس النواب نبيه بري والبطريرك بشارة الراعي ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل والوزير السابق سليمان فرنجية، لكنه قال خلالها “لا احمل اي خيار، بل ساستمع للجميع.. وان الحل يبدا من اللبنانيين”.
وكما كان متوقعا، لم تحقق الزيارة التي بدت ك”مهمة مستحيلة” اختراقا سياسيا يذكر، وبدت، وهي الاولى له بصفته مبعوثا خاصا، مجرد مهمة “استطلاعية”، لتحديد مخارج لملفات الرئاسة والحكومة والمصرف المركزي والجيش، اخذا بعين الاعتبار ان حزب الله متمسك بترشيح فرنجية، وهو موقف كما تقول مصادر، ليس بامكان باريس ولا الاطراف الاربعة الاخرى في اللقاء الخماسي، تخطيه بسهولة والمجازفة لاحقا بانسداد سياسي جديد في البلاد ويدخلها فيما يشبه التعثر الطويل الذي ساد اكثر من عامين الى ان جرى انتخاب عون رئيسا للجمهورية في العام 2016.
لكن التعثر القائم حاليا يبدو بالنسبة الى العديد من اللبنانيين، انه لا يولي الاهمية اللازمة الى ان ظروف ال2016، تختلف جذريا عن اوضاع ال2023 بعدما دخلت البلاد في اسوا ازمة اقتصادية -معيشية في تاريخها الحديث، والتي وصفها البنك الدولي بانها من بين الاسوا على مستوى العالم منذ العام 1850.
ولا يزال كثيرون يحاولون تحديد المدى الذي وصلت اليه السعودية في “غسل يديها” من لبنان، خصوصا ان زيارة لودريان الى بيروت، جاءت بعد ايام على اللقاء الذي جمع ماكرون بولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان، الذي سربت مصادره خلال العامين الماضين، انه مستاء لان الرياض ضخت عشرات مليارات الدولارات في لبنان خلال العقود الثلاثة الماضية، لكنها لم تحقق ما كانت تراهن عليه من حضور فاعل. ومع ذلك، فانه بالنسبة الى المراقبين يبدو الموقف السعودي ملتبسا لانه من الواضح ان موقفا سعوديا واضحا يتعلق بالخيارات الرئاسية، من شانه ان يساهم في حسم هذا الملف خاصة في حال جاء منسجما مع مناخات المصالحة التي رعتها الصين، بينها وبين ايران والتي لا يزال لبنانيون كثر، بانتظار رؤية نتائجها عندهم.
وبكل الاحوال، فان زيارة لودريان الثانية الى بيروت في 25 تموز، لم تكن مختلفة كثيرا عن الاولى، وربما تكمن اهميتها انها جاءت بعد ايام على اللقاء الخماسي في الدوحة الذي حمل الانذار المبطن، فيما كان من اللافت ايضا تصريح صادر عن مكتب الرئيس بري يقول فيه “يمكننا القول ان كوة في جدار الملف الرئاسي قد فتحت”. وتحدثت مصادر ان تقدما رمزيا تحقق من خلال الطرح الفرنسي المتمثل بالعمل من اجل اطلاق طاولة عمل، بدلا من طاولة الحوار، على ان يعيد اللقاء مع القيادات اللبنانية في ايلول المقبل على امل ان تكون لائحة مواصفات الرئيس المراهن عليه، وتفاصيل برنامج ولايته، قد تبلورت بشكل او باخر، فيما تبنى عملية البحث عن هذه الشخصية بناء على ذلك، من دون ان تكون هناك اية ضمانات بان هذه النهج سينتج تسوية لبنانية فعليا.
ونقلت مصادر بعض الاجواء التهويلية التي حملها لودريان الى بيروت وحديثه عن فرصة اخيرة امام لبنان، كما لاحظت اشارته الى مصطلحي “المواصفات” و”البرناج”، وهما تعبيران يكاد السفير السعودي وليد بخاري، يكررهما في اي تصريح اعلامي له، او امام زواره، ما قد يشير الى ان باريس تحاول الاقتراب اكثر من المقاربة السعودية للملف.
وكان لقاء باريس الخماسي في 6 شباط 2023، قد بحث الوضع في لبنان، سياسيا، امنياً، اقتصاديا، واجتماعيا، وكان تاكيد من المشاركين على اهمية انتخاب رئيس للجمهورية باسرع وقت ممكن، وتشكيل حكومة جديدة تقوم بالاصلاحات التي يطلبها صندوق النقد الدولي لتقديم الدعم المالي اللازم، والتي تترافق ايضا مع تشريعات مالية مطلوبة من البرلمان. كما جرى التشديد على اهمية دعم الجيش والقوى الامنية للحفاظ على الاستقرار.
ومهما يكن، فان هذه اللقاءات سواء تلك التي جرت في باريس او الدوحة، والحركة الفرنسية في بيروت -وغيرها- تطرح تساؤلات حقيقية عما اذا كان اللبنانيون عاجزون فعلا عن انتاج تسويات محلية لازماتهم، وما اذا كان متعذرا عليهم للمفارقة، ان ينجحوا صيغة “لبننة الازمة اللبنانية”، بدلا من ان يكون لزاما على لبنان انتظار الحلول السحرية من الخارج، وتفاهمات الدول الاقليمة والدولية، فيما يقبع هو على مقاعد الانتظار الطويلة.
الحل الفرنسي؟
قبل ايام من اللقاء الخماسي في باريس، طرحت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا في مقابلة صحافية “خريطة طريق” لانقاذ لبنان من “النظام المفلس” القائم، عناصرها على التالي كما قالت: انتخاب رئيس يجمع، ووصول حكومة تعمل لمصلحة البلد، ووضع الاصلاحات (المطلوبة) موضع التنفيذ، ما يتيح لصندوق النقد التدخل”.