الرئيسية » العالم والخليج » عن تاريخ لا يغتفر بين الهند وباكستان

عن تاريخ لا يغتفر بين الهند وباكستان


لاحت لايام بوادر حرب شاملة بين دولتين نوويتين، الهند وباكستان.  واذا كان الانفجار الكبير لم يقع، الا ان طبيعة الصراع بين الدولتين، بخلفياته التاريخية والدينية والدموية، تثير دوما المخاوف من انتشار نيرانه في جنوب شرق اسيا، وتهديد حياة مئات الملايين من البشر. ما تركته الامبراطورية البريطانية هناك، سيظل دوما يؤرق العالم. 

خليل حرب

+++++++++++++++++++

يحكى ان مسار العلاقات بين الهند وباكستان لم يشهد يوما من السلام الكامل منذ ان رسم الاستعمار البريطاني خطوط التقسيم في العام 1947. المحامي البريطاني سيريل رادكليف كلف بتقسيم الهند عندما كان عدد سكانها 400 مليون انسان، خلال خمسة اسابيع فقط.

اكبر نزوح بشري عرفه التاريخ حصل. اكثر من عشرة ملايين انسان تحركوا عبر شبه القارة الهندية وقتها، للجوء هربا من الجحيم الديني المشتعل. اكثر من مليون انسان قتلوا في المذابح وعمليات الانتقام الجماعية، ما ان ارتسمت خطوط الحدود الجديدة.

غرقت احلام المهاتما غاندي السلمية وسط شلالات الدم والكراهية المتدفقة. ثلاثة حروب كبرى وقعت بين الدولتين. وحرب مصغرة وقعت في جبال كارغيل في العام 1999. المناوشات في الجبال لا تتوقف سواء بالقصف او بتبادل النار بالاسلحة الرشاشة. حتى ان الاعلام نادرا ما يرصدها او يتابعها. انها روتين القطيعة التاريخية بين الجارين اللدودين، الهندوسي والاسلامي.

TOPSHOT – Pakistani Rangers (black) and Indian Border Security Force personnel (brown) perform perform during the daily beating of the retreat ceremony at the India-Pakistan Wagah Border Post, some 35kms west of Amritsar on August 14, 2017. Pakistan celebrates its independence on August 14, one day before India’s independence day on August 15. / AFP PHOTO / NARINDER NANU

لكن في اي من الحروب التي وقعت لم يستخدم السلاح النووي. ولهذا عندما اشتعل التوتر في شباط 2019، ثارت المخاوف بان الجارين الغاضبين من نيران كشمير التي لم تتوقف منذ عشرات السنين، قد يبادر احدهما الى اخراج السلاح النووي من جعبته العسكرية.

لكن ذلك لم يحدث. اظهر الطرفان السياسيان الحاكمان في نيودلهي واسلام اباد، ضبطا لافتا للنفس ازاء احتمالات التصعيد. فما الذي جرى؟  

في 14 شباط 2019، وقعت عملية انتحارية يعتقد ان تنظيم ما يسمى “جيش محمد” الذي تحتضنه باكستان، نفذها، اوقعت اكثر من 40 من قوات الامن الهندية في ولاية كشمير المتنازع عليها بين الهند وباكستان. للتنظيم سجل دموي حافل في المواجهة مع الهند منذ تسعينات القرن الماضي.

بعدها بنحو عشرة ايام، وتحديدا في 26 شباط، نفذت طائرات من طراز “ميراج 2000” التابعة للهند غارات على ما اسمته نيودلهي معسكرات تابعة للتنظيم في مدينة بالاكوت الباكستانية. خطورة الخطوة الهندية انها شكلت المرة الاولى منذ العام 1971 التي تطال فيها نيران القوات الهندية مناطق داخل باكستان نفسها وليست واقعة في ولاية كشمير.

وفي اليوم التالي، اختارت باكستان الرد بعقلانية نوعا ما، حيث اخترقت مقاتلاتها المجال الجوي الهندي في ولاية كشمير المتنازع عليها (اي في الجزء الذي تسيطر عليه الهند)، واعلنت اسقاط مقاتلتين جويتين هندية واسر طيار هندي.

ولم يجد الخبراء العسكريون تفسيرا لماذا اختارت الهند ان تتصدى لباكستان في سماء كشمير في 27 شباط، معتمدة على مقاتلة قديمة نسبيا من طراز “ميغ 21” وتم اسقاطها، وسلاحها الجوي يمتلك مثلا مقاتلات “سوخوي 30” الاكثر تطورا. واضطر متحدث عسكري هندي الى التصريح للاعلام بان التساؤلات حول سبب اللجوء الى “الميغ 21”  التي صنعت للمرة الاولى في الخمسينات صارت غير مبررة لان المقاتلة جرى تحديثها.

ومهما يكن، فان الاشتباك لم يتحول الى حرب طاحنة، ذلك ان الطرفين، رئيس الوزراء الهندي ناردندرا مودي ونظيره الباكستاني عمران خان، يدركان ان اندلاع مواجهة شاملة تعني خرابا اكثر مما يمكن ان يتصوره عقل. ومع ذلك، فان المخاوف كبيرة، اذ كسرت الهند ضبطا محددا للنفس تلزم نفسها به منذ 48 سنة، بعدم استهداف الاراضي الباكستانية نفسها، وهي مخاوف يجب ان تؤخذ بجدية كبيرة، اذ ان الحزب الحاكم في نيودلهي “بهارتيا جنتا” الهندوسي المتطرف، بنى الكثير من ارثه السياسي على اجندة العداء لباكستان، فيما تتنامى نظرة الهند لنفسها على انها تحولت الى مصاف الدول الكبرى القادرة على اتخاذ ما يلزم من قرارات حماية لامنها القومي.

وسلط الاشتباك الهندي – الباكستاني المصغر، الضوء على صراعاتهما الدموية والتي لا تشجعهما على خوضها مجددا، برغم كل اجواء الاحتقان والتنافس القائم بينهما منذ عشرات السنين.

ومن المعروف ان تجربة تقسيم الهند، تركت جروحا غائرة لم تتم معالجة غالبيتها منذ العام 1947، وشكلت احد اكبر كوارث القرن العشرين، خصوصا ان بريطانيا استندت على عناصر الديموغرافية الدينية لرسم خطوط التقسيم الممتدة الاف الكيلومترات من البنغال شرقا الى البنجاب غربا وكشمير شمالا.

صحيح ان المندوب السامي البريطاني في الهند اللورد ماونتباتن اشرف على توقيع اتفاق التقسيم على اسس دينية بين الزعيم الهندي جواهر لال نهرو والزعيم الاسلامي في الهند محمد علي جناح، وهو ما شكل بحسب هيئة الاذاعة البريطانية، بداية نهاية عصر الامبراطورية البريطانية، الا ان العديد من المجتمعات المسلمة حافظت على وجود لها داخل الهند، ولم تغادر.

ولم تمض سوى اسابيع على التقسيم الدموي، حتى اندلعت الحرب الاولى بين الدولتين  على اراضي كشمير، بعدما ساعدت باكستان في انتقال مقاتلين قبليين من منطقة وزيرستان الباكستانية، الى داخل كشمير لتأمين السيطرة عليها بدعم الجيش الباكستاني، في وقت كانت لا تزال امارة مستقلة. اما الهند فانها كانت من جهتها، تطمح الى السيطرة عليها، وما ان ناشدتها المساعدة للتصدي للتوغل الباكستاني، حتى اشترطت على سلطاتها توقيع اتفاق لخضوع كشمير الى السيادة الهندية.

Pakistani Rangers (black uniforms) and Indian Border Security Force personnel (brown uniforms) take part in the daily beating of the retreat ceremony during India’s 69th Republic Day celebrations at the Indian Pakistan Wagah Border post about 35km from Amritsar on January 26, 2018. / AFP PHOTO / NARINDER NANU (Photo credit should read NARINDER NANU/AFP/Getty Images)

وحصلت نيودلهي على مرادها، فصار الجيشان الهندي والباكستاني في صدام عسكري وجها لوجه طوال 14 شهرا، انتهى بانحلال امارة كشمير، وتقاسم السيطرة عليها من الجارين الكبيرين، ونشوء خط وقف اطلاق النار، بالاضافة الى نحو 30 الف قتيل وجريح. سيطرت باكستان على ثلث اراضي كشمير، وذهب الثلثان الى السيادة الهندية.

اما الحرب الثانية بين البلدين، فاندلعت العام 1965، واستمرت حوالى 50 يوما، بعدما تطورت الاشتباكات الحدودية في كشمير الى حرب مفتوحة. وكتكرار لما حصل في الحرب الاولى، سمحت باكستان بتسلل قوات الى داخل كشمير لاشعال تمرد ضد الحكم الهندي في اطار عملية سميت “عملية جبل طارق”. ولم تتوقف المواجهات سوى بعد تدخل كل من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة لرعابة اتفاق رعته الامم المتحدة.

وتماما كما جرى ايضا في حرب كشمير الاولى، زعم كل طرف انه خرج منتصرا في الحرب الثانية. وبكل الاحوال، سقط الاف الضحايا من الجانبين. ويورد المؤرخون ان الرئيس الباكستاني الجنرال ايوب خان، اعتقد وقتها ان الفرصة سانحة امامه لالحاق هزيمة بالهند التي خرجت في العام 1962  من حرب مذلة مع الصين في جبال الهيمالايا الحدودية.

اما بالنسبة الى الحرب الثالثة، فانها انتهت بهزيمة صريحة لباكستان  خلال 13 يوما فقط، وانفصال ما كان يعرف باسم “باكستان الشرقية” التي نشأت من خلال التقسيم البريطاني العام 1947، وذلك من خلال توقيع الجنرال الباكستاني خان نيازي على وثيقة استسلام في داكا في كانون الاول 1971، واعتقال عشرات الالاف من الجنود الباكستانيين.

ولم تكن الكارثة على باكستان عسكرية فحسب في هذه الحرب الثالثة، اذ كانت ايضا سياسية بامتياز. فمحاولات اسلام اباد الاستمرار في بسط هيمنتها على “باكستان الشرقية” التي اصبحت لاحقا بنغلادش، اصطدمت لا بموقف هندي مخرب فحسب، وانما بمعارضة شعبية عارمة من جانب سكان بنغلادش لحكومة ذوالفقار علي بوتو في اسلام اباد.

وتطورت الازمة السياسية الى مواجهات عسكرية وغارات جوية متبادلة بين الهند وباكستان، وبمواجهات بحرية وبرية واعلان حكومة بنغالية في المنفى الهندي.

هذه هي الحروب الثلاثة الرئيسية التي خاضتها الهند وباكستان. لكن المفارقة ان التطور الاكثر خطورة جرى خلال الحرب الرابعة التي اندلعت في العام 1999، في جبال كارغيل والتي سيطر خلالها الباكستانيون على ما مساحته 200 كيلومتر مربع من المرتفعات الشاهقة خلال عملية عسكرية سرية مفاجئة. ومع الضغط العسكري الهندي على المهاجمين الباكستانيين، حرك الجيش الباكستاني صواريخه النووية باتجاه الحدود الهندية تحسبا لانهيار الموقف بشكل شامل، وخصوصا الخوف من قيام الهند باغلاق ميناء كراتشي لحصار باكستان من البحر.

وعلى الرغم من الخسائر الهندية الكبيرة بسبب طبيعة القتال في الجبال، الا ان الرئيس الباكستاني برويز مشرف فشل في تحقيق مكاسب سياسية من الحرب، حتى ان الصين، المنحازة الى اسلا اباد عادة، انتقدت تلويحه بالسلاح النووي، مثلما فعلت ادارة بيل كلينتون والعديد من الحكومات حول العالم.

وكانت هذه المرة الاولى التي يلوح فيها شبح الحرب النووية بين الجارين اللدودين، خصوصا بعدما اكدت تجارب باكستان النووية في العام 1998 امتلاكها السلاح الاكثر خطورة في العالم.

والان يعتقد ان باكستان تمتلك 150 راسا نوويا مقابل 140 للهند. واذا ظل البلدان مقيدان بهواجس البقاء والماضي، فان الخطر على وجودهما هو الذي قد يجعل الازرار النووية متفلتة من ضوابط عقلانية كثيرة، في منطقة جنوب شرق اسيا، شديدة التوتر والتنافس والصراعات.

وقديما، سئل عالم عن اسلحة الحرب العالمية الثالثة، فقال انه لا يعرفها، لكنه يعرف اسلحة الحرب العالمية الرابعة. ولما سئل كيف يكون ذلك، قال ان اسلحة الحرب العالمية الثالثة ستفني الحضارة البشرية التي نعرفها، وسيعود العالم في الحرب الرابعة الى الاسلحة البدائية !

رادكليف وماونتباتن

رادكليف

قبل 70 عاما، كلف رجل واحد بمهمة رسم الحدود التي قسمت الهند. كان ذلك الرجل هو المحامي البريطاني سيريل رادكليف. ومنح رادكليف مهلة لم تتجاوز خمسة أسابيع لتقسيم الهند، بحسب “بي بي سي” البريطانية.

وكانت على طرفي الهند البريطانية انذاك ولايتان كبيرتان يتساوى فيهما عدد الهندوس والمسلمين، وهما البنغال في الشرق والبنجاب في الغرب. وكانت مهمة المحامي رادكليف رسم خط تقسيم يمر في هاتين الولايتين. كانت مهمة معقدة، وكان مصير عدد من الولايات الأخرى مبهما ايضا.

اعتمد رادكليف على مستشارين جهلة وخرائط عفا عليها الزمن واحصاءات غير دقيقة، ولم يكن في الامكان رسم خطوط تقسم مجتمعات عاشت جنبا الى جنب منذ قرون عدة.

احرق رادكليف كل وثائقه قبل ان يغادر الهند.، ورغم تكريمه من قبل الحكومة البريطانية، لم يكن رادكليف يشك في المشاعر الحقيقية التي يكنها له البنجابيون والبنغاليون. وقال “هناك 80 مليونا من البشر الغاضبين يبحثون عني، ولا اريد ان يعثرون علي”. ولم يعد السير سيريل رادكليف ابدا الى الهند او باكستان.

كلف اللورد ماونتباتن – وهو من اقارب الاسرة البريطانية المالكة – بمهمة اخراج بريطانيا من اكبر مستعمراتها. وقرر ماونتباتن – الذي قتل في العام 1979 بانفجار قنبلة زرعها في يخته الجيش الجمهوري الايرلندي – انه من الافضل ان تتم عملية الانسحاب من الهند بسرعة.

http://www.general-security.gov.lb/uploads/magazines/67/17.pdf

عن خليل حرب

خليل حرب، صحافي لبناني، مدير تحرير في جريدة "السفير" سابقا. يشغل اليوم منصب رئيس تحرير موقع "جورنال".