تغيرت موازين القوى بعد إبرام إلغاء الاتفاق النووي من طرف الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ومن وقتها تتحدث المنطقة من دون انقطاع عن التغير في موازين القوى الإقليمية. لكن أحاديث التغير في موازين القوى الإقليمي – على صوابيتها – لم تلحظ بقدر كاف أن ذلك التغيير سيطول أيضاً توازنات إيران الداخلية والاجتماعية، وأن هناك ارتباطاً منطقياً ومتبادلاً بين التغيير الداخلي الإيراني والتغير في ميزان القوى الإقليمي والتغير في السياسات الدولية. ويعني ذلك في المحصلة أن تداخل الدوائر الثلاث المحلية والإقليمية والدولية هي صيرورة متكاملة، لا يمكن فصل دوائرها الثلاث كما يعتقد على نطاق واسع في التحليلات السياسية العربية الخاصة بإيران. بالمقابل فمن شأن الإحاطة بالدوائر الثلاث أن تتجلى وتظهر اختيارات إيران الصعبة؛ التي يخلقها الوضع الجديد بعد إلغاء الاتفاق النووي وعدم قدرة أي من الأطراف الباقية في الاتفاق على سد الفراغ الذي خلفه الانسحاب الأميركي منه.
تضمر المفاضلة بين القضية والدولة – الأمة معاني عميقة تتعلق بمستقبل إيران الإقليمي أكبر بكثير من البراءة التي قد تبدو ظاهرة على السطح، ولا غرابة في ذلك حيث صك هذا السؤال الدبلوماسي الأميركي الأشهر هنري كيسينغر سابقاً في معرض محاولته الناعمة لتسليط الضوء على الشروط غير المرئية على عودة إيران إلى المجتمع الدولي، خصوصا سلوكها حيال إسرائيل وتحالفاتها مع القوى غير الدولتية في المنطقة. اشتهر الثعلب كيسينغر بدبلوماسيته مع بلدين أساسيين حولهما – بتفاوت في النجاح – من موقع المعادي للولايات المتحدة الأميركية إلى موقع آخر وهما: الصين ومصر. ببعض التبسيط تضمر المفاضلة معنى أن استمرار إيران في سلوكها الإقليمي المناوئ لحلفاء أميركا في المنطقة، وتمسكها بعدم الاعتراف بدولة الاحتلال الإسرائيلي، يجعل إيران مجرد «قضية» مختلف عليها، وليس دولة إقليمية تحظى باعتراف دولي. واستطراداً يعني ذلك أيضاً أن تحالف إيران مع «حركات المقاومة» بتعريفات إيران ومؤيديها، أو «القوى غير الدولتية» بمصطلحات العلوم السياسية، أو «الحركات الإرهابية المسلحة» بمعايير القوى المؤيدة لإسرائيل في الغرب، أمر يتناقض بالضرورة – وفقا لكيسينغر – مع عودة إيران الناجزة إلى المجتمع الدولي كدولة – أمة.
في هذا السياق تشكل المفاضلة «البريئة» معضلة بالفعل، فمن ناحية أعطت «إيران القضية» الكثير من الزخم لنفوذ طهران الإقليمي – بغض الطرف عن الاتفاق او الاختلاف معها -، لكنها كلفت طهران رأسمالاً سياسياً واقتصادياً ضخماً.
بالمقابل، تغليب منطق الدولة – الأمة (تمتد إلى عمق تاريخي يزيد على ألفي سنة) سيجعل إيران بمضمونها القومي الفارسي معزولة عن المنطقة بأغلبيتها السكانية العربية، فتغدو مكاسب إيران الإقليمية في العقد الأخير في مهب ريح صرصر لم يحتسبها المتخوفون من الاتفاق أو المؤيدون له على حد سواء. ولا يخفى أن معادلة إما أو الكيسينغرية تستبعد موضوعياً وفلسفياً إمكانية دمج طرفي المعادلة معاً، فيكون على أفراد النخبة الإيرانية وصناع القرار في طهران الاختيار بين سلوكين وسياستين لا يلتقيان ولكل منها أثمانه الكبرى.
ومن المفهوم بالتالي هنا، أن حسم المفاضلة بين طرفي السؤال سيكون قرين الحسم في الحراك الداخلي الإيراني، الذي لا تظهر فيه تصدعات ظاهرة للعيان. في كل الأحوال وحتى تتبلور معادلات إيران الداخلية بعد انسحاب أميركا من الاتفاق النووي، يبدو أن سؤال: القضية أم الدولة، سيصبح تحت السطح محور استقطاب النخبة الإيرانية بتلاوينها الفكرية المختلفة في المرحلة المقبلة.
د. مصطفى اللباد
(في “القبس” الكويتية)