في اوائل أيام العام 1992، دار هذا الحوار:
أنا: معقول الحزب بدو يخوض الانتخابات؟!
هو : القرار منيح. بيحفظ ظهر المقاومة
أنا : لكن مش مفترض بالمقاومة تتجنب السياسة في لبنان؟
هو : البلد بمرحلة جديدة بعد الحرب الاهلية، وصون المقاومة يتطلب الحضور سياسيا
أنا : مش افضل للمقاومة تحتفظ بالعمل السري، والسياسة يمكن تكشفها امام خصومها وهم كثر
هو : اكيد السيد عباس يدرك هذه المخاطر، وسيتفاداها
انا : مش مقتنع كتير
هو :حقك.. سنرى ….
بعدها بأسابيع استشهد عبدالحسن. واستشهد السيد عباس الموسوي. لم اكن اعلم ان ابن عائلة فحص مقاتل في صفوف المقاومة. لم يكن عبدالحسن، فاتحة الشهداء، ولا آخرهم.. بدا الان ان درب الجلجلة كان طويلا. وان الحديث الاخير معه ترك ندبة. وظلت الفكرة تحتمل الصواب في الحالتين. غير ان السنوات اللاحقة، من عدوان ال93 ثم ال96 وصولا الى التحرير في العام 2000، ثم اغتيال الحريري، وغدر بعض الداخل في حرب تموز 2006، ثم خطيئة 5 ايار 2007، اظهرت ان قناعات عبد الحسن كانت محقة.
فبقدر ما يمثل السلاح حاجة للمقاومة، تشكل السياسة منعة حيوية لها. لا فكاك بين الاثنين. وقائع الحال، اعمال العقل والمسيرة، تقود الى تلازم المسارين. وما لم يؤخذ من المقاومة بالسلاح، يراد سلبه منها بالسياسة. شهادات جيفري فيلتمان في ما بعد اغتيال الحريري وحرب تموز، اظهرت بما لا يدع مجالا للشك، بأن جهودا داخلية واقليمية ودولية تجري بهمم عالية، لايذاء الحاضنة السياسية والشعبية ل”حزب الله”.. أو جر البلاد الى اقتتال اهلي جديد.
هذا ليس تنظيرا مجانيا. هذه وقائع مسجلة على مر العقد الماضي من الاموال الخليجية التي تدفقت للتلاعب بالمشهد السياسي وتشويه المقاومة، وصولا الى بدعة “تفكيك شيفرة حزب الله” في دولة الامارات مؤخرا!
عبدالحسن كان على حق. اول انتخابات برلمانية بعد الحرب الاهلية في ربيع ذلك العام 1992، كانت بمشاركة “حزب الله”، ثم في كل الانتخابات النيابية التي جرت لاحقا، الى ان انضم الحزب للمرة الاولى الى حكومة نجيب ميقاتي، ادراكا منه لهشاشة الوضع الداخلي، بما يحصن الساحة اللبنانية، في ما بعد اغتيال الحريري، بتوسيع الحاضنة السياسية من البرلمان الى مجلس الوزراء. وثيقة التفاهم مع التيار الوطني في شباط 2006، لم تكن سوى لبنة اخرى في اطار الرؤية ذاتها.
تخيل للحظة لو ان المقاومة كانت، بلا اي تمثيل سياسي داخليا خلال كل هذه المحطات. تخيل الانشطار الذي ضرب الكيان اللبناني باغتيال الحريري وفي غزوات اسرائيل، ثم في الغزو التكفيري لاحقا. اي لبنان كان سيكون بين أيدينا. صحيح ان المؤسسة العسكرية والاجهزة الامنية، وبعض القيادات السياسية لعبت ادوارا في منع الانهيار، لكن موقف المقاومة، كان حاسما في منع الانفجار الكبير الذي هز كل الاقليم.
المقاومة ليست ظاهرة عابرة نتبناها اليوم وننبذها غدا، هي ليست حالة سياسية مؤقتة ان صح التعبير. في العمق هي اكبر بكثير من تكتيك انتخابي، لا مفر منه احيانا في اطار خدمة الهدف الاكبر، لكنها وهي تقوم بذلك، تصبح محاسباتها على كل زلات الزواريب السياسية اللبنانية، ضربا من هزال المناكفة العبثية.
عبدالحسن كان على حق. احتضانها حياة لهذا ال”لبنان”. وسواء كنت سنيا، شيعيا، مسيحيا، درزيا، او علويا… سواء كنت متدينا، علمانيا، يساريا، اشتراكيا، قوميا، شيوعيا، او ليبراليا…فان كل صوت للمقاومة على المديين القريب والمتوسط، بمثابة تصويت من اجل منعة هذا الكيان، لا من اجل “امبراطورية المد الفارسي” كما يحلو لبعض الهذيان السياسي ان يروج.
وبينما هم “يشيطنون” المقاومة، فان سيدها هذا الذي كان بامكانه ان يأتي من بنت جبيل قبل 18 عاما، محملا بفائض القوة والنصر، ليطالب بالقصر الجمهوري او بكل السلطة، أسوة بأي منتصر في العالم، الا انه لم يفعل.
اتذكر اطمئنان عبدالحسن الان، واقول ان هذا التعفف كان خيارا سياسيا، وليس عسكريا. نصرالله قام بأنقى تصويت من اجل “لبنان”.
خليل حرب