الرئيسية » اراء ودراسات » “على الطريق” الشاقة لطلال سلمان

“على الطريق” الشاقة لطلال سلمان

عن قوة لبنان الناعمة في جريدة

لم يكن الاستاذ طلال سلمان الذي رحل في 25 اب 2023، مؤسسا لجريدة فقط، ذلك انه جعل من “السفير” حزبا عابرا للحدود منذ اللحظة الاولى، وربما اكبر منه، بما ينسجم مع قناعاته الخاصة، وظل لبنان واهله شغله الشاغل، وظل هو صوت الذين لا صوت لهم، اينما كانوا على هذه الارض. 

ليس من السهل الاحاطة بشخصية كشخصية الاستاذ طلال بعد مسيرة في عالم الصحافة والاعلام امتدت نحو 60 سنة، بينها اكثر من 40 سنة في جريدة “السفير” التي ارادها جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان، وربما كانت كذلك عن حق، حيث صار كثيرون خصوصا خارج لبنان، يعتبرون “السفير” احدى ادوات “القوة الناعمة” التي يتميز بها لبنان.

في “السفير” كان بامكانك ان تلتقي بمسؤولين ودبلوماسيين ووزراء وحزبيين، من لبنان ومن العالم العربي، فهذا في اجتماع مع “الاستاذ” في الطابق السادس، واخرون ينتظرون موعدهم، وكتاب صغار وكبار، من لبنان ومصر وفلسطين وسوريا والجزائر والمغرب واليمن والكويت والعراق، يعقدون اجتماعات في قاعات وغرف المحررين والاجتماعات، فهناك عدد جديد من “السفير” سيصدر غدا، وكل الجهود منكبة على محاولة تقديم الافضل.

هناك خلايا نحل ناشطة منذ الصباح الى ساعات الفجر الاولى، وكل بحسب اختصاصه، ذلك ان الجريدة هي بالنسبة الى “الاستاذ” بمثابة نضال يومي، باهداف بعيدة المدى تجمع حق اللبناني بالتعليم وحق الفقير برغيف الخبز وصولا الى كفاح الشعوب واقتدار الامة العربية وتحرير فلسطين. ولهذا، فان دخول “السفير” الى عالم الصحافة المكتوبة في العام 1974، لم يكن حدثا عاديا، اذ سرعان ما كشفت الجريدة عن هويتها وانحيازاتها الشديدة الوضوح منذ يومها الاول. في العام 1975 مثلا خرجت بعنوانه العريض الشهير “فيتنام حرة: المجد للثورة وللفلاح المقاتل”. وفي العام الاول لصدورها تعرضت “السفير” لمحاولات لاغلاقها حيث واجهت 16 دعوى قضائية ضدها.

لم يكن من المبالغة القول ان هذه الجريدة – الحزب تحولت على مدار سنوات طويلة الى محج للكتاب والمثقفين والناشطين والسياسيين والطامحين الى المعرفة والشعراء والرسامين والمزارعين والحرفيين من مشارق الارض ومغاربها. لقد كان ذلك نتاج جهد جماعي كبير، يشارك فيه كثيرون من بيروت والقاهرة ودمشق وبغداد والخرطوم والقدس. رفع الاستاذ طلال من شان الصحافة اللبنانية والعربية، حتى في نظر هؤلاء الذين اختلفوا معه سياسيا، وجعل من “السفير” جريدة مقاتلة خاصة عندما تكون في مواجهة المحتل، سواء كان هذا المحتل في لبنان او فلسطين او العراق او سوريا…

ولعل من عايشوا الاستاذ طلال او واكبوه او عملوا بالقرب منه، من داخل مدرسة “السفير” التي انضجت مئات الصحافيين والاف الكتاب، يحملون من الشهادات والروايات عنه ما لا تتسع لها مساحة لتناولها، لكنها تحمل من التجارب والطرائف والمواجع والخبرات، ما لا يحصى، من حقائق بدايات الجريدة في مناخ عربي مغاير تماما في بداية السبعينات، ومرحلة ما بعد انتصار “حرب تشرين-اكتوبر” وتصاعد اعتداءات العدو الاسرائيلي على لبنان ثم الغزو، واستمرار “السفير” في الصدور برغم النار والغارات والدمار، وكيف قام لبنانيين عاديون بنقلها لتوزيعها في شوارع بيروت، لرفع المعنويات والصمود، مرورا قبل ذلك بابرام اتفاقية “معاهد كامب ديفيد” التي قهرت ملايين العرب وابكتهم وقتها، وكل المحطات اللبنانية اللاحقة بما في ذلك تحرير الجنوب تحت عنوان “بنادق المقاومة ترسم الحدود”.

ومن بين اكثر ما يميز الاستاذ طلال في العمل، قدرته التي لم تكل على “الاستنفار” بكل ما في الكلمة من معنى. هناك محطات في مسيرته، ومسيرة الجريدة، لا تنسى. في كل لحظات التحدي، كنت تراه بين الاكثر حضورا واتقادا مهنيا. يطلب اجتماعات متتالية مع الاقسام، ومدراء التحرير، واحيانا يعززها باجتماعات خاصة من مجموعة من الكوادر المعنية بقضية او حادثة معينة خلال النهار، ثم يتابع مساء باجتماعات اخرى حصيلة العمل وفق سؤال “اين وصلنا؟”. وهناك مرحلة ثالثة، تبدا فيما بعد اجتماع مجلس التحرير في السابعة مساء، حيث تطبخ الوصفة النهائية للمواد الرئيسية، ومانشيت الصحفة الاولى، وافتتاحية رئيس التحرير، او يتم وضع لمساتها الاساسية.

تسترجع الذاكرة احداثا عديدة، وكيف كان طلال سلمان يتصرف بهذه الحيوية والاستنفار الفعلي. في العام 1993 صدر قرار حكومي باغلاق الجريدة بسبب نشرها وثيقة تتعلق بالمفاوضات اللبنانية-الاسرائيلية، ما اثار موجهة تضامن شعبي كبيرة معها، وانبرى مئات المحامين للدفاع عنها. في ذلك اليوم، لم يلتزم طلال سلمان مكتبه في الطابق السادس، وانما “اختفى” في غرفة في الطابق الثالث، تجنبا للزوار والاتصالات الهاتفية، ليتفرغ لكتابة الرد-المرافعة بقلمه على القرار الحكومي في افتتاحية اليوم التالي بينما رتب صدور “السفير” تحت اسم امتياز اخر. 

بالامكان مشاهدة هذا الاستنفار في لحظات التحدي المشابهة او الاكثر خطورة. في العدوان الاسرائيلي (تصفية الحساب) في تموز من العام 1993، كما في ما سمي “عناقيد الغضب” العام 1996، وصولا الى اجبار اسرائيل على الانسحاب من معظم الاراضي المحتلة العام 2000، ثم في “حرب تموز” 2006، حيث كان طلال سلمان يبدو كمقاتل حقيقي بكامل استنفاره على الجبهات، وهو يتابع ويدقق ويعقد الاجتماعات المتتالية للتنسيق، ويطمئن على المصورين وهم يجولون في المناطق المشتعلة، وعلى الزملاء الذي منعتهم الحرب من الخروج من مناطقهم للالتحاق بعملهم.  وفي 14 تموز 2006، كان يهرول صعودا نحو الطابق الاخير في الجريدة، ليتمكن من مشاهدة سفينة العدو وينظر اليها وهي تحترق.

وبقدر ما كان طلال سلمان لبناني الهوى، فتحسبه وهو البقاعي الجذور، كانه ايضا طرابلسي وجنوبي وصيداوي وبعقليني وعكاري وووو…، فانه في الوقت نفسه، يبدو احيانا مصريا وفلسطينيا وسوريا ومغربيا وجزائريا وعمانيا وكويتيا، اذ له في كل مكان ذكرى وجذور وارتباط ومعارف واصدقاء وروايات تحكى. من منا لا يذكر افتتاحيات “على الطريق” وهو يحاول التصدي لمقصلة الموت والعقوبات التي كانت تطبق على اعناق العراقيين خلال التسعينات وصولا الى غزو العام 2003.

ومن منا لا يستعيد فورا طلقات الكلمات التي كالرصاص في افتتاحياته المدافعة عن فلسطين، في انتفاضاتهم المتعاقبة ضد الاحتلال في ال1987، و2000 وما قبلهما وما بعدهما، من مقاومات وتصدي وعنفوان. وعندما لاحت احتمالات عدوان عسكري اميركي (و/او غربي) على سوريا في صيف العام 2013، ابلغ الجميع في مجلس التحرير الموسع: هذه دمشق وسنكون معها في مواجهة الصواريخ الاميركية. 

في مثل هذه اللحظات العصيبة والحاسمة، واحيانا المثيرة للانقسام والتباين، ليس سهلا على رئيس التحرير، اي رئيس تحرير، ان يحدد البوصلة ويقود جريدته الى التموضع وتحديد الرؤية. وبالنسبة الى العديد من الصحافيين والمحررين والمدراء، فان قدرة طلال سلمان على الاستماع الى اراء مختلفة ومتباينة واحيانا شديدة التعارض في اجتماع واحد، مذهلة، وفي غالب الاحيان كان يتعامل معها بصدر رحب، لانه يعتقد ان ذلك يخدم الناتج المهني المامول من الجريدة غدا، ولان هذا التنوع بحسبه، يثري المضمون والفكرة، مهما كان هذا التباين يبدو مشتتا.

ولم يكتسب طلال سلمان هذه الميزة وغيرها الكثير، من لاشيء وبسهولة، فقد كان طريقه شاقا وصعبا ليصل الى مرحلة توصف فيها جريدته باوصاف كثيرة من بينها، الاهم او الاخطر او الادق، وان يطلق عليها المغاربة “لوموند العرب”، او يحاذر الزعماء العرب والمسؤولون “اغضابها”. على موقعه الالكتروني (طلال سلمان على الطريق) الذي ما يزال مستمرا، بعد اغلاق “السفير” في نهاية العام 2016، تظهر مسيرة الاستاذ طلال انها بدات في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي لـ”واحد من متخرجي بيروت عاصمة العروبة”، كما يصف نفسه في سيرته، استهلها مُصححا في جريدة “النضال”، فمخبراً صحافيا في جريدة “الشرق”، ثم محررا فسكرتيرا للتحرير في مجلة “الحوادث”، فمديرا للتحرير في مجلة “الاحد”. وفي خريف العام 1962 ذهب الى الكويت ليصدر مجلة “دنيا العروبة” عن “دار الراي العام” لصاحبها عبد العزيز المساعيد. لكن الرحلة لم تطل لاكثر من ستة اشهر عاد بعدها الى بيروت ليعمل مديرا لتحرير مجلة “الصياد” ومحررا في مجلة “الحرية” حتى تفرغ لاصدار “السفير” في 26 اذار 1974.

ويكاد يجمع من عمل الى جانب طلال سلمان، على قدرته على رصد الكتاب الموعودين والمتميزين، حتى من البيئات المختلفة عنه فكريا، ولطالما حاول استقطابها، ونجح مرات كثيرة، ولهذا، فان البيئة الصحافية العربية حافلة بالكتاب والصحافيين الذين يتباهون احيانا بانتمائهم الى “اسرة السفير” يوما ما. ان من بين اكثر ما يميز الاستاذ طلال انه ظل في غالبية سنوات عمله الصحافي يؤمن ان بيروت منارة حقيقية، وان بامكانها ان تكون حاضنة للجميع، لبنانيا وعربيا، ولديها ما يكفي من المؤهلات ان تلعب هذا الدور، الى ان آل الزمن الى انحدار هذه البلاد الى مرحلة مراهقي السياسة، والثقافة، والادب والفن، كما يصفهم في سنواته الاخيرة. ومع ذلك، فانه يحسب للاستاذ طلال انه تمكن من قيادة سفينته وسط عواصف والامواج العاتية لبنانيا وعربيا ودوليا، طوال اكثر من 4 عقود.

https://www.general-security.gov.lb/uploads/articles/22121.pdf

عن خليل حرب

خليل حرب، صحافي لبناني، مدير تحرير في جريدة "السفير" سابقا. يشغل اليوم منصب رئيس تحرير موقع "جورنال".