تأتي عملية الاغتيال في مطار بغداد في بداية العام 2020 لتكمل سياقًا ومسارًا معقّدًا كان يقود إلى اللحظة التاريخية التي نعيشها اليوم، ولا سيما في مرحلته الأخيرة عند وصول ترامب الى البيت الأبيض، لأنّ التصعيد غير المسبوق من إدارة الرئيس الجديد في مواجهة إيران، والثبات الإيراني الذي أدى إلى فشل العقوبات وتطويع الإيرانيين وسوقهم مخفورين إلى طاولة المفاوضات، أدّى إلى لحظة مفصلية، تقاطعت فيها مصالح الدولة العميقة في واشنطن مع مصلحة الرئيس دونالد ترامب، في تنفيذ عملية اغتيال اللواء سليماني، ومحاولة اغتيال نظام الجمهورية الإسلامية، وهي من المرات القليلة التي يلتقي فيها الطرفان في ملف شائك ومفصلي منذ فوز الرئيس ترامب في الانتخابات في العام 2016.
الانتقام والهروب
يشكّل عامل الانتقام أحد الأسباب الرئيسة لعملية الاغتيال التي أدّت إلى استشهاد الشهيدين سليماني والمهندس، هذا الانتقام الذي التقت فيه مكونات المؤسسة العسكرية الأميركية، والاستخبارات، ومؤسسات الدولة العميقة، لاستعادة الهيبة الأميركية التي تهشمت في الشرق الأوسط، حتى اضطرت واشنطن إلى الانسحاب الذليل من العراق وأفغانستان بعد الخسائر المادية والبشرية والمعنوية الهائلة التي تكبدتها منذ العام 2003 الى العام 2011. وعقلية الانتقام هذه هي التي أدّت إلى اختيار هذين الشهيدين بالذات لإسهامهما الكبير والفاعل، في هزيمة الجيش الأميركي، وفي تحطيم مشروع الشرق الأوسط الجديد، في مرحلة ما بعد العام 2011 القاضي بتقسيم المنطقة عبر مشروع “الربيع العربي” واستخدام الحركات الإسلامية الراديكالية كداعش والنصرة وعشرات الفصائل الإرهابية التي قاتلت نيابة عن الأميركي في سوريا والعراق واليمن ولبنان..
يأتي العامل الثاني إضافة الى الانتقام، هو رغبة ترامب في تحقيق هدفين: الأول الهروب من الضغط الداخلي المتمثّل بإجراءات عزله بعد تورطه بموضوع التخابر مع الرئيس الأوكراني، الذي يلاحقه فيه الديمقراطيون يوميًا، ويحرج في مكان ما بعض الجمهوريين. الثاني: استعادة أصوات فقدها ترامب، بعد محاولات تحطيم صورته. والتصاقه بالإنجيليين البيض المتدينين، وهو عبّر أنَّ عملية القتل أتت على خلفية حماية الدّين والمجموعة الدينية، وبتسديد رباني، إضافة إلى مغازلة أصوات اللوبي الصهيوني، لما يمثّله الجنرال سليماني من هيبة تبّث الرعب في مفاصل المؤسستين العسكرية والأمنية الإسرائيلية.
الثالث: هو تحقيق شعور داخلي نفسي نرجسي، وبتغذية عقدة الأنا المنتفخة عند ترامب، بتحقيق إنجاز تاريخي بتصفية شخصية أسطورية من الأعداء لم يستطع أن يفعلها غيره من الرؤساء، وهذا ما عبّر عنه عندما قال إنّ سليماني كان يجب أن يُقتَل منذ رمن طويل..
الرابع: يتمثّل في فشله بكل المواجهات التي خاضها منذ وصوله إلى البيت الأبيض، ولا سيّما في الملف الإيراني، إضافة إلى ملفي كوريا الشمالية والصين، والملف الفنزويلي، وتطويع تركيا، وتخليه عن الأكراد..
هذا من الجانب الأميركي، أمّا وقد حصلت عملية الاغتيال، فالسؤال المطروح اليوم: كيف سيتصرّف الإيراني عند حلول ساعة الحقيقة، وهل سيتراجع، أم أنه أمام فرصة تاريخية، لم يترك له الأميركي ترف الاختيار بين خيارين لا ثالث لهما: الاستسلام، أو المواجهة.
لا يخرج ما واجهته إيران عما حصل مع دول كثيرة ذاقت نار الغضب الأميركي وزعله، وصولًا إلى تحطيم بنية الدولة المستهدفة وترويع شعبها وتجويعه، وإعادتها إلى العصور الوسطى..
أعتقد أنّ الموضوع يتعلق بعدد من العناصر لو جمعناها ستشكّل المعالم الواضحة لمشهدية المنطقة والعالم اليوم، نظرًا إلى أهمية الرد الإيراني على عملية الاغتيال أو عدمه، سنوزّع ذلك على عدد من النقاط والأسباب التي تجعل الردّ حتميًا وقريبًا وحاسمًا:
أولاً: يتعلق الموضوع بهيبة إيران ودورها في المنطقة كقوة إقليمية وازنة، وكقوة دولية متوسطة صاعدة، وتشكل عملية الاغتيال امتحانًا كبيرًا لها في زمن مفصلي يتشكّل فيه نظام دولي جديد، يؤسس على عوامل القوة والردع.
فهل تريد إيران حقًا أن تثبّت لنفسها هذه الصفات، أم أنها ستكتفي بالخطوط الحمر التي ستحددها لها واشنطن في المنطقة وفي العالم؟
وباعتقادي أنّ كل الغزل الذي يقوله الغربيون اليوم، وبعض العرب، من أنّ إيران دولة براغماتية، لن تذهب بعيدًا في ردها، يحمل ذلك دعوة خبيثة إلى طهران بابتلاع عملية الاغتيال، لتبقى دولة نامية كبقية دول المنطقة.
ثانيًا: لا تتعلّق القضية فقط بالانتقام لشخصية محورية وتاريخية سياسية وأمنية وعسكرية وأخلاقية كبيرة كالجنرال قاسم سليماني، إضافة إلى علاقتها المميزة بالحاج أبو مهدي المهندس، بل يرتبط الأمر بتهديد وجودي للنظام الإسلامي الإيراني، لأن ما يحصل اليوم هو الاحتكاك الأول والعلني والواضح بين واشنطن وطهران منذ انتصار الثورة الإسلامية في شباط 1979.
ثالثًا: سيرسم الردّ أو عدمه، حدود قوة الردع الإيرانية وفعاليتها بالنار، وليس بالتصريحات وكلمات العزاء والحسرة والفَقْد، مع أهميتها النفسية والتعبوية، ولا سيما أنّ الإيرانيين، وعلى المستويات القيادية العليا، بدءًا بالسيد الخامنئي، مرورًا بمجلس الأمن القومي، وصولًا إلى حرس الثورة؛ قد التزموا برد حاسم وكبير وواضح. وذلك يصعّب أي عملية تراجع هي غير موجودة أصلًا في قاموس حسابات الإيرانيين المطعونين بكرامتهم إلى حين.
رابعًا: على الصعيد المعنوي والأخلاقي والقيمي، ستثبت إيران أنها دولة تحترم كلمتها، وأنها كدولة عقائدية، وإمبراطورية سابقة لا تهاب الحرب، ولا الدفاع عن نفسها وعن حلفائها أمام المعتدين. وهذه نقطة شديدة الحساسية والأهمية في الحاضر التاريخي الإيراني.
خامسًا: سيرفع الرد القويّ والحاسم من معنويات محور المقاومة وحلفائه، وأحرار العالم بأجمعه بعد الصدمة الكبيرة التي تلقاها جراء عملية الاغتيال تلك.. وسيكون من مفاعيل الرد أيضًا، ضرب نظرية الانسحاق أمام الإمبراطور الأميركي، وتنفيذ طلباته كاملة، مخافة غضبه وانتقامه وسخطه على المعترضين عليه، هذا الانسحاق التي تقوده وتنظّر له ممالك ودولٌ عربية كبيرة وصغيرة.
سادسًا: قد يكون الرد الكبير فرصة للتخلص من العقوبات المرهقة وغير المسبوقة المفروضة على إيران، وفرصة لإسقاط دونالد ترامب في الانتخابات القادمة في تشرين الثاني المقبل، ما سيفتح الطريق أمام الرئيس الجديد بالعودة إلى الاتفاق النووي، وبالتعامل بواقعية مع دولة كبرى كإيران لم ترتعدْ، ولم تخَفْ من القوة العسكرية الخرافية للإمبراطورية الأميركية..
يؤشّر كل ما تقدّم، إلى أن المنطقة والعالم يعيش اليوم مرحلة مفصلية بين زمنين، يتمثّل الأول بالهيمنة الأميركية وتسلطها وتحكّمها بحاضر الشعوب ومستقبلها، والثاني بالخروج من مدار الجاذبية الأميركية، للتحليق في سماء حرية الشعوب والأمم، بالاعتماد على ثرواثها وطاقاتها وعقولها وأمكاناتها..
د.طارق عبود/لبنان
كاتب وباحث في السياسات الدولية