الرئيسية » العالم والخليج » عاشوراء الضاحية كفٌّ على وجه “إسرائيل”  

عاشوراء الضاحية كفٌّ على وجه “إسرائيل”  

بيروت – فراس خليفة

 

إكتسبت مسيرة “عاشوراء” في الضاحية الجنوبية هذا العام دلالات إضافية كونها شكّلت المحطّة الأولى من نوعها بعد تحقيق إنجازات كبيرة على طريق هزيمة “داعش” في المنطقة فضلاً عن رمزية خطاب السيد حسن نصرالله غير المسبوق في تاريخ المواجهة مع “إسرائيل”. في مسيرة “عاشوراء” حضر طيف الشهداء إلى جانب مئات الآلاف الذين جاؤوا لتأكيد “ثباتهم في كل الميادين”.   

 

                            

 “كاليغرافيا” عربيّة وحُفاة في شارع هادي نصرالله  

                              

مستديرة “الكفاءات”، خطاب عاشوراء 2017. لم تكن “السّماء زرقاء” تماماً بالأمس. مِن على سطح أحد المباني المرتفعة كان يمكن رؤية الحشود من كل الجهات تقريباً. تأخذُ الحماسة الشاعر علي عباس ليعلن أمام الناس أن “السيد يظهر الآن بين جماهيره”. لم يظهر “السيد” ولكن شُبّه لهم. من فوق كان يمكن أيضاً رؤية مشهد التدافع وبعضهم أُغميَ عليه بفعل “ظهور” لم يحدث أصلاً. لم تمرّ ثوان قليلة حتى كان “السيد” قد ظهر أمام الناس ولكن عبر شاشة عملاقة. لم يكتفِ المنظمون بشاشة واحدة هذه المرّة فوضعوا ثلاثاً. المنصّة الرئيسية التي صُمِّمَت ورُكّبَت في وقت قياسي جداً كما يشير هؤلاء، هي “الأضخم بتاريخ مسيرات عاشوراء” وقد تميزّت بـ”كاليغرافيا عربية” أنيقة (فن الكتابة بالخط العربي) مبنيّة على التراث الإسلامي المرتبط بعاشوراء.

يطلب “السيد” من الحشود أن تردّد عبارة “ما تركتك يا حسين” ولسان حالهم يقول: “ما تركناك يا سيّد حسن”. كان صوته يصل بعيداً جداً من مكان نهاية المسيرة. لا حاجة بكلماته لـ”مكبّراتِ صوت” حتى تبلغ آذان مَن يعنيهم الأمر، في “تل أبيب” تحديداً. يدعو الرجل “كل من جاء الى فلسطين المحتلة الى مغادرتها.. لأنه لن يَكون هُناك وقت لهم لمُغادرة فِلسطين المُحتلّة ولن يكون لهم أيّ مكانٍ آمنٍ فيها”. يذهب بعض العرب اليوم إلى التطبيع العلني مع “دولة إسرائيل” فيما السيد حسن نصرالله يطلب من سكانها أن يغادروا. يعيش الرجل في زمن آخر فعلاً.

يؤكد “السيّد” على مواصلة قتال “داعش” حتى النهاية، مشيراً إلى “مظلومية” أهل اليمن والبحرين وحتى مأساة مُسلِمي “ميانمار”. مضى زمنٌ طويل منذ تحوّلت الضاحية الجنوبية لبيروت إلى “عاصمة سياسية” رئيسية وقد باتت مؤخّراً إحدى أبرز “عواصم القرار” على مستوى المنطقة. لم يمشِ المشاركون في مسيرة هذا العام سوى كيلومتر واحد أو أكثر بقليل. لعلّها المسافة الأقصر بتاريخ المسيرات العاشورائية. يقول المنظّمون إنّ أعداد المشاركين بلغت أرقاماً قياسية أيضاً وقد إستطاع هؤلاء أن ينظّموا تجمُّعَيْن بشريَّيْن ضخمين في يومين متتاليين.

من بين الجموع “يتعَمْشَق” طفل على كتفّيْ أبيه هاتفاً “لبيك يا حسين”. يرفع أحد جرحى المقاومة قبضته ولكن من دون كف. تُرفَعُ القبضات الكثيرة في حركة إيقاعية منظّمة تبدو كأنها من إعداد مدرّب متخصّص. يُشارِكُ في المسيرة العاشورائية بعض الوجوه المعروفة من أهل الفن والرياضة والسياسة لم يألف الجمهور رؤيتها في مناسبة دينية. تضيف مشاركة البعض من حملة الجنسيّات الآسيوية والأفريقية والعربية بُعداً عالمياً للمسيرة. تحضرُ أعلام حركة “أمل”، كالعادة، وسط “بحر البشر” في جادة هادي نصرالله. يتأهّب عناصر “الهيئة الصحيّة” في نقاط مخصّصة، بينما يتقدّم حمَلَةُ الأعلام والصور المواكب المشاركة. يَكثُرُ حاملو الكاميرات سنة بعد أُخرى ملاحقين الوجوه والمواكب. ينسّق “سلمان” مع رفيقه حركة موكب اللطم الجامعي أو موكب “حُفاة” للسنة السابعة على التوالي. حُفاة؟ “نعم. الحفاة يجسّدون حالة المستضعفين بوجه المستكبرين التي كان يشير إليها دائماً الإمام الخميني”، يقول الشاب الجامعي مشيراً إلى أن شعار هذه السنة هو “الكف” الظاهر على شكل مجسّم في وسطه “قبة الصخرة” وكتب على الأصابع أسماء العراق وسوريا واليمن والبحرين ولبنان. “نربط  قضية الإمام الحسين بالحاضر والفكر الديني بالسياسي”. يًذكِّر سلمان بأن الشهيدين جهاد مغنية ومحمد جوني هما من مؤسِّسي موكب اللطم الجامعي وقد أضيف إليهما الشهيد المهندس حسين أسعد الذي استشهد مؤخراً في البادية السورية. يقول سلمان عن رفاقه الذين بلغ عددهم خمسمئة شاب هذا العام:” شتاؤهم قلم وصيفهم بندقية”.

 

 

في ناحية أخرى من المسيرة يمشي حُفاة من نوع آخر وقد موّهوا وجوههم بالتربة الكربلائية مُميّزين أنفسهم باللطم على الطريقة البحرينية. يطلق هؤلاء على موكبهم إسم “بإيابكم مُوقن”. يوضح القيّمون على الموكب أن الشّعار مقتبس من زيارة “وارث” الواردة في التراث الديني الشيعي. “نؤمن بعودة العدل وتحقيق العدالة بخطّ يبدأ من النبي محمد وصولاً إلى الإمام المَهدي”.

 

 

“نَسَويّة” عاشوراء: النصف زائدأ واحد

                                                   

 

قريباً من مجمع سيّد الشهداء في “الرويس” بعد انتهاء تلاوة مصرع الحسين بن علي. لم تكن دموعهنّ قد جفّت في الأحداق بعدُ عندما جاءهنّ الصوت أن يرفَعْن قبضاتهن وأصواتهن عالياً تحضيراً لبدء المسيرة ناحية الجنوب هذه المرَّة. في المكان ذاته وقع تفجير إرهابي قبل أربع سنوات أودى بحياة العشرات. “على درب زينب بطلة كربلاء” ولمسافة ألف وستمئة متر  مشَت النسوة مردّداتٍ شعارت تواكب المرحلة سياسياً وأُخرى تحافظ على الهتافات “العاشورائيّة” التقليدية. يصعب تقدير عدد المشاركات وقد بدَيْن أشبه بـ”نبع بَشَريّ” محاولين الوصول إلى “المَصَبّ” عند نقطة النهاية في “الكفاءات”. النهاية بالنسبة لهنّ ليست سوى بداية لكلمة “الأمين على الأرواح”. يخترق الموكب المهيب “العمق التاريخي” للضاحية. تمرُّ النسوة قرب مقبرة “الرادوف” التي تحتضن عدداً كبيراً من شهداء المقاومة وصولاً إلى شارع المعمورة.

تنبعث رائحة خبز المرقوق كما رائحة طعام “الهريسة” من إحدى “المضافات” التي تحولّت إلى ظاهرة يتّسع حضورها عاماً بعد آخر. في نهاية الشارع الحيوي كادت سيارة مفخّخة قبل أربع سنوات أيضاً أن تُحيل الشارع ركاماً. تقف النسوة اليوم متباهين بانتصارهن على “داعش” وأخواتها وقد بدت “مستديرة المريجة” بحُلّة جميلة بعد معاناة طويلة. تقول “الحاجة خديجة”، المسؤولة في الهيئات النسائية، “إن مسيرة النساء خصوصاً هي صورة للمجتمع المقاوم وانسجامه وتماهيه مع المقاومة لاسيّما في هذه المرحلة”. تشيد المرأة بوعي جمهور المقاومة الذي “أفشل المساعي المتكرّرة لضرب مشروع المقاومة ولخلق شرخ سني شيعي عبر المشروع التكفيري”. برأيها فإن ما يميّز مسيرة النساء هو حضور الأمّهات. “من أحضانهن عم يطلعوا مجاهدينا”.

بين “الرويس” و”المعمورة” طوفان من النساء المتّشحات بالأسود يحضر فيه “الرجل” إما بصفة متفرّج أو عنصر انضباط او “رادود”. يقول أحد هؤلاء “يا تكفيري صبرك صبرك إنّا سوف نحفر قبرك” طالباً من النسوة المشاركة الفاعلة. يبرز موكب الطالبات الجامعيات في مسيرة النساء أيضاً رافعاً شعار “هويّتي زينبية”. تقول سارة فقها إن الهدف من تخصيص موكب للجامعيات هو “إيصال صورة الفئة العمرية الشبابيّة الأكثر تأثيراً وفاعلية في المجتمع”. ليس بعيداً عن “الجامعيات” يحضر موكب أمهات الشهداء كعلامة فارقة هذا العام. تعانق النسوة صور أبنائهن الشهداء بـ”حرارة لن تبرد أبداً”. تقول والدة الشهيد خضر صفا (ميفدون) بصوت تخنقه العَبرة:”الشهيد موجود معي اليوم وكل يوم وفي كل مكان. برفع راسي فيه لأنو بيَّضْلي وجهي متل أصحاب الحسين”. بالقرب منها تحمل والدة الشهيد محمد جواد حجازي (قبريخا) صورة له يبدو فيها ضاحكاً. “الولد أغلى من الروح ونحنا قدمنا الاغلى من الروح فداء لخط المقاومة ومواساة لأبي عبدالله”. تضيف المرأة:” لن نترك هذ االخط أبداً. أحمد الله على نعمة أنني صرت واحدة من عوائل الشهداء”.

كان الحشد العاشورائي قد اقترب من الوصول إلى نهاياته عندما أخذ البعض على عاتقه مهمّةً من نوع آخر. للسنة الرابعة على التوالي يتصدّى عدد من الناشطات والناشطين المنضوين في مجموعة أطلقت على نفسها إسم “لِين” (التسمية مستوحاة من المفهوم القرآني لـ”اللين”) للتطوّع في حملة نظافة بعض شوارع الضاحية بعد انتهاء المسيرة. تشير رئيسة الجمعية لينا خليل مرجي إلى أنّ عدد المتطوعين بلغ هذا العام مئة شاب وشابة لامسةً تجاوباً وتفاعلاً شعبياً كبيراً. تعرّف المرأة عن الجمعية بالقول: “نحن حركة شبابية فردية شعبية تحمل مسؤولية الإرتقاء بالمجتمع وتهدف إلى نشر القيم الجمالية على اختلافها وليس في عاشوراء فقط”. نجحت تجربة “الرفض الجميل” في تحقيق أهدافها بنسبة كبيرة هذا العام كما يقول منظّمو المبادرة. مرّت مسيرة عاشوراء في الضاحية بسلام، لكن “عاشوراء المنطقة” لاتزال مفتوحة حتى إشعار آخر.

 

 

 

عن جورنال