غزّة – ميسون البطش
تكاد بعض المهن الحرفيّة اليدويّة تختفي في ظل التطور الذي يلاحق الزمن، خاصة بعد ظهور الآلات الإلكترونية والكهربائية الحديثة، بالإضافة للصناعات البديلة التي باتت تختصر الكثير من الوقت والجهد.
داخل احدى أزقة مدينة غزّة يجذبك محال لم تتجاوز مساحته 3 أمتار، لكن رغم صغر المكان، إلا أنّه يخفي في جنباته الكثير من الحكاية التي تروي أصالة التمسك في مهنة تعدى عمرها المئة عام.
مطرقة يدويّة، إبرة، خيط، ومانداف (اّلة خصصت لتقطيع القطن والإسفنج)، هذا ما يمتلكه الحاج سليم العكلوك (52 عامًا) داخل محل التنجيد، الذي قضى ما يزيد عن ثلثيها في مهنة التنجيد.
مهنة التنجيد تختص بصناعة وإعادة ترتيب المفروشات الثقيلة، ليتم استخراج القطن والاسفنج بالإضافة للخيوط الصوفية من داخل المفروشات، ويعمل المنجد على نشرها لأشعة الشمس، ونفض الغبار منها قبل أن يعيدها لمحتواها السابق.
أصل الحكاية
ورث سليم مهنة التنجيد وهو صاحب العشرة أعوام، من خلال ملازمته لوالده خليل الذي كان يعمل بها في مدينة يافا قبل أن يهجر قسرا في العام 1948 على يد العصابات الإسرائيليّة.
كان سليم يمتلك ووالده ثلاث محال فيما مضى من سالف الزمن، ليصبح محلا واحدا مع مرور الوقت، يعمل به عن شغف رغم الضعف الشديد للعائد المستجدى من المهنة التي تعيل 17 فردًا من أسرته.
يوقف آلة المانداف ويقول: “ما يجعلني مستمر لليوم بمهنة التنجيد هو الشغف بهذه المهنة التي استذكر من خلالها والده، ورغم التراجع الكبير للإقبال عليها إلا أنّ هناك بعض الزبائن لا زالت تأتيني”.
ويضيف: “أعمل على إعادة تأهيل بعض الأغطية الثقيلة (اللحاف) من خلال استخراج القطن الداخلي لها وإعادة تدويره في المانداف ، بالإضافة لصناعة بعض الوسائد والمفروشات القطنية والصوفية حسب طلب الزبائن”.
تحديات المهنة
بات الوضع الاقتصادي الذي يعاني منه سكان القطاع مؤثرًا سلبيًا على إمكانيّة الإقبال والطلب على المنجد سليم، بالإضافة لبعض المعوقات التي تحد إمكانية العمل.
ويوضح سليم أنّ الحصار الإسرائيلي المسبب لقطع الكهرباء أصبح يشكل أزمة في المصداقية مع الزبائن، فمجيئ الكهرباء لبعض السويعات الغير منتظمة تعيق الانتهاء من تسليم العمل في الوقت المتفق عليه، الأمر الذي يجعل الزبائن لا يعودون مرّة أخرى.
الجدير بالذكر أنّ الاحتلال الإسرائيلي لا زال يفرض حصاره على سكان قطاع غزّة منذ منتصف العام 2007.
البدائل خطر يهدد اندثارها
يلجأ الكثير من المواطنين لشراء المفروشات والأغطية الجاهزة، في محاولة لاختصار الوقت، لأنّ الأغلب منهم يريد الانتهاء بأسرع وقت ممكن، خاصة إذا كان عريسًا.
ويبيّن سليم أنّ البضائع الصينية صاحبة الثمن الرخيص أصبحت هي الخطر الحقيقي لاندثار وتلاشي مهنة التنجيد، فما بات المستهلك يلقي أيّ اهتمام لنا، بعدما أصبح كل شيء في الأسواق.
مهنة شكلية لا عائد منها
ما عاد بإمكان المنجد سليم تغطية احتياجات أفراد أسرته من خلال الاعتماد على المردود المادي لتلك المهنة، بعدما أصبح يتلقى المساعدات من بعض المؤسسات الداعمة.
يحتبس الدمع في عينه ويتابع: “كوني انتمي لفئة العمال في بعض الأحيان أتلقى مساعدات من بعض المؤسسات والأشخاص، لأتمكن من توفير بعض المتطلبات التي يحتاجها أفراد الأسرة”.
وفي معرض رده على سؤالي، بيّن أنّ الفرصة للعمل في مكان آخر أومهنة أخرى باتت شبه مستحيلة في ظل المعاناة التي يعيشها سكان القطاع وارتفاع مؤشرات الفقر.
وهنا تجدر الإشارة إلى جهاز الاحصاء الفلسطيني أفاد أن 60% من العاملين بالقطاع يتقاضون أجرا شهريا دون الحد الأدنى للأجور المقدر بمبلغ 1450 شيكل (حوالي 400 دولار).
ورغم كل تلك المعوقات التي تجتاح مهنة العم سليم، إلا أنّه أصر على توريث المهنة لأحد أبنائه الذي بات الآخر متقنًا لها، فحب الشغف لا يقدر بمردود مالي.
ميسون البطش