الرئيسية » العالم والخليج » “صيف وشتي” تحت سماء دمشق

“صيف وشتي” تحت سماء دمشق

دمشق – فراس خليفة

“إنهضي يـا دمشق.. إنّي أرمّمُ قلبي وجدران سورَكِ                                                                              استبشري بالخلاص

فثمّة نافذة في البيوت التي هُجِرت تتحرّك “درفتها”

وينوس من الشقّ خيط ضئيل..”                                                                             

(شوقي بغدادي، “البحث عن دمشق”)

 

_1_

 

السّابعة والدقيقة الثانية والعشرين مساءً بتوقيت السَّنة السابعة للحرب. يهتزُّ زجاج المبنى التراثي في “حارة المسبك” على وقع قذائف مدفعية متتالية أُطلِقت ناحية حي جوبر شرق العاصمة السورية.

لم يعُد صوت القذائف غريباً منذ أن سقطت أوَّلُ قذيفة هاون في أحياء دمشق القديمة قبل خمس سنوات وما تلاها من إستهداف شبه يومي، جواً أو برّاً، لمواقع المعارضة المسلّحة في الغوطة الشرقية. يميّز أهالي الحارات الشاميّة بين صوت “قذيفة طالعة” وبين أُخرى “نازلة”. يطلقون عبارات من قبيل “من عِنّا” أو “من عندن” في إشارة إلى مصدر القذيفة. قبل أسبوع سقطت قذيفتان في منطقة القشلة على مسافة أمتار قليلة من الكنيسة المريميّة فقتلت ثلاثة مواطنين قيل إنّ واحداً منهم تناثرت أشلاؤه في “الشارع المستقيم”.

كُتب القليل عن ضحايا قذائف الهاون في دمشق وبقيت حكايات كثيرة طيّ الكتمان. أنشأ ناشطون قبل سنوات صفحة على موقع “فايسبوك” تحت مسمَّى “يوميات قذيفة هاون”. قبل سنة ونصف السنة قتلت إحدى القذائف إمرأة وطفلتها بشكل مُروّع في أحد المطاعم في باب توما. على الطريق الضيّق بقي أثرٌ لقذيفة أخرى كأنّها شاهدة على “المرحلة”. بالقرب منها يقف بائع الورد الصغير مترصّداً عاشقَيْن علّه يظفر ببيع وردة. ليس بعيداً عنه يمدُّ متسوّلٌ عجوز يده المرتجفة موجّهاً كلامه للمارّة: “الله يرد عنكن القذائف”. تراجَعَ “العشوائيّ” أو “سلاح الجبناء” كما يسمّيه البعض بنسبة كبيرة جداً لكنه لا يزال يفاجىء المارّة في الحارات والشوراع من وقت لآخر. قبل سنة تقريباً سقطت قذيفتان على سطح المبنى المقابل تماماً لدكان الحلاّق أبو الياس مخلّفتان أضراراً جسيمة و”عاصفة” من الغبار والحجارة طالت المقهى المجاور. يتجدّد صوت القصف الآتي من جوبر بوتيرة أقوى هذه المرَّة. بدا كأنّه موسيقى تصويريّة مُصاحِبة لفيلم تجري أحداثه على أرض الواقع. على بُعد عشرات الأمتار، كان الـ”أبونا” يُصلّي “لأجل خلاص سوريا” ويصعد بعدها الدرج إلى أعلى برفقة بضعة “مؤمنين” في كنيسة القديس “حنانيا” إحدى أقدم الكنائس في العالم. يقول الرجُل في صالون الكنيسة إن “درب الجلجلة السُّوريّ صار في نهاياته” أو هكذا يبدو له.

 

يُرتّب أبو أمين الكراسي الخشبيّة الأنيقة على الرّصيف المحاذي تماماً للشّارع الواصل بين نهايات باب توما وأوّل باب شرقي. يلقي بعض المارّة تحيّة صباحية عليه بينما تسأله إحدى النسوة عن عنوانٍ مكتوب على ورقة صغيرة فيرشدها إلى عنوان آخر قريب إليه. تمرُّ عجوز حاملة مظلّة ملوّنة للحماية من أشعَّة شمس “تشرين”. على الأغلب، ستُعيد المرأة فتح المظلّة ذاتها بعد أيام عندما تمطر السّماء على نحو مفاجىء. في مقهى “صيف وشتي” يضع رجل أوراقاً كثيرة أمامه على الطاولة ويبدأ بالكتابة على وقع صوت فيروز.

يقول أبو أمين إن المقهى كان في ما مضى محل “موزاييك” وتحوّل إلى مقهى في العام ألفين وستّة لينتقل استثماره إلى إبنه أمين “صاحب الفكرة” قبل أربع سنوات. يتذكّر ابن بلدة عربين: “كانت منطقة الشام القديمة قبل الحرب تعجُّ بالمواطنين والسيَّاح الأجانب بعضهم كان يأتي لدراسة اللغة العربية في دمشق. كان معظم هؤلاء يسكن أو ينزل في البيوت العربية القديمة وكان المقهى واحداً من الأمكنة المفضّلة لهم”. يشيد أبو أمين بأبناء الحارة وعلاقته بهم. “صرتُ واحداً منهم”. يدلُّ بيده على الحلاق أبو الياس ويدعوه للجلوس مع ضيوفه. يقيم أبو الياس في الشام القديمة منذ ستّين عاماً. يقول الرجل المتزوّج من إمرأة لبنانية إنه عاش بضعة سنوات في شارع أراكس في برج حمود خلال الحرب الأهلية في لبنان. عاصر أبو الياس حربَيْن في بلدين مجاورين بفارق عقدين من الزمن. يتحدّث عن “تكاتف أهل الحارة وعن عيونهم المفتوحة على أي حركة مريبة”. يقول إن كثيراُ من أبناء الحارات “الاصليين” انتقلوا للعيش خارج المنطقة “إما باعوا او أجّروا بيوتهم”.  أو؟ “..هاجروا خارج البلد نهائياً”. لكن أبو الياس يؤكّد أن “روح الشام القديمة وطيبة أهلها لا زالت موجودة كما كانت”. قرب المقهى كان رجلان من “الدفاع الوطني”، وهما من أبناء “الحارة”، يقومان بـ”جولة استطلاعية إعتيادية” وينسّقان “أمراً ما” مع أبو أمين.

 

_3_

 

 

لم يمنع ضجيج الزبائن الشّاب الثلاثيني أمين منصور من سماع صوت أحد العاملين في المقهى مسستفسراً منه عن أمر إجرائي غير طارىء. لم يستسلم الرجل لـ”إغراء” عروض السّفر للعمل خارج البلاد. “على عكس كثيرين فضّلتُ البقاء هنا. قبل الحرب كنتُ أفكّر بالهجرة لكن الحرب علّقتني بالبلد أكثر وصرت أُفتّش عن أي شيء يجعلني أثبت هنا وأنسفُ فكرة السّفر نهائياً”. الشاب الذي نال إجازة في العلاقات الدوليّة والدبلوماسيّة متخصّصاً بالمنظمات الدولية حاول أن يطبّق ما تعلّمه على مقاعد الدراسة. “إذا بدك تأسّس لبعد الأزمة لازم تشتغل بقلب الأزمة وتكون موجود”. يضيف:” التجارة الآن خسارة طالما أن الليرة السورية غير مستقرّة. لذلك فضّلت العمل الخدمي ما بخسر فيه”. يقول أمين: “مع بدايات الحرب تبخّرت أملاكنا في عربين ووالدي كان يعمل في مختبر لطب الاسنان فقرّرت افتح شي يستفيد منو الوالد كمان. قررتُ الإستثمار في “صيف وشتي” وأماكن أخرى إلى جانب وظيفتي الأساسية في مجلس كنائس الشرق الأوسط”. يقول الشاب الذي يعمل ايضاً استشارياً في إحدى المنظمات غير الحكومية إن مشروعه يستهدف فئة الشباب الجامعيين بشكل رئيسي مبدياً، من جهة أخرى، حرصه التّام على عدم التسبّب بأيّ إزعاج لجيرانه من أبناء “الحارة”.

يبدي بعض السُكّان في حارات الشام القديمة إمتعاضاً كبيراً من ضجيج المقاهي و”حياة السّهر” في عُقر دارهم. يقولون إن إنعاش السيّاحة في هذه المنطقة خلال العقدين الماضيين جاء على حساب راحتهم. يتحدث الشاب الطموح مزهوّاً عن مشاريعه مع “البطركية” والتي تدخل في إطار ما يسمّيه “التمكين المجتمعي”. يدير برنامج مِنَح الجمعيات الصغيرة في كامل سوريا. “نشجّع وندعم أشخاصاً فقدوا أعمالهم بسبب الحرب”. كيف؟ “نجري لهم دورة ادارة اعمال ودورة جدوى اقتصادية ونفتتح لهم محلاً برأس مال صغير”. يُعطي مثالاً عن إمراة من داريا صادفها تتسوّل مرّة في الشارع مع أولادها الاربعة. “كانت المرأة تعمل في الخياطة قبل الأزمة وخسرت زوجها وبيتها. حاولتُ إقناعها بتأسيس مشروع خاص بها فاستغربت أول الأمر”. يضيف الرجُل: ” فتحنا لها ورشة خياطة بعد أن أجرينا لها دورة إدارة أعمال، واليوم تشغّل معها 18 فتاة إضافة إلى 27 سيدة بيشتغلوا معها من بيوتهم”. يلفت الشاب إلى أن المرأة هي مجرّد حالة من بين قرابة مئتّيّ حالة تم انجازها خلال سنة واحدة فقط ! برأي أمين منصور فإن المجتمع المدني قادر على لعب دور كبير في المرحلة المقبلة. “الأزمة طلعت من المجتمع ولا بد من التصحيح من داخل المجتمع”!

 

 

_4_

 

يتوقّف الباص رقم 452 بجانب الطريق لأقلَّ من دقيقة واحدة قرب مقهى القلعة في شارع الثورة قبل أن يُكمل سيْره من جهة شارع النصر قبالة قلعة دمشق. قبل تسع سنوات وقف زياد الرحباني أمام جمهور “عاصمة الثقافة العربية” في ذلك الحين مخاطباً الحاضرين بعبارته الشهيرة “دمشق عاصمة أساسيّة”. مؤخّراً غنَّت الفنانة الشابّة فايا يونان في المكان ذاته لكنها أغضبت الجمهور بردّة فعل “غير محسوبة” تجاه أحد معجبيها. لم تتوقّف الحركة في سوق “الحميدية” القريب طيلة سنوات الأزمة رغم تفاوت الإقبال الشعبي من وقت لآخر. لم يتم التأكّد ما إذا كانت إدارة “بوظة بكداش” الذائعة الصيت قد التزمت معايير الجودة بعد إنذار “الشّمع الأحمر” قبل أن يُعاد فتحه لاحقاً. “نأسف لإزعاجكم، حاجز تفتيش”. يضع عناصر الأمن هذه اللافتة الصغيرة عند مدخل “السوق” قبالة ساحة الجامع الأموي. لم تتحقّق رغبة رجب طيب أردوغان بالصلاة في “الأموي” قبل سنوات. غادر إمام الجامع السابق معاذ الخطيب “موقعه” في بدايات الأزمة ولم يعد. لكنّ طيور الأموي في الباحة الخارجية لم تغادره. على بعد أقل من عشرين متراً تنشغل مجموعة من المتطوّعين في جمعية “لأجلك سوريا” في “حملة مليون رسالة شكر للجيش العربي السوري”. يَشِيعُ خبر مقتل الضابط البارز في “الحرس الجمهوري” عصام زهر الدين قرب دير الزور لكنّ الناشطين يواصلون “فاعليّتهم”. تقول رئيسة الجمعية علا حوكان “إن الحملة تهدف لرعاية جرحى ومصابي الجيش، وتساهم في الوقت ذاته في تنمية الروح الوطنية من خلال مشاركة المواطنين سواء في التبرع الرمزي أو من خلال كتابة رسائلهم بخط يدهم”. تُبدي حوكان ثقة كبيرة في الوصول إلى رقم المليون توقيع. “لدينا الآن أكثر من 40 ألفاً. الحملة لازالت في بداياتها وستتمدّد لاحقاً إلى كل المحافظات”. في “سوق القبايبية”، وعلى وقع آذان جامع الأموي الجماعي، يتجوّل عدد من الجنود الرُّوس ببزّاتهم العسكرية لكن بصفة “زبائن” هذه المرّة.

 

_5_

 

 

يُضِلُّ السّائق طريقه من “دوَّار المواساة” نزولاً باتّجاه ساحة الأمويين فينعطف يميناً في طريق فرعية تنتهي عند عدد من البيوت الموزَّعة قرب خط سكّة الحديد القديمة. كثُرَت ظاهرة “سائقي التاكسي الجُدُد” الذين يجهلون أسماء بعض العناوين أو الأماكن في العاصمة. يقول الرجل في الطريق إنه من إحدى قرى محافظة إدلب الدرزية “المحتلّة” ويسكن في جرمانا منذ أربع سنوات. يلفت إلى مشكلة الإكتظاظ الكبيرة في جرمانا وإلى عمله على “الخط” في مهنة الذي لا مهنة له على حد قوله. على الرصيف يتّكىء مواطن على عكازه وقد بُترت إحدى ساقيه.

يطالُ الإهمال أجزاء كبيرة من “حديقة تشرين” إحدى أكبر حدائق العاصمة. عند ساحة الأمويين يبدو شرطي المرور أكثر ثقة في أداء مهمّته. يرى مراقبون أن عودة الهيبة لشرطي السير والتي كان فقدها في السنوات الماضية تعدّ من مظاهر التعافي التي عادت الى مفاصل عديدة في الدولة. يشير هؤلاء مثلاً إلى البدء بسحب السّلاح الفردي ورخص السلاح من أيدي المواطنين وعودة التيار الكهربائي 24/24 ساعة إضافة إلى عودة بعض أصحاب رؤوس الأموال إلى سوريا وبعضهم كان محسوباً على جهاتٍ معارِضة. لا يبتعد عضو مجلس الشعب السّوري صفوان القُرَبي عن هذا “المناخ” مؤكّداً “انتهاء السنوات السبع العجاف”. برأيه فإن “بعض المنغّصات والنيران ستظلّ مشتعلة هنا وهناك”. وبلغة أهل الإختصاص يقول طبيب الأسنان البارع وإبن مدينة أريحا الإدلبية “ستطول المرحلة العلاجية ولكن القسم الجراحي إلى حد ما قارب على الانتهاء”. يرى البرلماني السّوري النشيط إن “الوضع الداخلي أصبح اليوم  جاهزاً لمدّ اليد أكثر الى كل السوريين الذين حملوا السلاح ضد الدولة” يضيف:” الكل يحاول أن يرتّب أوراقه لمرحلة ما بعد الحرب وأن يتكيّف مع الواقع الذي تغيّر لصالح الدولة السورية” مؤكداً “أن سوريا دخلت مرحلة اعادة الإعمار فعلياً منذ معرض دمشق وهناك شخصيات من دول غ ربية تحاول الآن جس النبض”.

يعطي القربي ملف النازحين السوريين في دول الجوار أولوية كبيرة لاسيما في لبنان. يجزم بأنّ ملف النزوح سيشهد انفراجات مهمة مع بداية العام المقبل. برأيه “فإن الدولة السورية لا تريد مناطق خالية من السكان وأن عودة الناس تعطي استقراراً افضل للمناطق التي سيعودون إليها وتعزّز فكرة الأمان الإجتماعي لهؤلاء ما من شأنه أن يعطي أملاً وطاقة بتحريك عجلة الانتاج في البلد”. يقول القربي كلامه قبل أن يعود مجدّداً إلى متابعة حصّة التدريس لطلاب طب الأسنان في إحدى الجامعات الخاصة. لكن في سوريا وخارجها ثمّة من يسأل: إلى أين يعود مَن خسر كلّ شيء دفعة واحدة؟

 

 

 

 

 

 

عن جورنال