الرئيسية » العراق » ليلةٌ عراقيةٌ طويلةٌ: صراعات بغداد تستعر

ليلةٌ عراقيةٌ طويلةٌ: صراعات بغداد تستعر

كانت ليلة الأحد في الثاني من شهر أيلول/سبتمبر الجاري طويلةً في العراق حيث يتنافس طرفان لتشكيل حكومة ما بعد الانتخابات البرلمانية التي أقيمت في شهر أيار/مايو الماضي. ففي غضون دقائق قليلة، عقد أقطاب الطرفين اجتماعين منفصلين عشية جلسة البرلمان الجديد الأولى، وأعلن كلّ منهما تشكيل “الكتلة الأكبر”، وهي عبارة تحيل إلى المادة 76 من الدستور وتنص على أنْ “يكلّف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً بتشكيل مجلس الوزراء”.

 

ظهر يوم الاثنين، التأم نصاب البرلمان، لكن لم ينجح أي من الطرفين في إثبات تقدّمه على الآخر. قد ينتظر العراقيون عدّة جلسات أخر، وقرار المحكمة الاتحادية، لمعرفة هوية “الكتلة الأكبر”، لكن بأي حال، كان لتلك الليلة (ليلة فندق بابل وفندق الرشيد حيث انعقد الاجتماعان)، صداها الواسع في الشارع العراقي وللمتابعين في الخارج. على مستوى أول، عكست التعليقات على مجرياتها ترقباً وخشيةً من التداعيات المحتملة ومستوى متقدّماً من الاستياء المحلي الذي لا بدّ أن تضاف مؤشراته إلى المشاركة الضعيفة في الاستحقاق الانتخابي الأخير. ولعلّ أبرز التعليقات جاءت من الروائي العراقي سنان أنطون، الذي نشر تغريدةً تقول: “قرود وذئاب وضباع المنطقة الخضراء يتفاوضون لتشكيل كتل الفساد والعمالة ذات العناوين السوريالية، والكتلة الأكبر”، مضيفاً أنّ الشعب العراقي يواجه “الجوع والعطش والخراب”. وعلى مستوى ثان، ما حصل زاد تعقيدات المشهد، وأوصلها إلى نقطة حاسمة إذ أثبت أنّ معارك “كسر العظام” بين فريق رئيس الوزراء المنتهية ولايته حيدر العبادي، صاحب أوراق القوّة المعززة بدعم الزعيم السياسي السيّد مقتدى الصدر، وبين فريق سلفه نائب رئيس الجمهورية نوري المالكي الذي يحظى بدعم زعيم “منظمة بدر” هادي العامري وأبرز وجوه “الحشد الشعبي”، قد وصلت إلى مفترق طرق لا يمكن اجتيازه إلا باصطدامهما، أو على أقل تقدير: يصعب عبوره بحصيلة صفرية بينهما.

 

بغداد: لا تتبدّل

 

المواجهة بين ابنَي “حزب الدعوة” المهيمن على رئاسة الوزراء العراقية منذ نحو 12 عاماً، يعود إلى صيف 2014 حين انقلب العبادي على سلفه. كانت الحدّة تخفت بين حين وآخر، لكنّها ظلّت تشكّل أفق العلاقة الثنائية، خاصةً أنّ العبادي كان يحمّل المالكي، ضمنياً، مسؤولية ما وصلت إليه البلاد ومسؤولية تمدد “داعش” من الشمال حتى أبواب بغداد والنجف وكربلاء، ما جعله يحيط نفسه بكل خصوم سلفه، أبرزهم مقتدى الصدر، ومسعود بارزاني (قبل إجراء الأخير استفتاء استقلال إقليم كردستان)، وبدرجة أقل عمّار الحكيم، ويحوز أيضاً على رضا عام من مرجعية النجف الدينية وأبرز دوائرها، وهي ذات الثقل الكبير في العراق وداخل ما يسمى “البيت الشيعي”.

 

برغم أنّ العراق تغيّر كثيراً بين عامي 2014 و2018، إلا أنّ أوجه الصراع الداخلي على “حُكم بغداد” لم تتبدّل، ما قد يعكس عدم مبالاة “عروش العاصمة” و”المنطقة الخضراء” بما يجرى في المحيط القريب قبل البعيد (قد يُذكّر المشهد في بعض جوانبه بقصيدة مظفر النواب، ولو أنّها كُتبت عن القدس: “سيكون خراباً؛ هذي الأمة لابد لها أن تأخذ درساً في التخريب!”).

 

على هذه الخلفية، كانت المواجهة الثنائية بين الرجلين تختزل منذ أشهر عنوان الصراع العراقي المقبل على الحكومة: بين رئيس وزراء يبحث عن ولايته الثانية، وبين شخصية ذات نفوذ كبير تريد، في أقل تقدير، “صناعة رئيس الوزراء”. وكان هذا الصراع يحتدم بدخول شخصيات من خارج “حزب الدعوة” إلى صلبه، فبرز مقتدى الصدر في حلباته تحت شعارات عدّة، مستعيناً بأدات سحرية تتمثل بقدرته على تحريك شوارع بغداد متى أراد، فيما كان المالكي يستميل قيادات “الحشد الشعبي” إلى جانبه وهي الخارجة بنفوذ متعاظم بعد الحرب ضدّ “داعش” (جاءت نتائج الانتخابات لتُثبِّت ركائز هذا المشهد، إذ حصل تحالف الصدر “سائرون” على 54 مقعداً من أصل 329 مقعداً، يليه “الفتح” بقيادة العامري (48 مقعداً)، ثمّ قائمة حيدر العبادي “النصر” (42 مقعداً)، فيما حصلت كتلة المالكي على 25 مقعداً، علماً أنّ قائمة العبادي تعرّضت لخسائر إثر إقالته لفالح الفياض قبل أيام من منصب مستشار الأمن الوطني).

 

تحالفات محلية لرقعة إقليمية

 

لعلّ السبب الأبرز لتفاقم الصراع الداخلي يتمثّل في أنّه بات يعكسُ ترجمةً دقيقةً للمواجهات الإقليمية القائمة، والتي من بين أبرز عناصرها التشدد الإيراني المستجد في إدارة الملف العراقي بسبب الهجمات التي تتعرض لها طهران من تحالف “ترامب ـــ الرياض”، وبدرجة أقل نسبياً، أبوظبي، والرغبة الجدية لدى هذا التحالف في تقويض النفوذ الإيراني في بغداد ومجمل العراق.

 

أمام هذا المشهد المناوئ لطهران، وبعد تجميد ورقة التفاوض الأميركي (المتوازن) معها تحت سقف “الاتفاق النووي”، خسر العبادي دوراً كان يتحضّر له ويريده، أي كأحد “ناقلي الرسائل” بين الطرفين. وفي وقت بدأت فيه الأطراف الإيرانية المعنية مباشرةً بالملف العراقي تستعد لإعادة ضبط عقارب الساعة مع “واشنطن ــــ ترامب” في العاصمة العراقية، من بوابة الانتخابات البرلمانية والحكومة الجديدة، اتخذ العبادي مساراً آخر، يقرّبه من واشنطن.

 

ثمّة من يرى أنّ تلك الأطراف الإيرانية لم تكن متحضّرة إلى مواجهة سياسية في العراق، تشتمل على هذا القدر من العناصر الداخلية المناوئة، وهو توجهٌ يلتقي مع خلاصة (حصيفة) لمدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية جوست هلترمان، تقول إنّ “ألدّ أعداء إيران في العراق هي ثقتها المفرطة بالنفس”!

 

ما قد يزيد من تشدد التعاطي الإيراني مع الملف العراقي راهناً أنّ طهران تتعامل مع واشنطن منفردةً في بغداد، إذ إنّها تُدرك بأنّه مهما كانت التفاهمات الروسية ـــ الأميركية مزعجةً لها في الجارة سوريا، فلا مكان لأيِّ من مثيلاتها في العراق الذي يبقى “ساحةً أميركيةً”. ويوم الاثنين، فُسِّر تصريح لوزير “الدفاع” الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، يقول فيه: “نراقب كل ما يحدث في سوريا بالتأكيد، وبالنسبة للتهديدات الإيرانية فإننا لا نقصر أنفسنا على الأراضي السورية فحسب”، بأنّ بلاده قد تهاجم قطعاً عسكرية يشتبه أنها إيرانية في العراق. أمام جدية هذا التصريح أو عدم جديته، أو حتى اقتصاره على كونه استفزازاً لطهران، فإنّه يُلمح إلى مستوى الضغوط الإقليمية التي تواجهها إيران في العراق في المرحلة المقبلة، ولهذا الأمر انعكاساته العراقية.

 

ضمن هذا المشهد المركّب بأبعاده الداخلية والإقليمية، “يجد المالكي والعامري نفسيهما وجهاً لوجه مع سياسة ترامب وإدارته الصقورية التي تسعى لتقويض النفوذ الايراني في العراق عبر ضرب حلفائها السياسيين الذين يوفرون مظلة الحماية القانونية لفصائل المقاومة العراقية المعروفة بقربها من إيران”، يقول الصحافي العراقي مازن الزيدي، مضيفاً أنّه انطلاقاً “من هذا الاصطفاف، نفهم الدعم الأميركي ــــ السعودي للتحالف الذي يجمع الثلاثي الشيعي (حيدر العبادي، مقتدى الصدر، عمار الحكيم)، وهو محور لا يخفي تقاربه مع السعودية ومعارضته للدور الايراني في العراق والمنطقة، في حالة تماهي نادرة مع سياسات واشنطن، وذلك برغم وجود معارض تقليدي لأميركا في هذا المحور كزعيم التيار الصدري”.

 

ماذا يريد الصدر؟

 

لا تزال اصطفافات مقتدى الصدر تطرح أسئلة جمّة، في ظلّ دوره الحالي الذي سبقه تقارب مع السعودية ولقاء ولي عهدها محمد بن سلمان، فضلاً عن تحريك خطاب شعبوي ضدّ إيران. فما هي أهدافه؟

 

في عام 2016، حرّك الصدر الشارع العراقي تحت شعار محاربة الفساد والإصلاح، وقد تُوّج ذاك التحرّك باقتحام أنصاره للمنطقة الخضراء في 30 نيسان/أبريل. بعد أكثر من عامين على تلك الأحداث التي ستتطوّر بحيث يُرفع فيها شعار “العراق أولاً… وإيران برا” (سيهابه البعض على اعتبار أنّه يحضّر لــ”فتنة شيعية ــــ شيعية في بغداد”)، قد يمكن القول إنّ ما بدأه الصدر في حينه، أمّن له في نهاية المطاف الكتلة البرلمانية التي يحوز عليها اليوم.

 

يرسم الباحث العراقي حارث حسن، في مقالة نشرها إبّان تلك الاحتجاجات بعنوان “سقوط الخضراء في بغداد”، صورةً لتموقع الصدر في ظلّ النظام القائم في العراق، معتبراً أنّ الرجل “ظل يراوح بين نزعة الاحتجاج والتمرّد التي تتصف بها قاعدته الاجتماعية، وبين الاعتدال والواقعية بعد مواجهات عسكرية وسياسية مع الاحتلال وحكومتي علاوي والمالكي”، مضيفاً أنّه “عاش صراعاً بين نسقين قيميين، الأوّل يدفعه إلى التمرد واستدعاء النزعة الثورية والمقولات الجذرية المؤسِّسة للتيار الصدري الحركي، وآخر يدفعه إلى الانسجام مع الواقع والقبول بمقعد في الطاولة المستديرة”. ويستدرك حسن بالقول: “مؤخّراً، ومع تنامي النزعة الاحتجاجية في الشّارع الشيعي، وتصاعد الفجوة النفسية بين المنطقة الخضراء ومحيطها الأحمر، ومع تراجع الموارد (بسبب انخفاض أسعار النفط والحرب ضدّ داعش) واحتدام التنافس داخل، وبين، الشبكات التوزيعية المنظِّمة لعلاقة السلطة بالمال في العراق، وجد الصدر أنّ مقعداً واحداً في الطّاولة المستديرة مع بقيّة الزعماء السياسيين لن يكون كافياً لاستيعاب الجَيَشَان الاحتجاجي في الشارع الذي يعده بسلطة من نوع آخر غير الوزارات والمقاعد البرلمانية، وهو الوحيد القادر على إخراج عشرات الآلاف إلى الشّارع وإعادتهم منه ليلاً”.

 

على هذه الخلفية، تفيدُ غالبية المعطيات المتراكمة خلال العامين الماضيين بأنّ الصدر لن يكتفي بــ”مقعد واحد في طاولة السلطة”، وقد عزز تحرّكه بمسارين آخرين: الأول، السعي لإضعاف “حزب الدعوة” النخبوي والمهيمن في “الشارع الشيعي” بما يؤمّن له حضوره، وأما الثاني، فالسعي لتثبيت “الخطاب الوطني العراقي”. بالنسبة للمسار الأول، فقد اتضح ذلك من دعوته العبادي، قبل أسابيع، إلى الخروج من “الدعوة” في حال أراد أن ينال دعمه لمنصب رئيس الوزراء، لكنّه سرعان ما تنازل عنها لما تكتنفه من مخاطر. وبالنسبة للمسار الثاني، فهي أولأً تستند إلى إرث “صدري” عائلي، وهي ثانياً تتفق والتوجهات الحالية للمرجعية الدينية، بما يسمح له أيضاً بالحضور ضمن دوائر المرجعية النافذة ولعب دور في التحضير لمرحلة “ما بعد السيستاني”. من شأن نجاح هذين المسارين أن يضعا الصدر في مقدّمة “البيت الشيعي” في المدى البعيد، إنّما من دون أن يعني ذلك، بالضرورة، مواصلة تحريك الخطاب الشعبوي ضدّ إيران، ولا أن يكون حليفاً تاماً لها. لكن يبقى السؤال: هل سيتراجع الصدر عن دعم العبادي في لحظة ما؟

 

محمود مروة عن موقع “المراسل”

لقراءة النص الكامل :

 

http://al-morasel.com/2018/09/%D9%84%D9%8A%D9%84%D8%A9%D9%8C-%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9%D9%8C-%D8%B7%D9%88%D9%8A%D9%84%D8%A9%D9%8C-%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9%D8%A7%D8%AA-%D8%A8%D8%BA%D8%AF%D8%A7%D8%AF-%D8%AA%D8%B3%D8%AA

 

عن جورنال