ليست صدفة تلك التي دفعت “قصر اليمامة”، مقر الحكم الملكي في الرياض، والذي يتسم عادة بالحذر والبطء قبل التحرك حتى امام حدث مهول، الى إيفاد رأس الدبلوماسية وزير الخارجية الامير فيصل بن فرحان الى بغداد، بعد اقل من 48 ساعة على اشتعال “طوفان الاقصى”. (خليل حرب)
وبالمثل، فانها ليست صدفة ان تورد رئاسة الحكومة العراقية ما أغفله – أو أسقطه- بيان البيت الابيض، حول مضمون الاتصال الهاتفي بين رئيس الحكومة محمد شياع السوداني والرئيس الاميركي جو بايدن في 16 تشرين الاول/أكتوبر، وتحديدا الفقرة التي يقول فيها الزعيم العراقي ان “استمرار العدوان على غزة يثير غضب الشعوب في المنطقة والعالم”.
تعكس هاتان الواقعتان ان العراق في موقع المربك. ويتعزز هذا الاحراج في الطريقة التي صوت فيها العراق لصالح مشروع القرار العربي الذي قدمه الاردن باسم المجموعة العربية امام الجمعية العامة للامم المتحدة لاعلان هدنة انسانية في غزة، حيث ساهم العراق برعاية المشروع، لكن التصويت الالكتروني أظهر انه إمتنع عن التصويت، ليعود الوفد العراقي في نيويورك، ويطلب بعد ساعات، تعديل تصويته، ليصبح ضمن “المؤيدين”.
ونسبيا، تبدو بغداد بعيدة جغرافيا عن فلسطين المحتلة (فالمسافة مثلا بين العاصمة العراقية والقدس حوالى 900 كيلومتر)، لكن في ذاكرة العديد من العراقيين والفلسطينيين- ان جنود الجيش العراقي ساهموا في منع احتلال العصابات الصهيونية لمدينة جنين الفلسطينية في العام 1948، وما تزال مقبرة الشهداء العراقيين قائمة هناك تخليدا لذكراهم.
غير ان محمد شياع السوداني، يواجه الآن، ما هو أكثر خطورة من إحياء الإرث البطولي المتعلق بالقضية الفلسطينية. عند معبر طريبيل الحدودي مع الاردن يتزايد إحتشاد المتظاهرين المعتصمين -والغضب- وتتعرقل شحنات النفط العراقية المخفضة الاسعار الممنوحة الى الملك الاردني عبدالله الثاني، وتعلو هتافات “اعطيني الفتوى، وشوف بعينك”، في دلالة على الرغبة في صدور فتوى من المرجعية الشيعية العليا في النجف من اجل “الجهاد” ضد اسرائيل. وفي بال رئيس الحكومة العراقي أيضا ان القواعد العسكرية الاميركية صارت منذ 17 تشرين الاول/أكتوبر، تتعرض لهجمات شبه يومية.
لا جبهات عسكرية مفتوحة “رسميا” في وجه اسرائيل من جانب الدول العربية، لكن طبيعة المشهد السياسي في بغداد، يكاد يجعل من شبه المستحيل عليها فعليا، ان تظل خارج مفاعيل معادلة “وحدة الجبهات” التي تجمع قوى المقاومة في فلسطين ولبنان وسوريا واليمن.
واذا كانت إسرائيل لم تظهر -حتى الان على الاقل- إهتماما يذكر بمدى تأثير هجومها الوحشي على الفلسطينيين في قطاع غزة المحاصر والضفة الغربية المحتلة، على المواقف المتقاعسة للحكومات العربية القريبة والبعيدة، فان الولايات المتحدة هي التي يفترض بها ان تشعر بالقلق فعليا.
تهدد حرب الابادة التي تشنها اسرائيل على غزة تحديدا، بالاطاحة بالمنجز اليتيم الذي تبقى أمام الاميركيين للتباهي ولو دعائيا، بما أنجزوه من أهداف في غزوهم للعراق في العام 2003، والمتمثل بحسب اعتقادهم باقامة نظام ديمقراطي كبديل عن نظام الحكم الاستبدادي الذي كان قائما وقتها، ذلك ان عتاة المنظرين الاميركيين، وهم من القلة التي لا تزال تدافع وتحاول تبرير الغزو ومحاسنه، ان وجدت، خسرت فعليا كل أوراق دعايتها امام الاميركيين أنفسهم، وبقية العالم، بان تلك الحرب كانت حتمية وأهدافها نبيلة، تماما مثلما تخسر الولايات المتحدة في حرب غزة حاليا، آخر مظاهر الاحترام والهيبة.
يقول مراقبون ان الزيارة العاجلة لفيصل بن فرحان الى بغداد، كانت تعكس إدراكا سعوديا (وبايعاز اميركي غالبا) بحساسية الموقف في العراق، وربما الاهم قناعة المملكة بان العراق قد لا يبقى بعيدا عن ساحة المواجهة فيما لم توسعت الحرب، او تخطت اسرائيل “الخطوط الحمر” التي يبدو ان “محور المقاومة” قد وضعها: أي الاجتياح البري لغزة، ومحاولة اقتلاع حماس والمقاومة الفلسطينية بالكامل من القطاع، و/او لجوء حكومة بنيامين نتنياهو الى محاولة قلب المعادلات على الجبهات الاخرى.
ويصبح بديهيا بالتالي ان يسقط البيت الابيض من بيانه حول محادثات بايدن الهاتفية مع السوداني، اشارة رئيس الوزراء العراقي الى “غضب الشعوب” مما يجري في المنطقة، ثم تتعمد رئاسة الحكومة العراقية ان توردها في بيانها حول الاتصال الهاتفي.
فبينما لواشنطن حساباتها، فان للسوداني حساباته أيضا. فأن تكون رئيسا للوزراء في العراق بلا قاعدة حزبية وبرلمانية ولا سياسية كافية، تتيح لك النجاة من عواصف الحرب الاقليمية التي تلوح في الأفق، يعني بالتأكيد كابوسا لاي زعيم سياسي.
الواقعة الاخرى التي تعكس ارتباكا ما في بغداد، تتمثل في الالتباس الذي حصل في جلسة نيويورك، اذ بينما يؤيد العراق بالتأكيد وقف الحرب الاسرائيلية على الفلسطينيين، ولو تحت تسمية الهدنة الانسانية، فانه لا يمكنه في الوقت نفسه تجاهل ان مشروع القرار يتضمن اشارات الى نقطتين حساستين بالنسبة الى العراقيين: الاولى تتعلق بالحديث عن “حل الدولتين” بينما يجرم القانون العراقي المطبق منذ ايار/مايو 2022 التطبيع مع اسرائيل وبالتالي فهو لا يعترف بها، والثانية تتعلق بالتنديد “بكل اعمال العنف الموجهة ضد المدنيين الفلسطينيين والاسرائيليين ولا سيما الاعمال الارهابية والهجمات العشوائية”، وهو ما يحمل بحسب ما قاله متحدث باسم وزارة الخارجية العراقية “مساواة بين المدنيين من الفلسطينيين وأعدائهم”.
كابوس السوداني ينسحب الى أروقة السياسة الداخلية في بغداد. اذ يقول المراقبون انه من المؤكد ان قوى “الاطار التنسيقي” التي أتت بالسوداني الى السلطة، وتوفر له قاعدتي الحماية (البرلمانية والسياسية)، لن تقف مكتوفة الايدي فيما لو سمح الاميركيون لنتنياهو ان يطلق العنان لجنونه اقليميا. في قلب قوى “الاطار”، فصائل عراقية تجاهر بانتمائها الى “محور المقاومة”، وترتبط بعلاقات وثيقة مع ايران وحزب الله اللبناني، وتعتبر وفق خطابها السياسي المعلن ان فلسطين قضية مركزية لها.
كان زعيم منظمة بدر هادي العامري من أوائل قادة قوى “الاطار التنسيقي” الذين رفعوا اللهجة وذلك بعد يومين من هجوم المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر/تشرين الاول، عندما اطلق تحذيرا قال فيه انه في حال “تدخلت أميركا في فلسطين سنتدخل ولا نتردد في الاستهداف”.
ولم تكن ملامح الانخراط الاميركي قد تبلورت وقتها، ولهذا فانه مع مرور الوقت، وظهور المزيد من المؤشرات على حجم الدور الاميركي في المعركة، والتهديدات الاميركية الضمنية والعلنية بمنع أي طرف اقليمي “ثالث” من التدخل فيها، بما في ذلك اتصالات ورسائل من قادة غربيين الى بغداد، قال المتحدث باسم كتائب حزب الله جعفر الحسيني ان “الاميركيين شركاء أساسيون في قتل سكان غزة، وبالتالي عليهم ان يتحملوا العواقب”.
يراهن الغرب، وتحديدا الولايات المتحدة، من خلال رسائل الترهيب المرسلة الى بغداد، على دفع السوداني للعمل بالوكالة ضمن “جبهة الاحتواء”، وبالتالي محاولة إجباره على الاصطدام بمن يسميهم الغرب “وكلاء ايران” العراقيين. ويعني ذلك، ان اشتباكا عراقيا داخليا، سيقود الى ضياع عام كامل من الهدوء العراقي النسبي الذي إتسم به العام الاول من ولاية حكومة السوداني، وفقدان كل الجهود التي بذلت من أجل تعزيز إندماج العراق اقليميا، وابعاده عن ايران، مقابل علاقات أكثر متانة مع دول مثل مصر والاردن والسعودية والامارات.
وتقول مصادر عراقية ان اتفاقية وضع القوات المعروفة باسم “SOFA” بين بغداد وواشنطن، قد تكون من اوائل “ضحايا” التصعيد الاسرائيلي في غزة او التورط العسكري الاميركي الفظ في الحرب. ان تحرك العراقيين المرجح لالغاء الاتفاقية التي يفترض انها تنظم الوجود العسكري الاميركي في العراق، يعني ان مهمة هذه القوات وطبيعة وجودها ودورها (عراقيا واقليميا)، ستصبح لاشرعية بالكامل، وهو ما سيساهم في إخراج العراق بالكامل من الفلك الاميركي، بعد 20 سنة من الغزو.
وغالب الظن، ان ضحية ثانية سقطت بالفعل في سياق تداعيات الزلزال الفلسطيني، وهي تتعلق بالنسخة الثالثة من مؤتمر بغداد الاقليمي-الدولي، مع النيران الواسعة في المنطقة، ما يشكل نكسة حقيقة لنفوذ فرنسا ودورها الاقليمي والعراقي والذي كان أكسبها صفقة عملاقة قيمتها أكثر من 27 مليار دولار من خلال شركة “توتال اينرجيز”.
“الايادي على الزناد” كما قال الايرانيون مرارا، لا في سياق التهديد فقط، وانما في اطار الضغط ايضا من اجل اجبار الاميركيين على ردع المجانين في اسرائيل. ولقد قامت بغداد بالفعل كما قال أكثر من مسؤول فيها، بتوصيل رسالة اميركية وغربية الى طهران مفادها ان التهدئة مطلوبة، كما نقل العراقيون الى الاميركيين ضرورة العمل على عدم الاصطدام بحزب الله اللبناني، اذا كانت واشنطن فعلا تريد احتواء النيران اقليميا. وليس سرا مدى ارتباط الفصائل المندرجة في المقاومة العراقية، بحليفهم الرئيسي المتمثل بحزب الله والذي قد يشكل موقفه من تطورات المعركة الكبرى -ان جرت- مؤشرا لها لوجهة دورها المحتمل، بما قد يتخطى في حال اقتضت مصلحة “محور المقاومة”، المرحلة الاولى القائمة حاليا والتي تتضمن الاكتفاء بالاستهداف المحدود الجاري ضد مواقع الاحتلال الاميركي في العراق، سواء في عين الاسد او قاعدة حرير قرب اربيل، وصولا الى دير الزور والحسكة والتنف في سوريا.
ولهذا، فان السؤال الحقيقي فعليا يتعلق لا بما اذا كانت الفصائل العراقية ستنخرط في اي حرب كبرى ام لا، وانما بما اذا كانت واشنطن بدرجة من الانقياد الاعمى لاسرائيل، بما يجعلها تتجاهل ان خلف كل هذه الشرارات العراقية والاقليمية، أبواب للجحيم.
https://new.thecradle.co/articles/between-iraq-and-a-hard-place-sudanis-us-dilemma-over-gaza