هناك ما يبدو كأنه تحريك للمياه الراكدة بين دمشق وأنقرة. إلا أن الغيوم بينهما من السوداوية لدرجة أن الانفراج الوشيك يبدو مستبعدًا.
ومع ذلك، هناك رهان عراقي بأن بغداد قد تكون قادرة على كسر الجليد بين الأتراك والسوريين، وتكرار ما فعلته بين السعوديين والإيرانيين قبل 3 أعوام، عندما جمعتهما للمرة الأولى في لقاء سري في نيسان/أبريل العام 2021، بناء على ما طلبه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان من رئيس الحكومة العراقي السابق مصطفى الكاظمي عندما زار الرياض، ثم تولّى بعدها مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي جس نبض الإيرانيين، فجرى إطلاق الجولة الأولى من سلسلة الحوارات والتي مهّدت لاحقًا إلى دخول الصين على خط المصالحة، وإعلان التطبيع بين الرياض وطهران من العاصمة بكين في آذار/مارس 2023.
ولهذا، فإن كلام رئيس الحكومة العراقي محمد شياع السوداني لصحيفة “خبر تورك” التركية في 31 أيار/مايو الماضي، أثار زوبعة من التكهنات والآمال، كما المخاوف من الفشل. وبعدما ذكّر السوداني بدور بغداد في المصالحة السعودية -الإيرانية رغم صعوبة الموقف بينهما بعد سنوات من القطيعة والعداء والتنافس، قال السوداني إنه يحاول “خلق مثل هذا الأساس للمصالحة والحوار بين سوريا وتركيا”، متحدثًا عن مناقشات مستمرّة حول هذه المسألة يجريها مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس السوري بشار الأسد، لافتًا إلى أن بعض الخطوات في هذا الصدد قد تتّخذ قريبًا.
بعدها بـ 5 أيام، كان السوداني يجري اتصالًا هاتفيًا بالأسد. لم تشر البيانات الرسمية الصادرة من بغداد ودمشق، إلى أي نقطة بحث تتعلّق باحتمالات التهدئة السورية -التركية. لكن مصدرًا حكوميًا في العراق قال لوكالة أنباء “شفق نيوز” العراقية، إن هناك مساع عراقية لتذويب الخلافات ومحاولة إعادة العلاقات إلى سابق عهدها، وإن بغداد ستشهد قريبًا اجتماعًا يضم ممثلين عن أنقرة ودمشق حول طاولة حوار التزامًا بالوساطة العراقية التي أثمرت “نتائج إيجابية عبر اتصالات ولقاءات ثنائية غير معلنة”. وتلقّى بحسب ادعاء المسؤول العراقي، ترحيبًا من جانب سوريا وتركيا.
ورغم ذلك، فإن المدير العام السابق للأمن العام اللبناني اللواء عباس إبراهيم، المعروف بعلاقاته الإقليمية الواسعة، يكاد يجزم بأنه “لن تكون هذه المصالحة ما دام هناك احتلال تركي لأراض سوريا”. ويقول إبراهيم لموقع The Cradle، إن “تركيا تضع شروطًا سياسية للانسحاب من المستحيل أن تقبلها سوريا لأنها تمس سيادتها”.
الكاتب اللبناني محمد نور الدين، المختص بالشؤون التركية، يذهب أبعد من ذلك لتفسير تعثّر الجهود السابقة بما فيها الروسية، للصلح بين دمشق وأنقرة، ويقول لموقع The Cradle إن “وجود أردوغان في السلطة عامل حاسم في عدم التوصّل إلى مصالحة مع سوريا، فهو تصالح مع الجميع، إسرائيل والسعودية والإمارات ونسبيًا مع العراق، لكنه لم يتصالح مع سوريا”، ذلك أن ما يحرّكه هو “الأيديولوجيا العثمانية” وأنه في عمق تدخّله في سوريا يحمل فكرة احتلال كامل الشمال السوري، في إطار استعادة ما يعرف بحدود “الميثاق الملي” للعام 1920، والتي كانت تضم الشمال السوري ضمن الحدود التي أقرّها ورسمها البرلمان العثماني حينها.
قناعات اللواء إبراهيم ونور الدين وغيرهما، لها ما يبرّرها بالتأكيد. في الأول من شهر حزيران/يونيو الحالي، طرح وزير الدفاع التركي يشار غولر، ما بدا أنه الرد على تصريحات السوداني للصحيفة التركية، حيث أعاد تحديد الشروط لمثل هذا التقارب قائلًا “نحن مستعدّون لدعم إقرار دستور شامل (في سوريا) وإجراء انتخابات حرّة وتوفير بيئة تطبيع وأمن شاملة، وبعد أن يتم ذلك، ويجري ضمان أمن حدودنا بشكل كامل، قد نفكّر في الانسحاب إذا لزم الأمر”.
ولهذا، وكما يقول نور الدين، لأن “تركيا لا تريد المصالحة مع سوريا إلا بشروطها، فإن هذه المصالحة متعثرة”.
ومع ذلك، فإن “صخرة سيزيف” التي يتحتّم على العراقيين دفعها لمصالحة دمشق وأنقرة، قد لا تكون أسطورة مستحيلة في نهاية المطاف. استقر الأمر لأردوغان بعد فوزه في الانتخابات، ولم يعد بحاجة للتلويح بالورقة السورية أمام الناخبين والذهاب إلى موسكو لإظهار الرغبة المضلّلة بالتقارب. هناك الآن استحقاقات تفرض معادلات، وحسابات مغايرة.
صحيح أن الحمى الانتخابية في أميركا حاليًا، إلا أن حرارتها تلمس في تركيا أيضًا. هواجس من الماضي ستعود، في حال نجح الجمهوري دونالد ترامب في إخراج جو بايدن من البيت الأبيض. ولا يزال أردوغان يستذكر كيف قرّر ترامب بين ليلة وضحاها الحديث عن عبثية الوجود العسكري الأميركي في الشرق السوري، وضرورة سحب الجنود الأميركيين من هناك، وهو خروج سيجبر الأتراك على إعادة حساباتهم في التعامل مع مناطق “الإدارة الذاتية” للأكراد في شمال شرق سوريا، وقد يفتح بابًا ضروريًا للاتصال بدمشق.
و”الفراغ” في الشمال السوري، مرعب بالنسبة لأنقرة. ففي ظل الحرب الإقليمية المشتعلة في المنطقة منذ أكثر من 8 شهور، تزايدت تقديرات المحلّلين الأميركيين بأن مسألة الوجود العسكري الأميركي في شرق الفرات السوري، قد تنتهي تقريبًا في ظل تصاعد هجمات من فصائل المقاومة العراقية والسورية ضدها.
وقد أبرمت إدارة بايدن تسوية تبدو مؤقتة مع حكومة السوداني، بوقف اغتيالاتها وغاراتها على الأراضي العراقية ضد فصائل المقاومة، مقابل أن التوقف عن استهداف القواعد العسكرية الأميركية، بينما فتح باب المحادثات بين واشنطن وبغداد للبت بمصير قوات الاحتلال الأميركي. وقد عزّزت هذه التطورات التقديرات القائلة بأن القوة الأميركية المتمركزة في الشرق السوري، أصبحت أكثر انكشافًا وعرضة للخطر، لكن فكرة سحبها الآن، في موسم انتخابي، ستثير الكثير من الانتقادات ضد بايدن، وصارت الترجيحات تشير إلى أن انسحابًا كهذا قد يتم في العام الذي يلي الانتخابات، سواء بقي بايدن في منصبه، او أخرجه ترامب من الحكم.
قبل يوم واحد فقط من الاتصال الهاتفي بين السوداني والأسد، قال وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، فيما بدا ردًا على وزير الدفاع التركي، إن الشرط الأساسي لأي حوار سوري- تركي، يتمثّل “بأننا لا نتفاوض مع من يحتل أراضينا.. ولا يجوز استمرار احتلال تركيا لأراضينا ودعم القوى الإرهابية والمسلحة في الشمال السوري”، مذكرًا بموقف دمشق القائل بضرورة وجود تعهدات تركية دقيقة تعكس الالتزام بالانسحاب ووقف الدعم للتنظيمات الارهابية.
ويقول المحلّل السياسي التركي البتاكين دورسون أوغلو إن “المغامرة السورية” لأردوغان “لم تجلب أعباء اقتصادية واجتماعية لأنقرة فحسب، بل جلبت أيضًا أعباء جيوسياسية”، مذكرًا كيف ضغط أردوغان على الأميركيين لمنع دمشق من القيام بعملية عسكرية لتحرير إدلب من قبضة الفصائل المسلحة في العام 2018، “فتشكّلت منذ ذلك الوقت معادلة بين شرق الفرات وإدلب تضمن وجود كل منهما للآخر، وأنه في حين تحظى دولة وحدات حماية الشعب (الكردية) في شرق الفرات بدعم الولايات المتحدة، فإن إمارة هيئة تحرير الشام في إدلب، محمية بشكل مباشر من قبل أنقرة”.
وبعدما يقول دورسون أوغلو إنه في حال استعادت سوريا إدلب “فهذا يعني أن آلاف المسلحين، الذين تعتبرهم أنقرة إرهابيين، سيأتون إلى تركيا، ولهذا فإن أنقرة تحاول حل قضيتي شبه الدولتين اللتين تشكلان تهديدًا لأمنها القومي وتشكّلان مسألة جيوسياسية مهمة بالنسبة لها”.
عناصر أخرى في المعادلات تتحرّك. عارضت وزارة الخارجية الأميركية، الانتخابات البلدية التي كانت مقررة في 11 حزيران/يونيو الحالي، في مناطق سيطرة الأكراد في شرق الفرات، ما أجبر سلطات “الإدارة الذاتية” على تأجيلها حتى شهر آب/أغسطس المقبل. وبرّرت الوزارة الأميركية موقفها قائلة إن أي انتخابات تجري “يجب أن تكون حرة ونزيهة وشفافة وشاملة”، وهي شروط غير متوفّرة في شمال شرقي سوريا حاليًا.
خرح أردوغان في اليوم ذاته معلنًا أن بلاده لن تسمح لحزب العمال الكردستاني بإنشاء دويلة “إرهابية” شمالي سوريا والعراق، خارج حدودها الجنوبية.
مضى شهران تقريبًا على زيارة اردوغان الأولى من نوعها إلى بغداد منذ 12 سنة. هدفه المركزي كما يقول مصدر عراقي لموقع The Cradle هو التقارب مع العراق حول “ملف الإرهاب”. يريد أدروغان رأس حزب العمال الكردستاني وقوات سوريا الديمقراطية “قسد”. لم يقم الرئيس التركي بزيارته العراقية إلا بعدما أعلنت الحكومة العراقية أنها “حظرت” حزب العمال الكردستاني، وهي خطوة مهّدت لتفاهمات أمنية، كشف أردوغان عن مضامينها عندما قال إن بلاده تعتزم تعزيز “الحزام الأمني” التركي الممتد في الأراضي العراقية والسورية، لسد المنافذ التي يستغلها الحزب.
سبق لأردوغان أن حاول تقويض حزب العمال في العراق بعمليات عسكرية كبيرة وغارات شبه يومية خصوصًا في شمال البلاد وإقليم كردستان وجبال قنديل بشكل خاص، لكنه لم يفلح. اضطر الآن إلى طرق أبواب بغداد ليقيم “تحالفًا” معها، ويقدّم إغراءات عديدة بينها زيادة تدفقات المياه، وتبنّي مشروع “طريق التنمية” العملاق، وهو مشروع يبدو بالنسبة لأنقرة، مستحيلًا طالما أن طرقاته وسكته الحديدية تتطلب المرور عبر أراض يتمركز فيها من تعتبرهم “إرهابيين”.
الانتخابات في مناطق سيطرة الأكراد السوريين، كانت ربما تعني تعجيلًا بالغزو التركي الموعود. وربما آخر ما في حسابات بايدن الانتخابية، اشتعال حرب جديدة في المنطقة.
ويقول الباحث والكاتب التركي محمد علوش من جهته، لموقع The Cradle إن تركيا لم تتمكّن من تقويض “المشروع الكردي” كاملًا في شمال العراق والوضع مشابه في سوريا أيضًا بدرجة كبيرة، ولهذا على أنقرة التعاون مع دمشق وتوسيع هامش التعاون، موضحًا أن قضية الإرهاب يمكن أن تشكّل حافزًا مشتركًا بين البلدين للتركيز على مزايا التعاون في مكافحة المشروع الانفصالي الكردي، وعلى تركيا أن تتعاون مع دول الجوار”.
جواد جوك، وهو مستشار مركز الدراسات الاستراتيجية في تركيا، يبدو أكثر تشاؤمًا، ويقول لموقع The Cradle إن “المعارضة التركية تضغط بشكل كبير فيما يتعلّق بقضية عودة اللاجئين السوريين في تركيا، وضرورة أن يكون هناك تعاون بين أنقرة ودمشق، ولكن الحكومة التركية لا تتجاوب مع هذه الضغوط، وكأنها لا تريد ترحيل اللاجئين ولا التحرك السياسي التركي نحو دمشق، وطالما أن الحكومة التركية صامتة في هذا الموضوع فذلك يعني أنه لا يوجد خطوات ملموسة من قبل أنقرة حول التطبيع مع دمشق”.
لكن المحلّل والكاتب السوري مهند الحاج علي يقول لموقع The Cradle إن هناك “مبادرة عراقية مبنية على المبادرة الروسية السابقة وهناك تسريبات تقول بأن تركيا وافقت على الانسحاب من الأراضي السورية وهذا شرط سوري أساسي للتطبيع مع أنقرة، وفي حال صدقت التسريبات فهذا يعني أن سوريا حصلت على الضمانات لكافية بالانسحاب التركي من الأراضي السورية”.
قد تكون “لملمة الخسائر” هدفًا من أهداف أردوغان في المرحلة المقبلة بعد فوزه الهش في انتخابات العام الماضي. ويقول دورسون أوغلو، المحلّل السياسي التركي، إن “تركيا كانت أهم عضو في التحالف الدولي الذي فرض حربًا بالوكالة على سوريا، وهي الدولة التي تشترك معها في حدود يبلغ طولها حوالى 900 كيلومتر. لو انتصر هذا التحالف في الحرب لكانت تركيا الرابح الأكبر، لكن منذ خسارة الحرب أصبحت تركيا الخاسر الأكبر”.
المقال منشور بالانكليزية
على موقع
The Cradle
https://thecradle.co/articles/can-iraq-broker-peace-between-syria-and-turkiye