قد تكون المرحلة التي نمرّ بها اليوم من أكثر المراحل التي نحتاج فيها إلى الاتّحاد والتّقارب والإخلاص وصفاء النّوايا وطهارة القلوب في سبيل الوطن الواحد.
ولكن، ثمّة أصوات تُسمع بين الحين والآخر تطالب بالفرز والانقسام، وكأنّ هذا البلد لا يكفيه كلّ ما يمرّ به من شرور ومآس وخسائر تراكمت على مدى عقود لتأتي صفعة خماسيّة الأبعاد تسلخ أبناء الوطن وتدعو إلى عزلهم عن بعضهم البعض.
ومتى كان الانعزال والتّقوقع سبيلًا لحلّ المشكلات؟ هل بإقامة السّواتر والحواجز تبنى الأوطان؟ لِمَ إعادة بثّ العدائيّة والكراهيّة والأحقاد في النفوس؟ مِن مصلحة مَن تغريب الشّركاء في الوطن والنّظر إليهم على أنهم من كوكب آخر؟
التّعاون والنّوايا الحسنة ليسا شرطين كافيين كي يستطيع اللبنانيّون الخروج من الأزمة الرّاهنة، لكنّهما شرطان لازمان للحدّ من تداعيات هذه الأزمة ووضْع لبنان على سكّة الانفراج.
ولدْنا من رحم تربة واحدة، كبرنا على صوت فيروز ووديع الصافي، نمسح من ذاكرتنا أصوات القذائف ونتف شظايا فضيّة مبعثرة، وألواح زجاج مهشّم، وشعر لعبة بلاستيكيّة أنهكها غبار القنابل العنقوديّة فارتمت هناك تحت الخزانة.
لو اجتمع كلّ اللبنانيّين بأحزابهم وطوائفهم وشرائحهم المختلفة، وهم مزوّدون بالنّوايا الحسنة لإخراج البلد من الأزمة لوجدوا صعوبة بالغة في ذلك، فكيف سيكون حال البلد فيما هم ما زالوا مشرذمين مختلفين على خلفيّات حزبيّة وطائفيّة؟
ماذا جلبت لنا الفتن الداخليّة سوى المزيد من الموت؟ ألم يحن الوقت ليتعظّ اللبنانيون ويتكاتفوا ويترفّعوا عن غرائزهم وانتماءاتهم الضيّقة، ويعودوا إلى الانتماء الصّحيح ويكونوا لبنانيين حقيقيّين مرّة واحدة، ويبنوا وطنًا يليق بهم، ويكون انتماؤهم إلى الوطن لا إلى الطائفة، إلى الوطن لا إلى الزعيم، إلى الوطن لا إلى السّلطة؟
تبقى” التجربة اللبنانيّة” فريدة من نوعها على أكثر من صعيد إذ يصعب القياس عليها، منذ نشوء دولة لبنان الكبير، وإلى ما بعد مرور مئة عام على تأسيسها، تبدو وكأنّها لا تزال في مرحلة الحضانة، تتعثّر في خطواتها، لا تمتلك القدرة على الوقوف بثبات وصلابة.
هذا القصور في عمر الدولة، وإخفاقها في تحقيق أبسط مقوّمات العيش الكريم، انعكس على بنية تفكير الكثير من الشّعب الذي لا يفتأ ينتقل من متاهة إلى أخرى مغشيًا عليه، لا بل إنّ البعض فقَدَ الإيمان بقدرته على الإنجاز، وهو يجد مَن في موقع القرار ينسف المعايير، ويخالف الأحكام.
لكن الكلمة هي للإنسان الذي من أجله وجِدَت الدولة، والتّمسّك بالحقّ – مهما بلغ شأو الفساد- هو سبيل لاستعادة ما سُلِب معنويًا وماديًّا.
في النّهاية، يبقى لنا أن نختار إمّا أن نبقى في مرحلة الحضانة أو أن ننتقل إلى مرحلة الرُّشد…
نازك بدير
أستاذة في الجامعة اللبنانيّة