كانت الامبراطورية البابلية الدولة الاقوى في العالم خلال القرن السادس قبل الميلاد. من قبلها، كانت الامبراطورية الاكادية تتمتع بأول جيش في العالم دائم التجهيز والتسلح لاي معركة.
مفارقة ان يضطر أحفاد هؤلاء، ان يشاهدوا بغصة، كيف تداعت بعض مدنهم، كالموصل مثلا، أمام عصابة من الارهابيين في العام 2014. فبخلاف ما ادعى الاميركيون قبل 20 سنة ب”تحريره” وجعله منيعا ومستقرا، كان العراق قد جرى تهشيمه، أمنيا وعسكريا، برغم ان جنرالات البنتاغون، زعموا انهم خلال 8 سنوات من الاحتلال المباشر، اعادوا- ويعيدون- بناء قوة العراق العسكرية بالتدريب والسلاح والتعبئة.
بحسب موقع “غلوبال فاير باور” الاميركي، يحتل العراق الان المرتبة ال45 عالميا بترتيب قوة الجيوش. واذا لم يكن القرار بحل الجيش في 23 حزيران 2003، كافيا، فان سنوات ما تلا ذلك، وما جرى على الارض، أظهر ان الجيش لم يعد لا بابليا ولا أكاديا، لا في عتاده ولا في تأهبه.
وكان يكفي هجوم من بضع مئات من الارهابيين المسلحين جيدا، ان يخترقوا الموصل ليحتلوها، وينهالوا بسكاكينهم ذبحا بالجنود. وبرغم الاخطاء والاخفاقات والخلل الذي نسب الى بعض القيادات العسكرية والامنية المحلية، فان الخلاصة الأهم بنتيجة المشهد الدموي الذي تشكل، كان يعني أمرا أساسيا: ان مشروع اعادة بناء القوات المسلحة العراقية بالايدي الاميركية، لم يكن أكثر من أوهام.
كان العراق مخترقا، برغم بوجود الاف الجنود الاميركيين الذين ظلوا، تحت شعار تعزيزحماية العراق، متمركزين في قواعد عسكرية عدة في انحاء البلاد، بأسلحتهم الكاملة، من طائرات وطوافات ومسيرات ودبابات، الى جانب اجهزة الاستخبارات المتعددة المهمات. ومع ذلك، كان سقوط الموصل سريعا، مثلما كان مدويا.
ألقيت المسؤولية عن كارثة الموصل وغيرها، فورا على القيادات العراقية السياسية والعسكرية، وربما كانت صائبة في نواح كثيرة، لكن أحدا لم يتحدث، او يتساءل، عما اذا كانت الفرق العسكرية والامنية الاميركية، تتحمل ولو جزءا من المسؤولية، فيما كان الاف من الدواعش ينظمون عروضهم العسكرية في شوارع مدينة الرطبة بمئات العربات العسكرية التي استولوا عليها، تحت أنظار المسيرات الاميركية الدقيقة الرؤية!
التمركز المبهم، وطبيعة دور القوات الذي كان يثير الكثير من الحيرة والريبة، ساهم في خلق فراغ عسكري. ومع تقدم داعش باتجاه كربلاء تطبيقا لتعليمات “خليفتهم” المزعوم بتدميرها وتخريب أضرحتها واماكنها المقدسة، كانت حرب مذهبية على وشك ان تنفجر لا في العراق وحده، وانما في كل العالم الاسلامي.
في هذه اللحظة، كانت ولادة الحشد الشعبي، كرد فعل مقاوم حيث راحت تتشكل بداية مجموعات مقاتلة بشكل عشوائي للتصدي للتمدد الارهابي، ثم في حزيران من العام 2014، أطلق المرجع الاعلى السيد علي السيستاني فتوى “الجهد الكفائي” التي حثت المدنيين الاكفاء على حمل السلاح، ليبدأ بعدها تنظيم الصفوف ورصها، والبدء بعملية تحرير المناطق، فيما أقر مجلس النواب لاحقا قانون هيئة الحشد الشعبي الذي ينص على ان قوات الحشد ستكون رديفة الى جانب القوات المسلحة العراقية وترتبط بالقائد العام للقوات المسلحة.
هناك مشهد تبلور بين المرحلتين، اي مرحلة الاحتلال وحل الجيش العراقي، ومرحلة تمدد الدواعش ومقاومة الحشد الشعبي لها، ولعل ابرز نقاطه :
أولا – الحشد الشعبي انطلق من قلب المجتمع العراقي، وليس جسما غريبا، وهو نتاج طبيعي ردا على الخلل الكبير الذي أصاب الجسد العسكري على مدى 20 عاما نتيجة الاحتلال، وان هذه الحاضنة المجتمعية بكافة أنواعها، الدينية والحزبية والمدنية، استطاعت أن تؤمن له “الشرعية” الشعبية في عمله، حتى منذ لحظة تأسيسه عندما لم يكن قد حصل على الصفة العسكرية “الرسمية” التي تربطه مباشرة للحكومة.
ثانيا – مهما كانت رؤيتك للحشد الشعبي، فان الثابت انه شكل، باستمراره وانتصاراته التي حققها، نموذجا مقابلا ومضادا لما حاول الاحتلال الاميركي تحقيقه في العراق، اي اضعاف قدرته العسكرية، هجوميا ودفاعيا، وتفكيك بنية المجتمع من الداخل. فقد اعادت المجموعات والفصائل الحشدية، وما قدمته من آلاف الشهداء والجرحى، تشكيل الوعي العام بدور وقدرة العراقيين، وحقهم، في امتلاك القوة والمناعة الوطنية بإمكانياتهم البشرية الخاصة، دون الحاجة الى الاعتماد على الاميركي الذي وعد كثيرا، ولم يفي غالبا.
ثالثا – على الرغم من الطابع العام لدى الحشد كونه انطلق من فتوى لمرجعية دينية، الا ان السيد السيستاني، يتمتع بنظر العراقيين من مختلف الانتماءات، الى مكانة تسمو على الفوارق الدينية والمذهبية والعرقية. ولهذا، استطاع الحشد أن يضم مكونات من مختلف الأديان والمذاهب والعرقيات، حيث فيه السني كما فيه الشيعي، وفيه المسيحي كما فيه الكردي. ولهذا لم يكن مفاجئا، ان الحشد وبينما كان يحقق الانتصارات على الارض ويساهم بفاعلية في تحرير المناطق، كانت الحملات الإعلامية والسياسية الممنجهة تحاول النيل منه لصبغه بلون مذهبي واحد بقصد الإساءة إلى انجازاته.
رابعا – منذ حروب الخليج، الأولى والثانية، وصولا إلى سقوط بغداد، والإدارة الاميركية تملك خطا واحدا في تعاملها مع الجيش العراقي، وهو منع هذا البلد من امتلاك قوة عسكرية قادرة على الدفاع عن ثرواته وسيادته، إضافة إلى منع وجود جيش عربي قوي، -اي جيش عربي- قد يكون يوما ما في مواجهة الكيان الاسرائيلي. تحفل الاخبار بمعلومات عن الصفقات العسكرية وبرامج التسلح التي رفضها الاميركيون، او أخلوا التزامتهم بها، تجاه العراقيين، تارة بذريعة انهم غير مؤهلين لاستخدامها، وتارة لعدم توفر السيولة النقدية في خزينة الدولة العرقية، وتارة خوفا من النفوذ الشيعي، وتارة اخرى خوفا من استيلاء السنة عليها.
وما تزال قصة الاسلحة، وخصوصا طائرات ال”اف-16″ التي ماطلت ادارة باراك اوباما في تسليمها للعراقيين، وهم في أمس الحاجة اليها، عندما كانت حكومة حيدر العبادي تكافح بصعوبة للصمود في وجه الغزو الداعشي، ماثلة في الاذهان. كما لا تزال ماثلة في الاذهان، الغارات الدموية التي كانت تستهدف الحشد وقوافله العسكرية، في عز المواجهة مع داعش، بذريعة انها “خطأ عسكري”! وللتذكير، فان مثل هذه الغارات، تحولت مع اعلان الانتصار على داعش، الى استهداف مواقع للحشد في داخل العراق وعلى اطراف الحدود، وهذه المرة بذريعة “الارهاب”.
خامسا – سعي الحكومة العراقية في الفترة الأخيرة لإعادة تنظيم تواجد قوات التحالف الدولي وعملها، التي عادت تحت شعار محاربة الارهاب، من خلال اللقاءات مع المسؤولين الاميركيين والاوروبيين والتشديد على امتلاك العراقي الامكانيات لمواجهة التتظيمات المسلحة. وقد كرر رئيس الحكومة محمد شياع السوداني مرارا خلال الشهور الماضي بوضوح ان “العراق ليس بحاجة الى قوات اجنبية”، وان العراقيين قادرون على حماية امن بلادهم. هذه حقيقة، لم تكن لتتحقق، لولا تضحيات سخية بذلها الحشد، وما يزال، الى جانب الجيش العراقي.
سادسا – رغم كل التحديات، استطاع الحشد الشعبي الاستمرار في تأدية مهامه، والتي لا تنحصر فقط بالعمل العسكري… وللحديث صلة .