الرئيسية » العالم والخليج » “الايادي البيضاء”.. عندما قال الايطاليون لا للفساد .. فهل نجحوا ؟

“الايادي البيضاء”.. عندما قال الايطاليون لا للفساد .. فهل نجحوا ؟

في العام 1992، عاشت ايطاليا واحدة من اكثر حملات مكافحة الفساد شهرة في العالم والاكبر في تاريخ ايطاليا. “الايادي البيضاء” كما اطلق عليها. مر اكثر من ربع قرن على تلك الحملة التي بدات بشرارة صغيرة سرعان ما اطاحت بالاف السياسيين ورجال الاعمال، وتحولت الى ما يشبه الحرب.  

خليل حرب

+++++++++++++++++++++++++++++++++

لعل “البطل” الذي دخل عالم القانون من اوسع ابوابه، لا على مستوى ايطاليا فحسب وانما على مستوى العالم، هو القاضي انطونيو دي بيترو، الذي خاض حملة شرسة افضت الى اعتقال اكثر من 1300 شخص من السياسيين والحزبيين والنواب ورجال الاعمال، واخضاع اكثر من 1400 شخص من الصناعيين واصحاب الاموال وكبار موظفي الدولة، بالاضافة الى اكثر من 150 نائبا ورؤساء سابقين للحكومات، الى التحقيق.

وبالاجمال، اعتقل ثلاثة الاف شخص، ونصف نواب الامة المنتخبين جرت ادانتهم.

عندما امسك القاضي انطونيو دي بيترو في 17 شباط 1992، بالسياسي الاشتراكي ماركو شييزا، كانت الشرارة التي اشعلت الحريق الكبير. او كما يقول كثيرون انها كانت ككرة الثلج التي بدات تتدحرج وتكبر.

دي بيترو

يقول القاضي دي بيترو في مقابلة له مع وكالة الصحافة الفرنسية حول تلك المرحلة “انا شخصيا وضعت علامات على كل ورقة نقدية، واحدة تلو الاخرى. لقد كانت الطريقة الوحيدة التي تجعلنا واثقين تماما من اثبات ان رشوة تم دفعها. عندما استدار (ماركو شييزا) نحوي قائلا انها اموالي الخاصة، كان بامكاني ان ارد عليه، حسنا، كيف تفسر ان كل ورقة نقدية تحمل علامات وضعتها بنفسي”.

واعتقل ماركو شييزا بسبب تلقيه سبعة ملايين ليرة (3700 دولار) كرشوة من شركة تنظيف صغيرة لصالح مشفى ميلانو، ما شكل بداية لحملة “الايادي البيضاء” الواسعة النطاق التي اماطت اللثام عن الجوانب المظلمة في عالم السياسة والاعمال في ايطاليا.

وبعدما بدا تدحرج الرؤوس لصغار السياسيين، رفض الزعماء الكبار حمايتهم، قرر المعتقلون البوح بما يملكونه من معلومات تطال قادتهم الذين تخلوا عنهم تجنبا للفضيحة الكبرى. وكنتيجة لذلك، انتحر العديد من السياسيين ورجال الاعمال البارزين بعدما وردت اسماؤهم في التحقيقات والقضايا التي فتحت امام القضاء.

منظمة الشفافية الدولية وصفت الاحزاب السياسية الايطالية بانها الجهة الاكثر فسادا في ايطاليا.

وبعدما ادى الكشف عن فضائح الفساد الى الاطاحة بالنظام السياسي الايطالي الذي كان سائدا، انتقلت ايطاليا من مرحلة الجمهورية الاولى الى مرحلة الجمهورية الثانية، بسبب الانهيار الكبير الذي اصاب الطبقة السياسية الحاكمة كنتيجة من نتائج “الايادي البيضاء” التي عصفت بالتوازن الذي نظم علاقات السلطة السياسية في روما لمدى طويل. استقالت الحكومة في 21 نيسان من العام 1993 بعد استفتاء بتغيير نظام الاقتراع واطيح بالحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الاشتراكي. وفي الواقع، فان 45 عاما من الحكم المستمر للحزب الديمقراطي المسيحي، انهار تماما.

اجبر ابرز زعماء الاحزاب والسياسيين اما على الاستقالة ان الهجرة الى المنفى، وخاضت احزاب اخرى عمليات تغيير داخلية بشكل جذري، وظهرت احزاب جديدة لتسيطر على الحيز القديم السائد.

وكثيرا ما يتبادر الى ذهن الناس، عصابات “المافيا” عندما يتم التطرق الى الجريمة او الفساد في ايطاليا. لكن مشاهد الاغتيالات ودهاء مرتكبي الجرائم المجسدة في افلام سينمائية عديدة، لم تعد تعكس حاليا حقيقة ما جرى خصوصا منذ نهايات القرن التاسع عشر وصولا الى بدايات التسعينات من القرن العشرين.

خلع رجالات المافيا ستراتهم التقليدية. دفنوا بنادق ومسدسات القتل جانبا، ولو احترازيا. وضعوا ربطات عنق رجال الاعمال والسياسة. وتشير التقديرات الى انهم يساهمون بحوالى 14 في المئة من اجمال الناتج القومي الايطالي، وانهم باتوا يشكلون اكثر اشكال العلاقة بين السياسة والاجرام، براعة. يدير الجسم الاخطبوطي للمافيا الايطالية ما يعادل 120 مليار يورو من الاموال، ويحقق ارباحا بمئات ملايين الدولارات.

لم يعد رجال المافيا يعملون في ظلال البيوت والمخابىء الامنة. خرجوا الى النور عبر الجسم السياسي والاعلام، وعبر قطاعات السياحة والمطاعم والبارات والغذاء والترفيه، ونقلوا معهم “مهاراتهم” الخاصة في التفاوض والابتزاز والرشى.  

تاريخ 17 شباط 1992 عندما تم الايقاع بالسياسي الاشتراكي ماركو شييزا متلبسا بالرشوة، يوما تاريخيا في حياة الايطاليين. صحيح ان الحزب الاشتراكي حاول التملص من القضية باعتبارها مسالة معزولة، لكن شييزا ادلى باعترافات كشفت عن شبكة هائلة من مصالح الفساد المتداخلة من اعلى هرم السلطات السياسية الى الاحزاب ورجال الاعمال. وسرعان ما عززت شجاعة القاضي دي بيترو غيره من القضاة على ان يحذو حذوه.

وبعد مرور اكثر من ربع قرن على “الايادي النظيفة”، من غير الواضح تماما كم نخر الفساد في جسد ايطاليا، وما اذا اصحبت بالفعل في مكان افضل.

يشير القاضي دي بيترو الى “سرطان الفساد” ربما لم يتراجع. ويقول القاضي المتقاعد حاليا، “في زمن الايادي البيضاء، ظن الناس انهم يشاهدون معركة بين الشرطة والحرامية. اليوم، لدى الناس احساس بانهم يشاهدون حربا بين عصابات عدة من اللصوص”. 

يقول مسؤول في الفرع الايطالي لمنظمة الشفافية الدولية ان “الجريمة المنظمة تقف خلف الكثير من الفساد اليوم. من الاسهل جعل المرء يتلقى رشوة، من قتله”.

لكن اخطبوط الفساد لم يقف مكتوف الايدي، وقتها. في العام 1994، صعد سيلفيو برلوسكوني الى السلطة عبر حزبه “فورتزا ايطاليا” كزعيم بلا منازع ليمين الوسط.  اعتبر كثرون ان ذلك كان الرد الاقسى من جانب الاخطبوط المتحكم بايطاليا، على دعاة الاصلاح والقانون. ومعلوم ان برلوسكوني نفسه، سيتعرض في السنوات التالية الى العديد من القضايا والادانات بتهم عديدة بينها الفساد والابتزاز .. وحتى التحرش! لكن برلوسكوني، الامبراطور المالي والاعلامي، ظل في الحكم لسنوات عدة متوليا رئاسة الحكومة ثلاث مرات.

ولم تكن تلك المنازلة الوحيدة بين المعسكرين، معسكر الفاسدين ومعسكر القضاة. القاضي دي بيترو نفسه تعرض لحملات ترهيب وتشويه هائلة خصوصا عبر الاعلام. اثيرت شبهات حول تعاطيه المخدرات، في اطار محاولات لتقويض سمعته.

الفاجعة الاقسى عليه، جاءت باغتيال رفيقه في درب مكافحة الفساد، القاضي جيوفاني فالكوني والتي هزت ضمائر الايطاليين. نسف الرجل مع زوجته وحراسه بعبوة مفخخة كبيرة في طريق عام في ايار العام 1992. كما اغتالت المافيا “كوزا نوسترا” في جزيرة صقلية، معقل المافيا، القاضي سيزار تيرانوفا، ورئيس الشرطة بوريس جوليانو.

وشملت الحملة المضادة للاخطبوط ايضا الترويج لاتهامات بحق القضاة بانهم يعملون لتحقيق مصالح سياسية مختلفة، كما سارع برلوسكوني الى تمرير قوانين تخفف من القيود القانونية التي تمس الطبقة السياسية خصوصا في ما يتعلق بالشبهات المالية حولهم. كما جرت محاولة من جانب الحكومة لتمرير قانون عفو عام عن التمويل غير الشرعي للاحزاب، لكن رئيس الجمهورية رفض التوقيع عليه.

ومع ذلك ادين برلوسكوني لاحقا بتهمة التهرب الضريبي، بينما كان يحاول تطويق رجال القانون، حماية للطبقة السياسية. خلصت نقابة عمالية في دراسة لها في العام 2014، الى ان الاقتصاد الايطالي كان ليكون اكبر ب20 في المئة لو ان حملة “الايادي البيضاء” اخذت مداها لكبح الفساد، اذ ان سمعة الفساد اضرت بالاستثمارات في البلاد. مثلا في العام 2016، جرى اعتقال اكثر من 900 شخص، بتهم فساد.

ومع ذلك، يجادل كثيرون بانه على الرغم من الجوانب القانونية والقضائية لكبح اخطبوط الفساد، الا ان المشكلة تكمن في تجذرها في الثقافة السائدة التي تولي اهمية اكبر للعائلة والاصدقاء، على حساب دولة القانون.

يجري تبرير الفساد في الوعي الجمعي للمواطنين على انه ضرورة للاحزاب والسياسيين لتلبية احتياجاتهم المالية للاستمرار. انه، كما يقول كثيرون، “ثمن الديمقراطية”.

المؤلم، ان التاييد الشعبي الواسع لحملة “الايادي البيضاء” لم يعمر طويلا. سرعان ما انطفا الحماس الشعبي للقضاة. وعادت الكثير من الامور الى مجراها الطبيعي. الاسوا ان فاسدي الطبقة السياسية وموظفي الدولة ورجال الاعمال، تاقلموا تدريجيا مع الدروس المستفادة من “الايادي البيضاء”، وابتكروا بمهارة الخبراء اساليب جديدة للتحايل والتعايش مع منظومة اخطبوط الفساد.

الخلاصة الايطالية، ان القضاة لم ينجحوا تماما في “تطهير” طبقة سياسية، لم تعد تريد الطهارة.

ارقام ومعلومات

للاستدلال على حجم حملة “الايادي البيضاء”، فانه في ما يتعلق بقضايا الفساد في ايطاليا، تم تسجيل ما معدله 252 قضية سنويا وطالت 365 شخصا ما بين عامي 1984 و1991، اي قبل انطلاق حملة القاضي دي بيترو، في حين انه بين عامي 1992 و1995، ازدادت القضايا الى 1095 قضية سنويا وطالت 2085 شخصا.

ووجهت في نهاية هذه الفترة من الحملة، 1065 اتهاما تتضمن 2731 شخصا. المدعي العام في ميلان اصدر ما بين العام 1992 وتشرين الاول 1996، 2319 طلبا لتوجيه اتهمات مرتبطة بقضايا فساد.

جيوفاني فالكوني

في 23 ايار العام 1992، تم اغتيال المدعي العام جيوفاني فالكوني، احد ابرز من كرسوا حياتهم لمحاربة الجريمة في ايطاليا، من جانب المافيا الصقلية، وفي وضح النهار. يروى عنه، وهو المولود في مدينة بالميرو الصقلية، انه شاهد الكثير من فضائع الجريمة المنظمة في صقلية، وكرس حياته من اجل مواجهتها، على الرغم من انه كان يدرك ان المافيا ستلاحقه ولن تتركه حيا.

ومع ذلك، درس القانون في جامعة بالميرو وتخرج العام 1961 وتخرج بعد ثلاثة اعوام، ليصبح قاضيا في العام 1964. قاده عمله لاحقا الى الاصطدام بمصالح رجال المافيا، ودخل عرينهم عندما تعيينه في فرع التحقيق في مكتب الادعاء في بالميرو.

يروى ايضا انه امضى سنوات في ملجأ محصن في احد قصور العدل في بالميرو، ونادرا ما كان يخرج، واذا فعل فبصحبة موكب حراسة مصفحة. ونجح فالكوني في ضرب المافيا في الصميم من خلال الكشف عن وجود “مافيا كوزا نوسترا”، بل وملاحقة المئات من اعضائها، وسجنهم في العام 1987.

انتظرت المافيا خمسة اعوام، لتقتله. نقل عنه قوله لاحد اصدقائه “تم رسم خريطة لحياتي: من قدري ان اتلقى رصاصة من المافيا في يوم من الايام، الشيء الوحيد الذي لا اعرفه هو متى ؟”.

صبرت المافيا طويلا حتى العام 1992. تم ذلك بتفجير سيارة مفخخة بالمتفجرات على الطريق السريع لمطار بالميرو. احتفلت المافيا بمقتله. بقي مطار بالميرو يحمل اسم “جيوفاني فالكوني”.

عن خليل حرب

خليل حرب، صحافي لبناني، مدير تحرير في جريدة "السفير" سابقا. يشغل اليوم منصب رئيس تحرير موقع "جورنال".