الرئيسية » العالم والخليج » سوريا » عودة الروح الى دمشق

عودة الروح الى دمشق

دمشق – فراس خليفة

 

إنتهت أيّام “معرض دمشق الدولي” ولياليه المِلاح. تغيَّر لون دمشق في الأيام العشرة الماضية. أصابها عشقٌ يشبه صورتها الجميلة في السّنين الخوالي. تحوّل “المعرض” إلى حدث أوّل بلا منازع في مدينة لا تزال تتلقّى تبعات الحرب القاسية في طول البلاد وعرضها. “سوريا تنبض بالحياة”، يقول مُلصق المعرض المنتشر في نواحي دمشق وشوارعها. حقّاً؟ عاد “المعرض” ونجحت الدّولة السورية في تسجيل إنجاز فعلي يُحسب لصالحها. ولكن ،من الآن وحتى موعد الدورة الستّين، سيكون على “الدولة” مسؤولية الحفاظ على الإنجاز وتفادي “الأخطاء” وتسجيل نقاط إضافية !

 

“الباص الأخضر” على طريق المطار                                                    

يتجمَّع حشدٌ كبير من المواطنين قرب موقف الباصات  تحت “جسر الرئيس” في قلب العاصمة السُورية. يَسألُ أحد المارّة عن الأمر فيُقَال له “عالمعرض، كل هدول رايحين عالمعرض”. يقوم رجال الأمن بتنظيم  مرور المواطنين و”فرزهم” بين ذاهبين إلى “المعرض” أو متوجّهين إلى أحياء أخرى في دمشق، فتميلُ الكفّة عدديّاً لصالح زوّار المعرض. “يبرم” هؤلاء دورة شبه كاملة  كإجراء أمنيّ إحترازي قبل أن يلتحقوا بـ”الباصات الخضراء” المخصَّصة للنقل المجّاني. “إلى طريق المطار هذه المرَّة وليس إلى إدلب”، يمازحُ شاب صديقه الآتي من بيروت. يتسابق هؤلاء للصعود إلى الباص. تتلاصق أجسادهم في الممرّ الضيق فيما “يتكوَّم” جزء منهم في المساحة الخالية من المقاعد. تتداخل كلماتهم وأنفاسهم ونظرات عيونهم  في “موعدِ أواخر الصّيف”. لا فصلَ أو تمييز “طبقيّاً” في باص “معرض دمشق الدولي”. الكل هنا. والكلُّ يريد أن يحجز لنفسه حصّة في هذا “الفرح” الكبير. على بعد عشرات الأمتار فقط يقع شارع المعرض القديم الذي احتضن هذه “الإحتفالية” لسنوات طويلة وارتبط اسمه بها. بالقرب منه يقع “بردى” الذي توقّف عن الجريان بانتظار “دمعةٍ هجرَت” قد تشعله مجدّداً !

 

 أكثر من مليوني زائر و”يا محلا الفُسحة”   

                                              

“الشام كلها هون”، يقول أحد الزائرين. عند مداخل المعرض يقف المواطنون في صفوف طويلة. خلفهم أعداد كبيرة من الناس والسيارات على طول طريق المطار وأمامهم عدد كبير ممّن سبقوهم إلى أجنحة المعرض وباحاته الخارجية في مشهد تكرّر لعشرة أيام متتالية.  يتذمّر البعض من “فوضى تنظيمية” بينما يشكو آخرون من “النقص الكبير في مواقف السيارات”.  يسأل مواطن صديقته عن “أرباح المعرض” التي يجنيها فقط  من رسم الدخول الرمزي على الزائرين بقيمة 50 ليرة سورية. في الداخل تظهرُ شارة النصر في مجسَّم برونزي كبير. يقول المنطّمون إن “الحشد البشري الهائل” على مدى الايام العشرة كان “نصراً حقيقياً” يضاف إلى إنجاز تنظيم المعرض بعد توقف خلال سنوات الحرب. يحصي هؤلاء مليونين و247 ألف زائر كرقم رسمي لعدد الزائرين. ليس صدفة أن يضع منظّمو “المهرجان” أعلام كلٍّ من لبنان والعراق وإيران إلى جانب العلم السوري من بين أعلام عشرات الدول المشاركة البالغ عددها 43 دولة سواء عبر السفارات أم من خلال شركات تجارية. في أحد الأجنحة كان أحد الخبراء يأمل “لَو أنّ الحضور الدولي كان أوسع وأكبر”. لكنّ أحداً يذكّر محدّثه أن “الدولة السورية لا تزال تواجه حرباً وحصاراً دوليّين”. تحلّق مروحيّة عسكرية على علوٍّ منخفض في تدبير أمني إحترازي فتبدو كأنها تؤدّي التحية لزائري المعرض. تسأل المذيعة في مسابقة مباشرة على هامش المعرض عن “الشاعر العربي الملقّب بأمير الشعراء”. لم يُعرف لاحقاً ما إذا كان أحدٌ ما ربح الجائزة. ليس بعيداً من المكان، يأتي صوت المغنّية مؤدّيةً أغنية “يا محلا الفُسحة يا عيني” في إطار نشاط فني لـ”جمعية نحنا الثقافية”. يتفاعل العشرات مع الموسيقى حول المسرح الصغير فيما تضيق “الفسحات” بالوافدين.

“الناس عطشانة للفرح”. تقول شابة عشرينية. يحضر السوريون إلى المعرض بأعمار وأجيال مختلفة. تجرّ إمرأة ثلاثينية إبنها بيد وتحمل طفلتها باليد الأخرى بينما يمشي رجل وامرأة عجوزين بحركة متثاقلة كأنهما يبحثان بين الوجوه و”الأجنحة” عن ذكرى قديمة من معرض “ايام زمان”.. في الباحات الخارجية يفترش قسم كبير من الزائرين العشب محاولين إنعاش رؤوسهم بالرذاذ الآتي من نوافير المياه. تلفُّ فتاة جسدها النحيل بالعلم السوري ثم تلتقط لنفسها “سِلفي” مع بائع التمرهندي الذي ترك “الحميديّة” وجاء إلى هنا. “الناس كلها هون وأنا لحقتن”.

في جناح “التعليم العالي ” تسأل طالبة جامعية مُجازة حديثاً عن مجالات استكمال الدراسات العليا والتدريب والتوظيف ولا تأتيها إجابات كافية. لكن الفتاة العشرينية تأخذ معها مجموعة عناوين و “بروشيرات” لعدد من الجامعات الخاصة التي ارتفع عددها بشكل ملحوظ في السنوات الاخيرة. في جناح آخر تتحدث شابة سورية بسعادة عن وجود عدد من الشركات السورية الكبيرة. “واضح إنو مشتغلين منيح عالستاندات، في شركات رجعت بقوة وفي شركات انطلقت من المعرض”. يشير المنظّمون إلى أن المعرض “شهد عقد عدّة صفقات من رجال الأعمال الزائرين للمعرض وعددهم 1500 زائر تمّ استضافتهم من قبل اتحادات الأعمال وغرف التجارة والصناعة واتحاد المصدرين وهيئة تنمية ودعم الصادرات كما جرى منح عدة وكالات لرجال أعمال في الصناعات الغذائية والنسيجية”.

 

طيف فيروز وعودة “الديناصورات”                                                     

 

يصعب تركيز البصر في أرجاء المعرض لوقت طويل على مكان واحد. لابدّ وأن تأخذك سريعاً حركة بصرية ما إلى مكان آخر. ماذا يفعل “قطار كورنيش جبلة” في باحات المعرض، وفي داخله  كبار وصغار كأنهم في “كرمس العيد”؟ تعلو الموسيقى والأضواء من جناح “أم تي أن” الأنيق، فيما تتحلّق مجموعة من المواطنين والمواطنات حول “كشك” صغير يقال إنه يوزّع حلوى مجانية. يضمّ المعرض من بين اجنحته العديده جناحاً خاصاً بالتذوّق. في المعرض أيضاً وسائل إعلامية كثيرة تحاول أن تسجّل تميّزاً في نقل فعاليات “الحدث”. في المركز الإعلامي الخاص بمدينة المعارض يظهر ناصر قنديل ملقياً تحياته على “الجماهير” بينما يسأل البعض عن جدوى عرض بقايا لكائن بحري أو مُستحاثة من فصيلة “البليزوصورات” في جناح وزارة النفط !                                 قرب جناح آخر يسأل شاب صديقه “مين رح يغنّي الليلة؟” قبل أن يأتي الجواب: “يمكن معين شرَيْف وفي حدا تاني كمان”. لم يكن شرَيْف الفنان اللبناني الوحيد من بين الذين أحيوا حفلات في  المعرض. كان سبقه إلى المسرح فارس كرم ولحق به محمد اسكندر إضافة الى الفنانين السوريين المشاركين. يتوقف متابعون عند البرنامج الفني للمعرض بأسف كبير. يقولون: “مو لازم تخلّينا الحرب نهدم شي من عظمة الاماكن والإشيا الحلوة اللي عنّا”. لا يرى هؤلاء مشكلة في “برنامج فني شعبي يلبّي رغبة جمهورعريض ولكن فليكن الأمر خارج إطار البرنامج الفني للمعرض وبالتزامن معه”. برأي النقّاد فإن “المعرض الذي استضاف سابقاً على مسرحه أجمل ابداعات الرحابنة وفيروز وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ ودنيس روسس وداليدا وصباح وسميرة توفيق وغيرهم من العمالقة لا يمكن أن ينزل إلى مستوى مطرب رديء”. يقترح هؤلاء أن يقوم المنظّمون في الدورة المقبلة باستضافة أوركسترا غنائية  كـ”جوقة الفرح” وفرقاً سيمفونية كتلك التي غنّت في تدمر مثلاً وإحياء “ليلة فيروزية” يؤدّيها عدد من الفنانين والفنانات.

 

هيام حموي من “الإستديو الزجاجي” إلى “مُرَّ بي”                              

 

 الثامنة إلا ثمانية دقائق مساءً بتوقيت معرض دمشق الدولي. تضع الإذاعية القديرة هيام حموي اللمسات الأخيرة على “الهندام” الخارجي قبل انطلاق حلقة جديدة من برنامج “مرَّ بي” الذي بُثّ خلال ليالي المعرض من أرض مدينة المعارض بالتعاون بين قناة “سوريا دراما” و إذاعة “شام أف أم”. تبتسم حموي “الخجولة جداً” لمعجبة لوّحت لها بيدها من مسافة قريبة. تنسّق تفصيلاً أخيراً مع “شريكتها” في التقديم الإعلامية رائدة الوقّاف. تقول صاحبة التجربة الإذاعية المديدة “إنها سعيدة بالتجربة وتحاول التآلف مع الحالة التلفزيونية، فالبرنامج فكرة تلفزيونية بالكامل إعداداً وإخراجاً لكنه بالشراكة معنا”. تضيف حموي، “أنتظر رأي الناس بهذه التجربة للبناء عليها” مع تأكيدها “أن الإذاعة كانت وستظل مكانها الأحب والأجمل”. تعود المرأة “الدمشقية – الحلبية” بالذاكرة إلى زمن المعرض القديم. “عندي ذكريات حلوة مع سوق التذوق وسوق الحرف اليدوية وغيرها. كنا يومها لسّا زغار وكان بالمعرض في شغلات ما بتخطر عالبال”. تقول حموي عن عودة المعرض “انها فعل ارادة وتحدي وتعني ان سوريا رجعت”. تشير صاحبة الصوت الإذاعي الفريد إلى “أهمية مجيء الاولاد اللي عمرهم من عمر الحرب ليشوفوا انو في شي مختلف وحلو بالبلد”. تقول أيضاً: “المعرض للجميع لدرجة انو في ناس بيفوتوا عجناح صناعات ثقيلة مثلاً وبياخدو كاتالوغات للذكرى حتى لو مالن علاقة بالموضوع”. يرى كثير من المتابعين أن هيام حموي تشكل جزءأً من ذاكرة الناس في المعرض. تتحدث عن تجربة “الأستديو الزُّجاجي” التي استمرت بين عاميّ 1993 و2001 عبر إذاعة الشرق من باريس. “كانت تجربة جديدة وجدتني ملزمة بخوضها بعد رحيل الزميل العزيز حكمت وهبي الذي كان يقوم بالمهمة”. تقول حموي: “سلّطنا الضوء يومها على النشاط الاقتصادي للمعرض وأجرينا مقابلات مع نجوم الدراما والفن. لم يبقى أحد الا ومرّ من الاستديو الزجاجي”.  قبل أيام كتبت هيام حموي في نشرة “أيام المعرض” عن تلك التجربة التي جعلتها تعيد اكتشاف سوريا كمواطنة مغتربة: “خلف الحاجز الزجاجي كانوا يلوّحون بالايدي للتحية أو يرسلون وريقات صغيرة مع الاطفال المتواجدين في المكان، طالبين التقاط الصور… لم أصدّق هذا الفيض من المحبة. ثم صدّقت حالما تذكرت انني في الشام بل وفي معرضها الدولي الذي كادت فعالياته الاجتماعية كطقس “سيراني” وفعالياته الفنية كحفلات فيروزية وطرب ذهبي وكلثومي، كادت هذه الفعاليات تحجب الرؤية عن هدفه الاقتصادي الأساسي… تلمع العينان تأثراً عندما يقترب أحد الشبان اليوم ليقول لي: بتسلّم عليكي إمي، كانت تجي تحضر أمسياتكم في المعرض، ومرة طلبت منك أغنية لفيروز وأغنية لكاظم الساهر بتتذكري؟  أجيبه متواطئة: اكيد بتذكر صبية عاشقة بتحب فيروز ونزاريات كاظم. سلم لي على إمك وقول لها رجعت ليالي المعرض ورح ترجع ليالي زمان..” !

 

 

عن جورنال