الرئيسية » العراق » العراق بين استقالتين : نجاة أم أزمة ممددة؟

العراق بين استقالتين : نجاة أم أزمة ممددة؟

نجا العراق- اقله في المدى المنظور- من حمام دم بعدما بدا ان ازمة الجمود السياسي القائمة منذ انتخابات تشرين الاول 2021، قد تدحرجت الى كرة من النار مع اشتعال الاشتباكات المسلحة في قلب العاصمة بغداد، واستعصاء الحلول السياسية بانقسام ما يصطلح على تسميته ب”البيت الشيعي” الى معسكرين متصارعين على السلطة.

++++++++++++++++++++++++

سيظل صمت زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر الذي استمر نحو 24 ساعة من معقله في الحنانة في النجف، محل تكهنات وتحليلات، عندما خرج بعدها في 30 اب، لينذر اتباعه من مغبة عدم الانسحاب من “المنطقة الخضراء” المحصنة في قلب بغداد، في خلال 60 دقيقة فقط، لوقف الاشتباكات التي اندلعت قبلها بيوم مع عناصر من القوات الامنية ومسلحين تابعين لخصومه من قوى ما يسمى ب”الاطار التنسيقي”.

ولم يعرف سبب التزام الصدر هذا الصمت فيما كان المسلحون يتقاتلون بالسلاح منذ 29 اب، وما هي الرسالة او الرسائل التي ربما اراد توجيهها، باعتكافه الصامت في الحنانة، بينما كانت البلاد على شفير حرب اهلية حقيقية، وصفت بانها الاكثر خطورة على الكيان العراقي منذ غزو العام 2003، او منذ اجتياح تنظيم داعش الارهابي لنحو ثلث الاراضي العراقية في العام 2014.

واثيرت العديد من التساؤلات عما اذا كان الصدر يسعى الى توجيه رسالة مقتضبة ولو كانت مخضبة بالدم، لخصومه الداخليين فقط؟ ام انه كان يوجهها نحو طهران؟ وهل كان “غزو المنطقة الخضراء” التي هي رمز لهيبة الدولة (القصر الحكومة والبرلمان ومجلس القضاء الاعلى وغيرها) ومعقل البعثات الاجنبية والدولية، بمثابة صرخة استدعاء من اجل اجتذاب وساطات خارجية تنهي اكثر مراحل الفراغ السياسي طولا في عراق ما بعد دستور العام 2005؟

ما من اجابات واضحة حتى الان، لكن الذي ظهر ليفسر خروج الصدر المفاجئ في 30 اب ليندد باستخدام انصاره للسلاح ويقول ان ما يجري ليس ثورة وان الدم العراقي حرام، ما صدر من معلومات حول جهات تحركت في تلك الساعات ال24، لاقناع الصدر بالتراجع، وهذه الجهات هي المرجع الشيعي الاعلى السيد علي السيستاني، والامين العام ل”حزب الله” السيد حصن نصرالله.

ومعلوم ان التحول الاكبر في مسار الاحداث قبل اندلاع الاشتباكات، جاء من جانب المرجع الشيعي البارز كاظم الحائري الذي اعلن في 28 اب اعتزاله العمل الديني كمرجع لاتباع الصدري، معللا ذلك بمرضه وكبر سنه، موصيا باتباع مرجعية المرشد الاعلى الايراني السيد علي خامنئي. وقال الحائري في قراره المباغت انه يلغي “الوكالات والاذونات التي تصدر منه ومن مكتبه”، منتقدا بشكل ضمني مقتدى الصدر، لانه تسبب في تفريق صفوف العراقيين والشيعة.

ومثلما هو معلوم، فان مقتدى الصدر لا يحمل الاهلية الدينية والعلمية التي تجعله مرجعا بامكانه اصدار الفتاوى ويفتقر بالتالي للقيادة الشرعية. وكما هو معلوم ايضا، فان السيد الحائري اختير ليكون منفذا لوصية المرجع الشيعي محمد صادق الصدر، والد مقتدى الصدر، والذي اغتيل في العام 1999 خلال عهد صدام حسين، واصبح الحائري بمثابة المرجع الذي يتبعه مقتدى الصدر وانصار التيار الصدري عموما.

وبتنحيه عن موقعه كمرجع، يكون الحائري قد احرج مقتدى الصدر الذي خرج بعد هذا القرار بساعات، وتحديدا في 29 اب، ليعلن “الاعتزال النهائي” للعمل السياسي واغلاق كافة المؤسسات، باستثناء “المرقد الشريف والمتحف الشريف، وهيئة تراث ال الصدر”، مؤكدا انه “لم يدعي العصمة او الاجتهاد ولا حتى القيادة”.

وكما اشارت المعلومات فان الحيرة والضياع والغضب ساد في معسكر الصدريين المعتصمين في المنطقة الخضراء، بتنحي الحائري ثم تنحي الصدر نفسه، ولم يتلقوا تعليمات من قياداتهم الكبيرة عما يتحتم عليهم فعله الان، لكن الذي حصل ان كثيرين ظنوا ان اعلان الصدر انهم بحل منه، يعني اطلاق يدهم للتحرك بحرية، فاشتعلت تدفقات لمسيرات غاضبة لانصار التيار الصدري باتجاه “المنطقة الخضراء” حيث جرى اقتحام القصر الحكومي، واندلعت مواجهات تحولت الى اشتباكات بالاسلحة النارية واستخدام قذائف “ار بي جي” والصواريخ.

وبينما تصاعدت الاصوات المنددة والمحذرة من وقوع العراق في اتون الاقتتال الاهلي، من رئيس الجمهورية الى رئيسي الحكومة والبرلمان وحتى القوى السياسية المختلفة بمن فيهم شخصيات “الاطار التنسيقي” المنافس، فان الصدر لاذ بالصمت حتى مساء اليوم التالي بينما عاشت بغداد احد اسوا كوابيسها منذ سنوات عديدة. 

وما ان خرج الصدر ليوبخ انصاره بعدها ب24 ساعة، حتى بدات التكهنات تتناول اسباب خطوة التراجع الصدرية السريعة هذه، بعد بدا ان العراق بلغ شفير الحرب الاهلية.

لم يصدر عن السيد السيستاني تعليق علني حول الاحداث. لكن وكالة “رويترز” نقلت عن العديد من المصادر الحكومية والشيعية عدة قولها ان المرجع الشيعي الاعلى، تدخل من خلف الكواليس، حيث سعى مكتب السيستاني الى التوضيح للصدر بانه “اذا لم يوقف العنف فسيضطر الى اصدار بيان يدعو الى وقف القتال، وهو ما من شانه ان يظهر الصدر ضعيفا، وكانه قد تسبب في سفك الدماء بالعراق”. وقال مسؤول وصفته الوكالة بانه من الموالين لايران، قوله انه لولا مكتب السيستاني “لما عقد مقتدى الصدر مؤتمره الصحفي” الذي وقف القتال.

وبحسب التقارير، فانه خلال صمت الصدر، تحركت شخصيات دينية شيعية من جميع انحاء العراق، ومن ايران ولبنان، لمحاولة اقناع الصدر بوقف العنف، وانه تم توجيه الضغوط على الصدر عبر مكتب السيستاني في النجف.

ومن جهته، ذكر موقع “جاده ايران” نقلا عن مصدر مطلع قوله انه “لم يكن من خيار سوى التدخل لحقن الدماء، حيث اتصل السيد نصرالله بالسيد الصدر لاقناعه باحتواء الموقف”. واضاف ان المعلومات نفسها اكدها مصدر سياسي في بغداد اطلع على المساعي التي بذلت من قبل حزب الله للسيطرة على الموقف قبل تدحرج الاوضاع الى حرب اهلية شيعية-شيعية.

لكن موقع “ميدل ايست اي” البريطاني اشار الى ان انصار الصدر هم من راحوا يروجون لرواية ان السيد السيستاني تدخل من خلال التهديد بانه سيدينه علانية ما لم يوقف الاشتباكات. كما ان العديد من القادة العراقيين من المدعومين من ايران، وجهوا الشكر للسيستاني على دوره في وقف الاشتباكات. وبرغم ذلك، نقل التقرير البريطاني عن مصادر قولها ان لا السيستاني ولا نصرالله تدخلا.

ومهما يكن، فانه ما من رواية وحيدة وحاسمة لما جرى خلال “صمت ال24 ساعة” ولماذا قرر الصدر التراجع فجاة. لكن الظاهر حتى الان، ان مجموعة من العناصر تجمعت على ما يبدو واجبرت زعيم التيار الصدري على انهاء معركة المنطقة الخضراء، والتي يمكن ايجازها كالتالي:

-مفاجاة تنحي السيد الحائري التي كانت بمثابة ضربة محرجة للتيار الصدري

-تشتت انصار الصدر المعتصمين بلا قيادة ولا رؤية محددة

-فشل المحتجين في الاستيلاء على المنطقة الخضراء بمواجهة اجراءات امنية قاسية ما اوقع عشرات الضحايا خاصة في صفوف الصدريين

-تقارير تحدثت عن ان منظمة بدر وكتائب حزب الله وحركة النجباء، رفضت الموافقة على فكرة دخول الحشد الشعبي بكامل فصائله بمواجهة مسلحي “سرايا السلام” التابعين للصدر

-اظهر هجوم مسلحي “سرايا السلام” على المنطقة الخضراء، انهم وقعوا في كمين سياسي محرج للصدر في مسعاه لقلب الطاولة، وهي خطوة دموية بادر اليها خلال احياء ذكرى محرم

-انباء التدخلات التي بادر اليها السيستاني ونصرالله وغيرهما، حيث ان الصدر كان سيبدو امام العراقيين عموما، في حال تعنته، كمن يستسهل سفك الدماء الحاصل

وبكل الاحوال، فانه من غير الواضح ما اذا كان الصدر سيظهر المزيد من اللين بعد الموقعة الدموية في قلب بغداد، وما اذا كان سيعاود لعب دوره بعد “استقالاته” المتعددة، والاهم ربما ما اذا كان سيفتح الطريق امام اللعبة السياسية لكي تمضي قدما، سواء بمشاركته، او من دونها.

لكن في الوقت نفسه، من المهم متابعة ما اذا كان خصومه، سيعمدون الى استكمال ازاحته ام انهم سيمدون نحوه يد التعاون، من خلال سياسة “تدوير الزوايا” التي يبدو ان الصدر منذ نتائج انتخابات 10 تشرين الاول 2021، لم يعد من هواتها.

عن خليل حرب

خليل حرب، صحافي لبناني، مدير تحرير في جريدة "السفير" سابقا. يشغل اليوم منصب رئيس تحرير موقع "جورنال".