منذ أزمة احتجاز رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري في السعودية، في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، انخفضت موجودات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية من 36.8 مليار دولار في تشرين الأول/ أكتوبر إلى 33.1 مليار دولار في حزيران/ يونيو، أي إنها اليوم أقل بنحو 3.7 مليار دولار عمّا كانت عليه قبل 8 أشهر.
هذا الرقم، على أهميته في قراءة الوضع النقدي للبنان، لا يمثّل إلّا الجزء الظاهر من النزيف المتواصل والمتنامي. أمّا الجزء المخفي فهو أكبر بكثير. وما انفكّ المصرف المركزي يبذل جهوداً حثيثة لطمس حجمه الحقيقي وأكلافه المباشرة وغير المباشرة والراهنة والمستقبلية، وذلك بهدف شبه وحيد، هو تسويغ السياسة النقدية المُعتمدة والمُهيمنة، ولا سيّما الهندسات المالية التي تقدّم كخيار وحيد لا بديل منه، وبالتالي، الترويج لمزاعم النجاح الباهر في امتصاص الضغوط المتنامية على سعر صرف الليرة، خلافاً لما تشي به الوقائع والمؤشّرات والتوقّعات المُقلقة.
من المثير في حالة لبنان، أن ما يحصل تحت عنوان أولوية «الدفاع عن سعر ثابت لصرف الليرة مقابل الدولار»، بوصفه من «شروط البقاء»، وعلى الرغم من تأثيراته البالغة على المستويات المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لا يستفزّ حتى الآن أي جدل حقيقي مسموع، لا داخل الأحزاب القديمة والمُستحدثة ولا النقابات البيروقراطية ولا المجتمع المدني المزعوم ولا بين النخب المختلفة والخبراء الأداتيين. الكلّ (تقريباً) ينأى بنفسه أمام استبداد «سعر الصرف»، ولا أحد يرغب في التورّط بهذه «اللعبة النقدية» المحفوفة بالمخاطر. وما عدا قلّة قليلة ونادرة ومُهمّشة، لا يوجد من يتحلّى بالشجاعة الكافية ليعلن أننا نعيش الآن في ورطة حقيقية: فنحن لا نثق بالسياسيين وندرك فسادهم وعجزهم وفشلهم ونخاف من أنانيتهم وطيشهم وولاءاتهم الأجنبية ومواقعهم الطبقية… فكيف لنا أن نراهن عليهم لتغيير «اللعبة» أو أن نترك «لعبتهم» تأخذ مداها الخطير، ولا سيّما على سلّم توزيع الثروة والدخل. ففي مثل هذا النوع من الورطات، أي في ذروة المخاطر التي تهدّد أكثرية المجتمع اللبناني، من فئات الدخل الأدنى والمتوسط التي تتقاضى أجورها وتعويضاتها ومعاشاتها التقاعدية بالليرة، تظهر القوة السياسية للمصالح المالية كقوّة حاسمة، تمارس أقصى الابتزاز وأقساه، فإمّا القبول بدفع ثمن باهظ للمحافظة على سعر الصرف الثابت بحجّة أن الخيار الآخر يُفقر هذه الفئات أكثر مما هي مُفقرة، كما يُردّد حاكم مصرف لبنان، وإمّا تدفيع الضعفاء ثمن تعديل سعر الصرف لإعادة التوازن إلى الحسابات النقدية، كما تشير ذاكرة اللبنانيين الأليمة في حقبة الثمانينيات والتسعينيات، التي ساهمت في إنتاج النموذج الحالي المشكو منه. وفي الحالتين: الرابح سيبقى هو نفسه وستزداد أرباحه ومكاسبه، والخاسر معروف أيضاً، وستزداد خسارته.
في هذا السياق، يتحوّل «سعر الصرف» إلى أحد التعبيرات الأكثر وضوحاً على وهم الديموقراطية الانتخابية، إذ يوضع، عن سابق تصميم، خارج «الصراع»، ويتمّ التعامل معه كمسألة «تقنية» لا «سياسية»، ويتمّ تغليف ذلك بادعاء «استقلالية» المصرف المركزي عن سائر السلطات الدستورية (تشريعية- رقابية وتنفيذية وقضائية) ومنحه «سلطة» لا ينصّ عليها الدستور ولا قانون النقد والتسليف، هي في الواقع سلطة «الأسواق»، التي يقول حاكم مصرف لبنان بصراحة تامّة ووقحة إنها السلطة الوحيدة التي يحتكم إليها! وهنا يكمن الوجه الآخر للورطة التي نواجهها الآن: فمن يهتم بالنقود هم أنفسهم الذين يكسبونها، أمّا الذين يخسرون فيفقدون اهتمامهم بها ويتعاملون معها كطلاسم، والأهم يفتقدون إلى من يمثلهم ويريد حقّاً أن يحميهم. وهذا مصدر القلق الفعلي ممّا يحصل…..
لقراءة تقرير محمد زبيب كاملا في صحيفة “الاخبار”
اضغط هنا : https://al-akhbar.com/Capital/256421