غزّة – عبدالله أبو كميل
السابعة صباحاً، رائحة الدخّان المنبعث من الموقد يوصلك لورشة خصّصت لتقطيع الحطب، العمال التفّوا حول مائدة الفطور، قليل من الزعتر البرّي وكأس من الشاي المغلي على الحطب ذاته.
داخل تلك الورشة يطوف كمال عبد العال بين الأغصان الجافة الملقاة على الأرض، وكأنّه يلقي عليها التحيّة، يتفحصها و يحدّثها. انها عادته اليومية كلما هم بتجهيزها وترتيبها، يمسك سطورًا من حديد وباسم الله يبدأ.
عبد العال (57 عاما) هو أحد أصحاب الورش المتخصصة في بيع وتقطيع الحطب شمال قطاع غزّة، أمضى أربعة عقود وهو يجمع الحطب، كمهنة ورثها عن والده.
شرع عبد العال بالضرب على قطرٍ خشبي أصله من شجرة ليمون، محاولًا تقسيمه لعدّة أجزاء، يرفع يديه مرات متتاليّة وبكل ما أوتي من قوة يضربها، عضلاته المفتولة مكّنته من فصل القطعة الخشبية لعدّة أجزاء، بين ضربات الساطور ومنشاره الخاص تجمعت أجزاء الحطب.
القطع حزّمت بحبال بعد التأكد من ربطها جيدًا، صفت بشكل هندسي وأصبحت جاهزة للبيع، العرق يتصبب من جبين الحاج كمال، فجلس على إحدى حزم الحطب “القرميّة” وقال لنا: “الحطب أنواع حسب الشجرة منها السرو، الجميز، البرتقال، الزيتون، كينيا والأثل لكنّ أفضلها الليمون، مرجعًا السبب لطول فترة موقدته”.
يجوب عبد العال المناطق التي يتوقع أنّ يجد فيها ضالته من البيارات والمزارع التي يرغب أصحابها باقتلاعها، بهدف تجديد زراعتها أو الخلاص منها، ليحصل على الشجرة الواحدة بحوالي 40 دولارا.
تحديات.. يقابلها التقليص
التصحر العمراني وعدم السماح بالاستيراد سببان جعلا الحصول على الحطب شيئا صعبًا. “كنا نحصل على الحطب من خلال الأشجار التي تملأ غزّة، إلا أنّ الاحتلال الإسرائيلي عمل على تجريفها في عام 2005، وكنّا نقوم باستيرادها من داخل الخط الأخضر والدول الأخرى” عبد العال يقول لنا.
لم تنته الحكاية…معاناة من نوع آخر
انتهت رحلة شاقة، والشمس أوشكت على المغيب، وعقارب الساعة أشارت للسابعة مساءً، الحاج عبدالعال المغطى رأسه بغبار التعب يتجهز للعودة إلى بيته، على أمل أن يتمّم عمله في وقت لاحق.
وفي صباح اليوم التالي؛ كان الحاج عبد العال يضع السوق على جدول أعماله لعرض بضاعته، بدأ برفع الحزم الخشبية، وسرعان ما تواصل مع آلة نقل بالأجرة “توكتك”، التكلفة ليست قليلة، يخوض مجازفة قد تكون سلبيّة أحيانًا.
يعرض بضاعته، وعليه أن يفاصل كل زبون على حدة، فالوضع الاقتصادي قد أنهك جميع مواطني القطاع، الجدل هو العلاقة الوحيدة في غزّة التي تربط البائع بالشاري، علَّ الأخير ينجح في تخفيض سعر الكيلو الواحد لأقل من ربع دولار.
المواطن يشتري الحطب بالقطارة “بالتقسيط”
“كانون النار” يمثل بالنسبة للمواطن محمود الزهارنة المعطف الذي يمنحه الدفء، حينما يخترق البرد عظامه، ولا بديل عنه في ظل انقطاع الكهرباء، الذي يعاني منه سكان غزّة منذ منتصف عام 2007، يوم أن فرضت إسرائيل حصارها على القطاع.
ولكن محمود الذي يشبه مئات المواطنين لم يكن الكانون بالنسبة له مدفئة فحسب، بل بديلا عن غاز الطهي، وتجهيز الماء الساخن لأطفاله إذا ما أردوا الاستحمام، أو تحضير الحليب لطفلته.
كيلو الحطب الواحد يقدر بحوالي ربع دولار، الأمر الذي دفع محمود للجوء إلى طريقة أخرى عوضًا عن شرائه، باحثًا عنه في الطرقات، أو بعضًا من البلاستيك.
النار انطفأت والدخان صنع سحابة فوق رؤوس الحاضرين، يجثو نافخ الكير محمود على ركبتيه لإشعالها أو من خلال استخدامه خرطوم “بربيش” من البلاستيك يستخدمها لنفخ الهواء .
ومع احمرار عينيه واندفاع الدمع فيهما، يبين الثلاثيني أنّ الشتاء هذا العام كان شديدًا في البرودة بالنسبة له ولأسرته . “لازم أنفخ النار لتظل مشتعلة”؛ قالها وهو يبتسم لأحد أطفاله.
بديل الحطب
محمود العاطل عن العمل والمعيل لسبعة من الأبناء يقول إنّ الذهاب لشراء الحطب أمر شاق عليه، كونه لا يملك ثمنه في بعض الأحيان، لكنّه يذهب لبعض المناجر الإلكترونية ويكتفي بجمع نشارة الخشب، وبعضًا من القطع الخشبية مربعة الشكل.
المُزارع في غزّة أصبح يستبدل أشجار الحمضيات بالزيتون، كونه أسرع في الإنتاج والنمو، الأمر الذي رفع عدد معاصر زيت الزيتون في القطاع، فعند كل موسم جني الزيتون على محمود أن يكون مرابطًا في أحد المعاصر، لجلب الجفت “عصارة الزيتون المجففة بعد أن يتم تحويله إلى زيت”، يعمل على تعبئتها في أكياس ويستخدمها كبديل عن الحطب في إشعال النار، ما حصل عليه لم يكن مجانيًا عليه أن يعمل ما لا يقل عن أربع ساعات لصالح المعصرة.
بدائل الحطب تُسبب لمحمود وأسرته مشكلات صحية في الجهاز التنفسي، فالأولى أصلها من المنتجات البتروكيماوية والبترولية ،والأخرى رائحتها كأنّها زيت محروق؛ “لا شتا ولا صيف مرتاحين” يختتم محمود قوله.
وأمّا أنا فالمصادفة قادتني ذات مرّة لأحد المقاهي الممتدّة على شاطئ بحر غزّة .. تعجبت أن جلوسي قد جاء على مقعد صنع من بقايا حطب الزيتون، الذي تم تجريفها في أحد اجتياحات القوات الإسرائيلية شرق بيت حانون.
وقادني الفضول لسؤال صاحب المقهى عن مصدر هذا الحطب مبدياً إعجابي بالفكرة، لكنّ جملته التي قالها ستظل عالقة في ذهني ما حييت : يا صديقي، .. أنت تجلس على مجزرة!