ينجح صُنّاع السياسة في إيران بتصوير الأزمات الإيرانية كباقة ورودٍ عيبها الوحيد في شوكها، أو طريق وعر يهواه متسلقو الجبال، وأنّ نهايته مضمونة. وهُم، إذ يدركون أنّ عام 2019 لم يكن عام تحويل التهديدات إلى فرص، استنفروا الدولة بما فيها من قوة مخزّنة، وديناميّات مكتسبة بفعل الأزمات السابقة، لتثبيت الدور القوي، في انتظار لحظة تسوية جديدة والتفاوض عليها.
أثبتت تجربة اتفاق فيينا 2015 أن إيران دولة تحبّذ التسويات الواقعيّة. التسوية التي يتساكن فيها الاتفاق مع الغرب وشعار “الموت لأمريكا”، هي نفسها التسوية بين الخطاب الصارم للمرشد الإيراني ودبلوماسية وزير خارجيته.
عام 2019 وزّعت طهران الأدوار بين مختلف عناصر سياستها الخارجية، إلى درجةٍ يمكن القول معها، ولو ظاهريًا، بأننا لم نرَ إيران واحدةً. وعلى الأرجح، فإنّ سبب ذلك هو إدراك القيادة الإيرانية أنّ المكاسب بالتجزئة هي أفضل الممكن، عند انكساف فرص الحلول الشاملة. لم نرَ إيران واحدة، ظاهريًا أيضًا، إلا عند استقالة محمد جواد ظريف المفاجئة. تنبّه خصومه الداخليون قبل غيرهم لخطورة خسارة واجهةٍ إيرانيّةٍ تملك ما تملك من تأثيرٍ في الحلبة الدبلوماسية الدولية. رأينا قائد فيلق القدس قاسم سليماني يزور الخارجية الإيرانية داعمًا لظريف. تقاطرت الدولة لإعادة اعتباره. كانت غيمة صيفٍ عابرة على مؤسسة الحكم.
سهّل الأداء المتذبذب والدونكيشوتي للرئيس الأميركي دونالد ترامب مهمّة إيران دفاعًا وهجومًا، سياسيًا وعسكريًا. الأداء الأوروبي الضعيف دفع طهران إلى المزيد من الاعتماد على الذات، وكذا الوقوف الروسي الصيني على تلّ الصراع لتحقيق أكبر مكاسب ممكنةٍ من “الشريك المحاصر”. بقيت العقوبات الأميركية الاقتصادية الخانقة الشوكة الأكثر إيلامًا في باقة الأزمات الإيرانية.
كقافلةٍ بطريق واحدة، بدت إيران للجميع. لم يكن أمامها سوى المواجهة، فأي تراجعٍ لم يكن ليحتسب إعادة تموضع تكتية، بل انكسارًا يمهّد لانكسارات. ولم تكن طهران في وارد ذلك، رغم الصراع المتفاقم بين جناحي السياسة الداخلية، وهو الصراع الذي برز عميقًا في الصحافة الإيرانية.
خارجيًا، رفعت طهران حدّة خطابها وأخرجت سيفها من غمده أكثر من مرة. وصف مرشدها ترامب بالأحمق أمام حليفه الوسيط الياباني، هدّد بتمزيق الاتفاق النووي، رفض التفاوض بالشروط الأميركية، وفرض ذلك على حكومة حسن روحاني، بشيءٍ من رضاها وشيءٍ من إصراره على إعادة تظهير الوجه الحقيقي لأميركا كما تراها “إيران الثورة”. أسقطت دفاعات إيران الجوية أهم طائرة استطلاعٍ أميركية. كان ذلك تحديًا واضحًا. هدّدت أي دولةٍ خليجية تنطلق منها أعمال عدائية تجاه إيران بالردّ السريع. عاملت بريطانيا بالمثل، فاحتجزت ناقلة نفطٍ بريطانية مقابل احتجاز البحرية الملكية البريطانية ناقلة نفطٍ إيرانية في جبل طارق التي سمع كثيرون بأنّ له حكومة، بسبب أزمة الناقلات. وفيما لم يثبت دور إيران في ضرب ناقلات النفط في الفجيرة أو بحر عمان، كان طيفها حاضرًا لدى خصومها الإقليميين، وكذلك في ضربة “أرامكو” السعودية.
في المحصّلة، استنفرت طهران مخالبها وجسّت بها نبض الاستعداد الأميركي للمواجهة العسكرية، فكانت النتيجة مطمئنةً لها. ترامب ليس رجل حرب. إنه براغماتي يحب الصفقات. قابله براغماتي آخر لكن بقفازات إيديولوجية كخامنئي، يمقت الصفقات لكن لا يمانعها. كل ذلك، كان دافعًا من دوافع رفع السقف تجاه “الخطيئة” الأميركية المتمثلة بالانسحاب من الاتفاق النووي وتشديد العقوبات. تخفّفت إيران بالتدرّج من التزاماتٍ عديدة تجاه الاتفاق.
أعلنت إيران موقعها الحيوي في مشروع طريق الحرير الصيني. رفضت الربط بين نفوذها الإقليمي والتفاوض. اشتغلت على قاعدة الاستفادة القصوى منه، وهي مستمرة في ذلك. فالعودة الإماراتية إلى الواقعية والدبلوماسية مع إيران، ناتجة عن قوة إيران الذاتية وقوة حلفائها في اليمن. في الأفق عودة سعودية أيضًا. ستاتيكو الصراع الإيراني الإسرائيلي في سوريا بقي على حاله، لكنّ طهران هدّدت عبر حليفها الاستراتيجي حزب الله، بأن أي هجومٍ عليها سيشعل المنطقة. ومع نهاية 2019 تبدو إيران لاعبًا قويًا في حلّ أزمة اليمن، وجزءًا من أزمتي لبنان والعراق وجزءًا من حلّهما أيضا. صرفت طهران الكثير من قدرتها الإشكالية في الإقليم وخطوط التجارة الدولية عبر البحار. لكنّها تبدو مستعدّة للاستمرار في ذلك، طالما أنّ التداعيات الداخلية بفعل العقوبات لم تظهر بعد، والمقصود هنا خروج الناس على النظام السياسي الحاكم والمطالبة تغييره. التظاهرات الغاضبة بفعل مضاعفة أسعار البنزين، نجحت أجهزة الدولة في إخمادها بكلفةٍ عالية.
مستعدةً لكل السيناريوهات. قالتها طهران بسلوكها عام 2019. ولدورٍ خطير كهذا لوازمه السياسية والعسكرية والاقتصادية. في كلّ ذلك أبدت استعدادها الفعلي للذهاب إلى الاحتكاك المباشر الخشن مع الخصوم، من دون الوصول إليه ابتداءً. كان 2019 الإيراني عام حافة الهاوية.
عن موقع “جادة ايران”