د. علوان أمين الدين*
ترى كل من روسيا وإيران نفسيهما أصحاب تاريخ سياسي وحضاري عريق؛ الأولى كانت قيصرية، أما الثانية فإمبراطورية. ومع تطور العلاقات بين الإثنتين، لا سيما في العقد الأخير، يمكن إستشعار بعض المحددات التي تحكم العلاقة بين البلدين سواء لناحية الدور، وهو الشق الإيجابي، أو النفوذ، الذي قد يكون اعتباره شقاً متضارباً إن لم نقل شقاً سلبياً.
فمن وجهة نظر شخصية بحتة، يشكّل الدور الإيراني عاملاً مساعداً للسياسة الروسية الخارجية، وتحديداً في آسيا بالإضافة إلى بعض المناطق البعيدة، بينما قد يشكل النفوذ الإيراني، لا سيّما في سوريا، مسألة حساسة لموسكو. هنا، سنقوم باستعراض لبعض المواقف التي تدعم هذه الفكرة.
بالنسبة إلى مسألة الدور، تعتبر إيران على الصعيد الجيو- بوليتيكي “مفتاح” وسط آسيا، فمنها يمكن الوصول إلى عمق القارة. بالتالي، إن مسألة تأمينها وبقائها ودعمها هي أمر حيوي روسي – صيني. من هنا، كان انضمام طهران إلى منظمة شنغهاي للتعاون كعضو مراقب، حيث كان من المقرر أن تصبح عضواً في المنظمة أواخر العام 2019 بسعي من روسيا نفسها منذ العام 2016.
وفيما يخص بحر قزوين، كان ضغط موسكو واضحاً لجهة اعتماد معايير البحيرة لا البحر على هذا المسطح المائي بحيث تكون الإستفادة من خيراته بالتساوي بدل أن تكون على أساس تشاطؤ كل دولة عليه؛ بالتالي، ربحت إيران ما نسبته الـ 8% تقريباً بعدما اتفق الفرقاء، ضمن إتفاقية “أكتاو” 2018، على اعتماد مبدأ البحيرة لتقسيم الثروات فيما بين الدول الخمسة.
كذلك، تعتبر إيران نقطة إلتقاء ما بين الصين وروسيا لا سيما بالمشاريع الإقتصادية الكبرى للبلدين، كـ “طريق الحرير” و”الأوراسية”، حيث تعتبر طهران محطة مهمة تحديداً في مسألة الممرات، كممر شمال – جنوب وخطوط سكك الحديد التي تبدأ من بكين لتصل إلى أوروبا عبر تركيا من خلال إيران، ناهيك عن بروتوكول روسي – إيراني لشق قناة ضمن أراضي الجمهورية الإسلامية تصل بين البحر الأسود وبندر عباس.
إضافة إلى ذلك، شكلت روسيا غطاء أمنياً لإيران بشكل غير مباشر وذلك بعد التهديدات المتكررة بضرب المفاعلات النووية قبل أن تنجز. فبناء الشركات الروسية للمفاعلات النووية، مع عدم التقليل من القدرات العسكرية الإيرانية طبعاً، كان وراء التريث في مسألة استهداف المنشآت. وفي موضوع الملف النووي أيضاً، كان للدور الروسي أهمية كبرى في إنجاز هذا الإتفاق، بغض النظر عن قرار الرئيس دونالد ترامب سحب بلاده منه، وهو ما اعتبرته يصب في مصلحتها خصوصاً بعدما صرح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، عقب التوقيع بأنه لم يعد هناك مبرراً لإنشاء الدرع الصاروخي الأمريكي، لأن الخوف من قيام إيران بإنتاج رؤوس نووية ووضعها على صواريخ باليستية لم يعد موجوداً.
على الصعيد العسكري ومع استمرار الولايات المتحدة بسياساتها، جاء تزويد روسيا لإيران بمنظومة “أس.300” الدفاعية، على الرغم من معارضة واشنطن وتل أبيب لهذه الخطوة، لتحصين طهران؛ وبالتالي، تحصين وسط آسيا معها. أيضاً، جاءت مسألة إسقاط المسيرة الأمريكية بأسلحة محلية الصنع وإستهداف لقاعدة “عين الأسد” في العراق، بغض النظر عما تم تناقله سلباً أم إيجاباً، كتأكيد على محورية ومركزية دور طهران في المنطقة وتثبيته.
كذلك، تعتبر إيران شريكاً أساسياً لموسكو حيث أصبح لهذه الأخيرة مكاناً تستطيع من خلاله “دغدغة” مصالح الولايات المتحدة في منطقة الخليج لا سيما فيما يخص موضوع الطاقة. وأبرز دليل على ذلك كانت المناورات العسكرية المشتركة، في ديسمبر/كانون الأول 2019، بين طهران وموسكو وبكين في المحيط الهندي وبحر عمان على مساحة بلغت 17 ألف كلم مربع. ولقد أعلن مساعد قائد القوة البحرية الإيرانية لشؤون العمليات، الأدميرال غلام رضا طحاني، أن الهدف من هذه المناورات هو ترسيخ الأمن وأركانه في المنطقة، مضيفاً أنها المرة الأولى التي تقوم فيها بلاده بمناورات مشتركة مع روسيا والصين، بعد اندلاع الثورة الإسلامية العام 1979، على هذا المستوى. أيضاً، أشار الناطق بإسم الجيش الإيراني، الجنرال أبو الفضل شكارجي، أن المحيط الهندي وبحر عمان هما من المناطق التجارية المهمة عالمياً وأن الكثير من الدول مطلة عليها؛ لذلك، فإن استقرار الأمن والسلام في هذه المنطقة الحيويّة مهمان جداً، لا سيما وأن لخليج عمان حساسية خاصة لأنه يرتبط بمضيق هرمز، الذي يمر عبره خمس النفط العالمي.
في المقابل، يرى العديد من المراقبين أن هذه المناورات جاءت على خلفيّة استهداف بعض السفن النفطية في الخليج، حيث دعت واشنطن دول المنطقة من أجل تكوين حلف لحماية القافلات، وهو أمر كان موضع خلاف بين حلفاء الخط الواحد، ولم يبصر النور حتى الآن.
فيما يخص دور طهران على الصعيد الدولي، فإن خطوة إرسال 5 سفن محملة بالمواد النفطية إلى فنزويلا شكّل محطة هامة على صعيد تغيرات النظام العالمي حيث اعتبره الكثير من المراقبين بأنه “دق مسماراً في نعش التفرد الأمريكي” خصوصاً وأن هذه الخطوة ترافقت مع تهديدات بحال تم المس بالناقلات أو إستهدافها. هنا، يمكن القول بأن إيران قد إستفادت، وبذكاء، من الأزمات التي تمر بها واشنطن، كوباء “كورونا” والتحضير للإنتخابات الرئاسية وبعض المسائل الداخلية، من أجل إظهار “عجز” ما يشكّل دليلاً على تراجع مكانة واشنطن الدولية.
هذا الدور وإن كان بعيداً عن الموقع الجغرافي، إلا أنه يعد “قفزة إيجابية” مرحباً بها لأنها تشكّل خطوة على طريق تغيير النسق الدولي الحالي، وهو ما يصب أيضاً في مصلحة موسكو والعديد من الدول الأخرى، كالصين، التي تعتبر أنها ضمن الخندق نفسه في مواجهة الولايات المتحدة.
في مقابل كل ذلك، يمكن القول بأن روسيا لا ترغب في أن يكون لإيران نفوذ أبعد من الدور؛ فنظرة موسكو إلى طهران هي أن تبقى ضمن القوى الإقليمية لا الدولية، أي ألا تقوم بأدوار لها طابع النفوذ، وهو ما نلاحظه في سوريا.
فبمعزل عن مواقف دمشق الرسمية وسياساتها، نستطيع ملاحظة الكثير من التباين بين الطرفين. على سبيل المثال، لا يمكن أن نغض النظر عن الإستهدافات الإسرائيلية المتكررة لمواقع تابعة للمستشارين الإيرانيين في سوريا. والسؤال هنا: إذا طلبت روسيا من إسرائيل وقف هذه الضربات، فهل ستوقف تل أبيب ذلك أم لا؟ الإعتقاد الأكبر أن تتوقف إسرائيل عن ممارساتها.
في هذا الأمر بالذات، لا تريد روسيا إثارة إسرائيل أو الدخول في مناوشات معها، بغض النظر عن بعض التباينات بين الطرفين، على عكس إيران التي تمتلك عقيدة إيديولوجية تتبنى فكرة تدمير إسرائيل. شخصياً، سمعت من السفير الروسي في لبنان، د. ألكسندر زاسبكين، مرات عديدة قوله بأن “مجيء روسيا عسكرياً إلى سوريا هدفه محاربة الإرهاب فقط لا غير”.
من هنا، إن أي خلاف أو حرب قد تندلع في سوريا مع إسرائيل فهذا يعني التأخير في الإستثمارات، الطاقة وإعادة الإعمار، خصوصاً بعدما أعلن الرئيس فلاديمير بوتين، خلال زيارته يوم عيد الميلاد الشرقي 2020 إلى دمشق، إنتهاء العمليات العسكرية الكبرى، وسحب بعض القطع العسكرية، وضرورة الجلوس إلى طاولة المفاوضات لحل ما تبقى من الأمور العالقة.
في هذا الخصوص، يمكن القول بأن جبهة الجولان قد تم “تبريدها” إلى حد كبير بعد تواجد الشرطة العسكرية الروسية في محافظات الجنوب، السويداء، ودرعا، والقنيطرة. وكلنا يذكر مطلب إسرائيل إبعاد القوات الإيرانية وحزب الله عن الجبهة الجنوبية، مسافة 60 كلم إلى 100 كلم؛ بالتالي، إن تواجد القوات الروسية في الوسط، ما بين الحلفاء الآخرين وقوات “الأندوف” الأممية، سيشكّل عامل تبريد لهذه المنطقة.
على صعيد الموانئ تمتلك سوريا ثلاثة موانئ أساسية وهي: طرطوس، وبانياس، واللاذقية. فيما خص الميناء الأول، فقد أعادت روسيا استئجاره لمدة 49 عاماً. أما فيما يخص ميناء اللاذقية، فإن إيران قد استأجرت مناطق الحاويات فيه خصوصاً مع المعلومات التي تفيد بأن طهران تريد ربطه مع ميناء الإمام الخميني، في شط العرب، عن طريق خط سكة حديد لأعمال تجارية. بالتالي، لم يبقَ سوى ميناء بانياس.
هنا، تشير الكثير من المعلومات عن بدء التنافس للاستحواذ على هذا الميناء، حيث يرى بعض المراقبين بأن هناك إشارة أثارت الروس أبرزها المعلومات عن رسو سفينة “أدريان داريا 1″، المعروفة قبلاً بـ “غريس 1” التي إحتجزتها سلطات جبل طارق البريطانية، وتفريغ حمولتها في الميناء حيث إعتبروا أنها مؤشر على أن إيران “وضعت عينها” على هذا الميناء، الذي يقع ضمن محافظة طرطوس وعلى مقربة من قاعدتها العسكرية.
في مقابل هذا الرأي، يشير بعض الخبراء بأن المصفاة النفطية البحرية السورية موجودة في هذا الميناء؛ بالتالي، من الضروري أن تقوم بإفراغ حمولتها فيه بغض النظر عن أية أهداف أو أمور أخرى.
للتأكيد على فكرة الدور لا النفوذ، يمكن قراءة ما جرى على صعيد الطاقة. تشير التقديرات إلى أن إيران تمتلك ثاني مخزون عالمي للغاز بعد روسيا (بعض الدراسات تشير إلى إمتلاكها ثالث مخزون حيث تحتل قطر المرتبة الثانية)؛ ومع الإستثمارات المقبلة في بحر قزوين، سيكون لها نصيب كبير أيضاً من غازه ونفطه.
قبل سنوات، صرحت العديد من الشخصيات الرسمية أن إيران جاهزة لتقديم بديل لموارد الطاقة الروسية في أوروبا. وفي سبتمبر/أيلول العام 2014، قال الرئيس حسن روحاني لنظيره النمساوي السابق، هاينز فيشر، أن “إيران يمكن أن تصبح مصدر طاقة آمناً لأوروبا.” أيضاً، أشار نائب وزير النفط الإيراني للشؤون الدولية، علي مجيدي، أن “الغاز الطبيعي الإيراني هو المنافس الوحيد لروسيا في أوروبا”، وتابع قائلاً بأنه يمكن للدول الأوروبية استيراد الغاز الإيراني من خلال ثلاث طرق منفصلة أي تركيا، أو العراق، أو خط أنابيب يمر عبر أرمينيا وجورجيا، ومن ثم تحت البحر الأسود. (بريندا شيفر. 27/1/2015. معهد واشنطن)
سبق ذلك أيضاً وجود نية لدى طهران لبناء خط غاز بطول 1740 كلم، من حقل بارس، يمر بتركيا ليغذي أوروبا، كما كشف رئيس الشؤون الإقتصادية بالسفارة الإيرانية في تركيا، أحمد نوراني، أن بلاده تتطلع إلى نقل غازها عبر مشروع خط أنابيب “نابوكو”، المدعوم من الإتحاد الأوروبي. (الجزيرة في 29/5/2009)
إن التطرق إلى مسألة الغاز هو “ضرب على الوتر الحساس” لموسكو؛ فإن الأخيرة وإن كانت تصرح دوماً بأن الغاز ليس “سلاحاً إستراتيجياً”، إلا أن الواقع يشير إلى عكس ذلك حتى لو أخذنا بعين الإعتبار سلامة التصريحات والنيات الحسنة الروسية منذ الحقبة السوفياتية.
فبعد توقيع الإتفاق النووي، كان هناك تصريح لافت للرئيس روحاني قال فيه أن بلاده مستعدة لتزويد أوروبا بالغاز، ليعود بعد فترة ويقول بأن الغاز سيصل إلى تركيا عبر الأنابيب الروسية.
هذا الأمر، يعتبر مثلاً واضحاً على مسألة التفريق بين الدور والنفوذ؛ فإلغاء خط “نابوكو” واقعاً كان أحد الأسباب غير المباشرة للتدخل العسكري الروسي في سوريا. لهذا، لن تسمح موسكو بأن يقوم أحد حلفائها بإحيائه من جديد. إن أي وصول للحلفاء إلى القارة الأوروبية، على صعيد الغاز، لن يمر من دون إشراف روسي مباشر.
بين البينين، هناك موضوع يجب التطرق له وهو مسألة الدين. بالنسبة إلى روسيا هي تريد “إسلاماً سلمياً”، كما تراه في إيران أو بعض المدارس السنية المعتدلة، لأن إتحادها يضم عدداً من الدول الإسلامية بالإضافة إلى أنها عانت كثيراً من مسألة التطرف والإرهاب، والشيشان خير مثال على ذلك. لذا، إن وجود إسلام من هذا النوع أمر مطلوب لأنه يخدم العقيدة الروسية الجديدة التي تريد إنضواء الجميع فيها على أساس الشراكة. ولكن السؤال هنا: هل من الممكن أن يتحول الدور الإيراني إلى نفوذ مستقبلاً على غرار ما حدث مع تركيا وتأثيرها على الإسلام وسط آسيا، ومنهم الإيغور؟ هذا سؤال يجب التوقف عنده خصوصاً مع الحديث عن تنافس، إن لم نقل صراع، سعودي – إيراني في موضوع تشييع المسلمين السنة أو “الدعوة” الى الإسلام في المجتمعات غير الإسلامية، وأبرز مثال على ذلك ما يحدث في أفريقيا.
ختاماً، يمكن القول بأننا نعيش ضمن علاقات دولية فيها الكثير من عناصر التداخل لا التطابق. بالتالي، يتم “التعامل على القطعة”، إذ لا عجب أن يتم استهداف القوات الإيرانية في سوريا اليوم وغداً يعقد إجتماع على مستوى وزراء الخارجية أو القمة مثلاً. لكن ما تجدر الإشارة إليه هنا هو وجود سقف لهذه التباينات خصوصاً وأن ما يجمع البلدين هو التصدي، ولا يمكن القول “العداء”، لسياسات الولايات المتحدة في المنطقة والعالم وهو ما يعد أكبر بكثير من أن يصل الخلاف بينهما إلى حد التصادم. والحق نقول، إن هذا الأمر هو شيء طبيعي ضمن العلاقة بين الحلفاء بسبب وجود مصالح وطنية لكل طرف قد لا تلتقي مع الطرف الآخر بشكل كامل ما دامت تحت سقف معين. برأيي، إن تشبيك المصالح الإقتصادية أكثر سيشكّل عاملاً إيجابياً في تحديد وتوزيع الأدوار مما يخلق جبهة موحدة بثغرات قليلة جداً.
*مؤسس ومدير مركز سيتا