الرئيسية » العالم والخليج » طباخ الغلابة في غزَّة .. عطاء في زمن رمضان وكورونا

طباخ الغلابة في غزَّة .. عطاء في زمن رمضان وكورونا

غزَّة -عبد الله مسعد أبو كميل

الساعة تشير إلى الرابعة عصراً، نسمات الهواء الممزوجة برائحة الطهي تفلتت من بين زقاق البيوت، قادتنا إلى أحد التجمّعات في حيّ الشجاعيّة، حيث ضجيج الناس بدا واضحاً على غير المألوف، فالحال في هذه المنطقة ليس كما صمت الأسواق. قليل من الوقت لتُشعل نار الموقدة، تعلوها قدرة كبيرة الحجم ملئت بالماء، حبوب القمح، والقليل من اللحوم.

من تلك الرائحة كان الأطفال قد علموا بإشعار مسبق أنَّ موعد الوجبة المجانيّة قد حلّ، فجاؤوا حاملين أوانِ بيتيّة متنوعة الأحجام؛ ليلتفوا حول طعامهم المنتظر كما بعض الشباب حينما تزاحمت الركاب ببعضها.

الحاج وليد الحطاب 57 سنة، متقاعد من الوظيفة الحكوميّة، عاصر انتفاضتين وثلاثة حروب إسرائيليّة، يعيل 9 أفراد من أسرته، منذ عدَّة أعوامٍ كان قد اتخذ على عاتقة مبادرة خيرية  تعني بإطعام المحتاجين من أبناء الحي الأكثر كثافة سكانيّة في قطاع غزَّة.

وفي محض الصدفة حينما استشعر مدى مأساويّة الحالة المعيشيّة لسكان القطاع بفعل الحصار الإسرائيلي المفروض عليه، أخذ على عاتقه طهي شوربة الجريشة “حبوب القمح مع اللحوم” وتوزيعها على الأسر الفقيرة طوال شهر رمضان من كلّ عام، قاصدًا بها التكافل المجتمعي وسد حاجيات العوائل غير القادرة على تدبير أساسيات الإفطار اليومي.

ولا تزال إسرائيل تفرض حصارها البري والبحري والجوي على سكان غزَّة منذ ما يزيد عن 13 عاماً.

ولكن الحطاب استطاع من خلال مبادرته المجانيّة أن يكون مصدر الابتسامة لمئات الأفراد من أبناء حيّه، إذ أنَّه يُقَدِر عدد المستفيدين من تلك المبادرة ب 150 عائلة يومياً، هؤلاء الذين يشتكون الفقر الحقيقي، فلولا الحاجة لما جاءوا ليتلقفوا ما تيسر من الطعام المطبوخ على قدرة التهمتها النيران الغليظة.

وتعمد الحطاب أن يكون حيّ الشجاعيّة هو المستهدف الأساسي لهذه المبادرة التي أطلق عليها “للغلابة”؛ لأنَّ نسب الفقر فيه ارتفعت توازياً مع كثافته السكانيَّة، كما أثار الحرب الأخير لا زالت باقية، وهنا يشير لنا مركز الإحصاء الفلسطيني أنَّ الفقر في غزة بلغت نسبته قرابة 80 في المئة، وبالمقارنة بين القطاع  والضفة الغربية فإنَّ الأولى تفوق الأخرى بأربعة أضعاف في الحاجة، ما عزز فكرة المشروع لديه.

اقترب موعد العطاء فعقارب الساعة احتلت السادسة ونصفها، ورائحة الجريشة بدت كالمغناطيس حينما اقترب الأطفال كما الشباب حول القدرة، الحطاب يهمِد النار من تحت القدرة المستوي طعامها؛ بإشارة منه للبدء بالاصطفاف لملء الأواني الفارغة، ولبرهة من الزمن  أصوات الأطفال علت في محاولة لإثبات الوجود خوفاً من النسيان أو الخلاص قبل الحصول على الطعام.

وعند سؤال الحطاب عن اختياره لوجبة الجريشة قال لنا إنَّ هذه الأكلة متوارثة لديهم من القدم، ففي كلّ شهر لرمضان لا بد أن تكون حاضرة على مائدة الإفطار، وهو الدافع الأساسي الذي جعله يُقدم على طهيها لأنَّها مألوفة لدى سكان حيّه، وتعتبر من الأكلات الشعبية اللازمة.

كان يَسكُب الطعام بمغرفة حديدية لأحد الأطفال ليضيف لنا: “أنَّ هذه الطبخة تصنع على حسابه الخاص، وفي بعض الأحيان يقوم المتبرعون بتقديم مبالغ نقدية يعمل على شراء المكونات المطلوبة لإعداد الوجبة، وآخرون يأتون بالمكونات فيصنعها ويوزعها”.

لكن، في ظل الحطاب كان رجل يدعى  محمود الحرازين، 32 عاماً، جريح أصيب سابقاً، لفت أنظارنا عمله الديناميكي برفقةالحطاب، ما دفعنا لسؤاله قبل أن يوضح لنا أنَّه شريك العمل التطوعي الإنساني، اقتنع بمبادرة رفيقه فعزم على العمل معه منذ أربعة أعوام.

 وبيَّن لنا الحرازين أنَّ الدافع الحقيقي لملازمة العمل الخيري الوضع الاقتصادي الذي يعاني منه سكان القطاع، بالإضافة إلى قلة العمل؛ ومع مجيئ فيروس كورونا زادت الأعباء على المواطنين الذين يتقاضون راتباً يومياً.

ونشير هنا إلى أنَّ لجنة الطوارئ الحكوميّة في غزَّة كانت قد اتخذت قراراً مقتضاه إغلاق كافة المقاهي والمطاعم السياحية، ما دفع أرباب العمل لتعطيل عمالهم لحين انتهاء الأزمة المرهونة التي سببها فيروس كوفيد 19.

وسط ذلك المشهد أستَوقَفنا شاب ثلاثيني ليقول لنا إنَّه جاء ليساعد صاحب المبادرة مقابل أن يحصل على مزيد من الطعام لأسرته، بعدما علمنا أنَّ منزلهم هدم في الحرب الإسرائيلية الأخيرة عام 2014، هو لم يجد فرصة للعمل في مجال المحاسبة بعدما تخرج من الجامعة، معيلاً لخمسة أفراد من الإناث وطفلين.

تجدر الإشارة إلى أنَّ البطالة في القطاع سجلت نسبة 70% بين صفوف العمال والخرجين، كان الحصار الإسرائيلي سبباً رئيسياً في هذه المعضلة، من خلال توقف غالبيّة القطاعات المحليَّة الخاصة، لتُحدث تراجعا في فرص العمل، قبل أن يأتي الفايروس المستجد كورونا فيزيد من أعباء العمال الذين سرحوا من أمكان عملهم بسبب إغلاقها وتراجع الواردات لدى أصحاب الشركات الخاصة.

عن عبدالله بوكميل