الرئيسية » العالم والخليج » السعودية » “كارنيغي” عن سعودية لا تختزل بآل سعود

“كارنيغي” عن سعودية لا تختزل بآل سعود


يواجه الدعم الأميركي للحراك المدني السعودي عدداً من المعضلات التي تثقل كاهل النشطاء السعوديين.

في آذار/مارس المقبل، سيكون قد انقضى ستة عشر عاماً على غزو الولايات المتحدة للعراق. لقد أسفر سقوط نظام صدام حسين على يد هذا الغزو عن تغييرات كثيرة في المنطقة، من بينها إعطاء الزخم لموجة جديدة من الحراك المدني السعودي الذي اغتنم فرصة الاضطرابات الإقليمية التي تلت هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، لتغيير الطابع الإسلامي المتشدّد والذكوري اللذين لطالما طغيا على المشهد السعودي.

منذ ذلك الحين، بدأ الإصلاحيون الإسلاميون، والليبراليون، والشيعة، والنساء في تقديم بديلٍ عن السرديات التي يطرحها النظام والمتشددون حول السعودية، وكذلك حول علاقة المملكة مع الولايات المتحدة. وقد وضعت الأزمة التي اندلعت على خلفية مقتل الصحافي جمال خاشقجي تلك الأصوات السعودية غير التقليدية تحت دائرة الضوء في الكونغرس وفي الإعلام الأميركيين. بيد أن تأثير هذا الضوء الأميركي حمل في طياته تحدّيات مستمرة تواجه هؤلاء الناشطين السعوديين.

لطالما كان للضغوط الأميركية تأثير سياسي في داخل السعودية. فالضغوط التي يمارسها الكونغرس والإعلام حالياً تسهم بلا شك في الحؤول دون وقوع جرائم أخرى على غرار تلك التي ذهب ضحيتها خاشقجي. وفي الأول من شباط/فبراير، تراجعت النيابة العامّة في السعودية عن طلب عقوبة الإعدام للناشطة إسراء الغمغام، وهي أول امرأة واجهت احتمال صدور الحكم عليها بالإعدام بسبب نشاطٍ سياسي. كما يستمر تأجيل أحكام إعدام بحق بعض السجناء السياسيين، وإن كانت حفنة ضئيلة منهم تحصل على إخلاء سبيل، أو يتم الإفراج عن أفراد عائلاتهم الذين أُوقِفوا معهم.

بالمثل، كانت الضغوط الأميركية مؤثرة في مشهد الحراك السياسي والمجتمعي الذي شهده المجتمع السعودي في مطلع القرن الحادي والعشرين، والذي يُعتبر الحراك الذي نشهده اليوم امتداداً له. فقد استفاد عددٌ كبيرٌ من النشطاء السعوديين، سواء ممن هم حالياً داخل المملكة أو في المنفى، من السياسات الأميركية التي وضعت الإصلاحات السياسية على رأس أجندتها في الشرق الأوسط آنذاك، لخلق موجة جديدة من الحراك السعودي. ولم تكن قدرتهم على مواصلة هذه الجهود ناجمة فقط عن اعتماد القيادة السعودية مقاربة مختلفة في التعاطي معهم، إنما أيضاً عن المتابعة الأميركية الدقيقة لسياسات النظام السعودي في أعقاب هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001.

وسواءً في تلك الفترة أو اليوم، هناك معضلة تكمن في أن حشد الرأي العام الأميركي ضد السعودية يجعل النشطاء السعوديين عرضةً إلى اتهامات تُساق بحقهم في الداخل بالخيانة، والتآمر ضد وطنهم الأم، والتحالف مع الخارج من أجل غربنة المجتمع السعودي. ففي مطلع القرن الحادي والعشرين، وربما حتى العام 2015، كانت قيادة الحراك السعودي تتم، بصورة أساسية، من داخل المملكة. وعلى الرغم من ذلك، كانت مثل هذه الاتهامات تُساق حتى من دون الأخذ في الاعتبار أنه لم يكن للنشطاء أي تواصل مع السفارة الأميركية في الرياض، أو أن جميع العرائض التي رُفِعت إلى ولي العهد والملك كانت تُستهَل بإدانة واضحة للتدخل الأميركي في العراق وفي الشؤون الداخلية السعودية. فلطالما أجّجت السردية الرسمية المشاعر الوطنية ضد النشطاء، في حين ساعدت السياسات الأميركية في العراق على تأجيج المشاعر الشعبية الغاضبة، وخاصة تلك السياسات التي رسخت التعصّب المذهبي في المنطقة والذي أضحى يشوه الحراك الشيعي السعودي حتى يومنا هذا.

كما قد تسبّب تدمير العراق والانتهاكات في سجن أبو غريب في تفاقم العداء الشعبي ضد أي نقاش حول الإصلاحات السياسية قد يتلاقى مع خطاب إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، التي استخدمت خطاباً مماثلاً لتبرير سياساتها في العراق والمنطقة. وفي غضون ذلك، واظبت الولايات المتحدة، التي كانت لاتزال في ذلك الوقت تحت تأثير صدمة هجمات 11 أيلول/سبتمبر، على وضع القيم الإسلامية والفاعلين الإسلاميين في موضع الاتهام، من دون التمييز بين المعتدل والمتطرف، ومن دون مراعاة لمركزية هذه القيم وهؤلاء الفاعلين في المجتمع السعودي.

اليوم، لايزال الدعم الذي يقدّمه الكونغرس والإعلام الأميركي للمعارضين والنشطاء السعوديين يحمل هذا التاريخ الذي يُضطر النشطاء السعوديون إلى التعاطي معه. إذ يقول مواطنٌ سعودي أجرت معه صحيفة “واشنطن بوست” مقابلة عن مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي: “لم يكن يجب أن يحدث ذلك، مثلما لم يكن يجب أن يحدث ماحدث في غوانتانامو أو سجن أبو غريب”. وهكذا، لا يواجه النشطاء السعوديون فقط تحدّي تعبئة إخوتهم في الوطن من الذين يزداد خوفهم مع تزايد القمع السياسي، وإنما عليهم أيضاً أن يتعاملوا مع الرأي العام السعودي الذي ينام ويفيق يومياً على ماوصفه البعض بالانتقادات الأميركية “المضلِّلة، بل وسيئة النية” التي تُظهر أسوأ مافي بلادهم، على الرغم من أن المملكة تشهد عدداً كبيراً من الإصلاحات الثورية. إن بعض السعوديين يطرحون سؤالاً مشروعاً طرحته سيدة سعودية في نفس المقابلة مع صحيفة “الواشنطن بوست”: “لماذا يهاجمنا الجميع؟” وحتى مع الأخذ في الاعتبار حذر هؤلاء المواطنين عند الحديث مع الصحيفة التي كان يكتب لها خاشقجي، إلا أن هذه الأسئلة مطروحة وتعكس ما يدور في خلد بعض المواطنين السعوديين.

لقد أثار مقتل خاشقجي صدمة لدى الدوائر الرسمية والفكرية في واشنطن، والتي اضطُرَّت إلى المغالاة في حملتها الحالية ضد السعودية في محاولة منها للتعويض عن انبهارها المبالغ فيه بولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي كانت ترى فيه إصلاحياً مُستنيراً. وقد جعلت كلٌّ من هذه الجريمة والتداعيات الإنسانية الكارثية للحرب في اليمن السعودية برمتها عالقة في حالة الاستقطاب الراهنة في السياسة الأميركية بشكل كثيراً ما يتجاهل مشاعر المواطنين السعوديين.

ثمة خطرٌ بأن تتحوّل حملة الانتقادات اللاذعة التي تُشَن راهناً ضد السعودية، مثلما حصل في أعقاب هجمات 11 أيلول/سبتمبر، إلى إدانة لكل ماهو سعودي، متناسين أن المملكة العربية السعودية، على الرغم من اسمها، لاتُختزَل فقط بآل سعود. فهذه الحملة تترك المواطنين السعوديين رهينةَ للخطاب الدولتي الحالي عن الوطنية والمبني على التصدّي للمؤامرات الخارجية، كما تقرن الوطنية السعودية بالالتفاف حول ولي العهد.

وفي إطار الضرب على تلك المشاعر، أشارت كاتبة سعودية في صحيفة “عكاظ” إلى أنه “لايجدر بنا أبداً أن نترك مشكلاتنا تُشوّه سمعة مجتمعنا”. وتستهدف هذه السرديات مباشرةً النشطاء السعوديين من الذين يُضطرّون، على نحو متزايد، إلى التوجّه إلى المنفى واللجوء إلى مواقع التواصل الاجتماعي للتواصل مع إخوتهم وأخواتهم من المواطنين السعوديين.

كما أن تركيز الحملة التي تشنّها دولٌ أجنبية ضد النظام السعودي الحالي على دعم النساء والمعارضين في المنفى، يُستخدَم محلياً لتشويه غايات الحراك السعودي. كما يسهل من توصيف هذه الحملة في داخل المملكة بأنها ذات دوافع سياسية وتهدف إلى غربنة المجتمع السعودي. ويشكّل ذلك تهديداً للدعم المتزايد الذي يلقاه تمكين النساء في داخل المجتمع، كما يحمل في طياته أيضاً خطر تهميش مئات السجناء السياسيين في داخل السعودية، ولاسيما الإسلاميين الإصلاحيين الذين تستمر الناشطات السعوديات والمعارضين في الخارج في الدفاع عنهم.

ليس هناك من منفذٍ سهل للخروج من هذه المعضلات، ويقع على عاتق السعوديين تحديد نوع الدعم الذي يريدونه من الولايات المتحدة. قد تكون نقطة البداية هي قيام الدبلوماسية العامة الأميركية بفتح قنوات مباشرة مع أصوات مدنية مستقلة في داخل المجتمع السعودي. وفي جميع الأحوال، ينبغي على الكونغرس ووسائل الإعلام الأميركية توخّي الحذر لكي لايخسروا الرأي العام السعودي، بما يؤدّي إلى إعادة إحياء عداءٍ تجاه للولايات المتحدة، مثل ذلك الذي ولّدته الحملة الأميركية على السعودية في أعقاب هجمات 11 أيلول/سبتمبر. فإن هذا العداء منح زخماً شعبياً للتنظيمات المتطرفة في المجتمع السعودي. ولكن في الوقت نفسه، لا يجب أبداً أن يُستخدم مثل هذا الحذر في منح النظام السعودي دعماً غير مشروط، مثل ذلك الذي تمنحه له إدارة ترامب حتى هذه اللحظة.

ياسمين فاروق

في مركز كارنيغي للشرق الاوسط

https://carnegie-mec.org/diwan/78415

عن جورنال