“لا حبّ صادقاً أكثر من حب الطعام”… المقولة الخالدة للكاتب والمسرحي الإيرلندي جورج برنارد شو قد تكون صالحة في كلّ مكان وزمان، ولكنها تكتسب وقعاً خاصاً حين تقترن بمدريد، المدينة الساحرة، التي تبدو أشبه بامرأة تسحرك بجمالها الفاتن، وسرعان ما تجعلك تقع في حبّها، حين تعزف على أحد أوتار مشاعرك الحساسة… الطعام!
تدرك مدريد جيّداً قواعد العشق. يومٌ أو اثنان، ربما يكونان كافيين لكي تكتشف مفاتنها، من «بلاسا مايور» و«القصر الملكي»، مروراً بكاتيدرائية «المودينا» وبازيليك القديس فرانسيس، وصولاً إلى «بويرتا دي ألكالا» و«باركي ديل ريتيرو»… إلى آخر تلك المعالم السياحية/الثقافية، التي تولّد لديك شعوراً غريباً، بأن علاقتك بالمدينة، ستكون أقرب إلى علاقة عابرة بامرأة جميلة، صادفتها حين ولجت إلى حانة صغيرة، بحثاً عن الدفء، في ليلة أوروبية باردة، وافترقتما بعدما ارتشفتا الجرعة الأخيرة من كأس النبيذ.
لكنّ مدريد ماكرة. هي لا تكشف لك عن مفاتنها دفعة واحدة. تجعلك تدور وتدور وتدور، قبل أن ترمي في طريقك «الطعم» الذي يجعلك تتعلّق بها أبداً، فتولّد لديك شغفاً بالتوهان في دهاليزها، لتكتشف ما تخفيه من أسرار.
تعلم مدريك جيّداً كيف تضع قلبك، من حيث لا يدري، على الطريق السريع إلى عشقها. لكنها تحسن لعبة الانتظار حتى اللحظة الحاسمة. تصرّ المدينة – المرأة على إحباطك، حين لا تجد في أدلّة السفر، الكتابية أو الالكترونية، سوى بضعة أماكن «شهيرة»، لا تستثير حاسة الذوق لديك، في ما تقدّمه من أصناف الطعام، التي افقدها النمط الاستهلاكي المُعولم عراقتها.
هو شعور خيبة الأمل، الذي يجعلك تفكّر بعمق في إحدى مقولات الكاتب الصحافي الأميركي مايكل بولن في كتابه «دفاعاً عن الطعام»، بأنّ «ما يأكله الناس هو أحد أكثر الطرق فعالية للتعبير عن هويتهم الثقافية والحفاظ عليها … وبالتالي فإنّ تقييد الخيارات الغذائية بقواعد علمية هو إفراغها من محتواها وتاريخها الإثني».
وحده الحدس يدفعك إلى مقاومة هذا الإحباط، الذي يكاد يجعلك تفكّر في أن تبتعد إلى مكانٍ آخر. تسأل نفسك: كيف يمكن أن تكون الحال هكذا في بلد تتردّد فيه مقولات شعبية من قبيل «Desayuna mucho, come más, cena poco y vivirás» (تناول فطوراً كبيراً، غذاءاً أكبر، عشاءاً خفيفاً، وتمشّى)، أو «Donde comen dos, comen tres» (حين يأكل اثنان يحضر الثالث)، أو «A beber y a tragar, que el mundo se va a acabar» (إشرب وكُل لأن العالم سينتهي).
في ذروة الإحباط، تكاد تظنّ أن المثل الشعبي الوحيد الذي يمكن أن تصدّقه هو «A buena hambre, no hay pan duro» (عندما يشتد الجوع، لن تجد – حتّى – الخبز الصلب).
في تلك اللحظة الحاسمة، تتدخل مدريد بمُكرها، لتضع في طريقك مطعماً مثل «Sobrino De Botin»، الذي تعرّفه موسوعة «غينيس» بأنه «أقدم مطعم في العالم» (1725)، وآخراً مثل «Las Cuevas de Luis Candelas» الذي يحمل اسم البطل الوطني الذي يمكن تسميته بـ«روبن هود» المدريدي، والمُقام في القبو ذاته الذي كان يختبئ فيه.
من هنا تبدأ خريطة رحلة الاستكشاف، التي تقودك إلى مكان تلو الآخر. ولكنّ مطاعم مدريد، التي يكتنز كل منها خصوصيته الفريدة، ليست المحطّات الوحيدة في رحلة «عشق الطعام»، فثمة «جواهر» في زوايا تلك المدينة الساحرة، وهي أسواق الطعام، التي تحفزّك على الذهاب بعيداً في تطبيق المثل الشعبي «…. تناول غذاءاً أكبر» بكل ما يمكن أن تحمله كلمة «أكبر» من معنىً في عقلك ومخيّلتك.
أبرز تلك «الأسواق» على الإطلاق هو «ميركادو دي سان ميغيل»، الواقع على بعد خطوات قليلة من «بلاسا مايور»، والذي تحوّل إلى نقطة جذب رئيسية لعشاق الطعام، من أهالي مدريد وزوّارها. هذا المكان التاريخي، المثير للإعجاب بتصميمه الجامع بين الحديد والزجاج، والذي أعيد افتتاحه في العام 2009، بعد ست سنوات من أعمال الترميم، يفتح لك ذراعيه، لكي تقدم على تناول على تناول «التاباس» بأصنافها المختلفة، وأشهرها « Gambas al Ajillo» (القرديس بالثوم)، و«Вanderillas» المتميّز بخلطته السحرية من الزيتون والخيار والفلفل، بجانب الأطباق المتنوّعة منا الـ«خامون» (اللحم المقدّد) والأسماك وثمار البحر، وبطبيعة الحال الخمور على اختلافها.
ومع أن «ميركادو دي سان ميغيل» يعد الأكثر عراقة ، إلا أنّ ثمة منافسين جدّيين له، أحدثهم «بلاتييا»، الذي افتتح في صيف العام 2014، في المكان نفسه الذي كان في السابق سينما كارلوس الثالث، في حي سالامانكا، وفي نقطة «استراتيجية»، يتوسط من خلالها عدداً من أشهر متاحف مدريد مثل «متحف الرومانسية» و«متحف الشمع» و«متحف أسبانيا للآثار». وما يميّز «بلاتييا»، هي المروحة الواسعة من أصناف الطعام الفاخرة التي تتراوح بين الإسباني والإيطالي والمسكيكي والياباني والأميركي اللاتيني، بجانب الموسيقى الحيّة، التي تجعل تحفّز جهازك الهضمي على مزيد من الأكل والشرب بفرح وسلاسة.
على مسافة شارعين من «بلاتييا»، ثمة سوق آخر أكثر عراقة، هو «ميركادو دي لاباث»، وهو واحد من أقدم الأسواق في مدريد (1879)، وتكمن ميزته في كونه المكان الأكثر ملاءمة لعشاق الأسماك وثمار البحر على اختلاف انواعها، من التونا المملحة والسمك المقدّد، إلى «الاومليت» بالأخطبوط، بجانب تنويعات مختلفة من المأكولات التقليدية كـ«التاباس» والـ«تورتيا» واليخنات التي يحتل فيها لحم الخنزير مكانة خاصة.
على الضفة الأخرى من سالامانكا، يمكنك خوض تجربة غذائية رائعة في «ميركادو دي سان الديفونسو» الواقع في حي مالاسانيا، والمقام على أنقاض سوق قديم جرى هدمه في العام 1970. ثمة أسباب كثيرة للبهجة في هذا السوق المؤلف من ثلاثة طوابق، لعلّ أبرزها أنه يحسن مخاطبة ذوقك، بمروحة واسعة من أصناف الطعام، ذات الجودة العالية، ويسمح لك بتناول الـ«تورتييا» التي تختار مكوّناتها بنفسك.
وإذا ما أكملت جولتك المدريدية باتجاه حي شامبيري، فإنّ سعادك لا تكتمل إلا بزيارة سوق «مايوركا»، الذي يحمل اسم سلسلة «باستيلريا مايوركا» والتي يعود تاريخها إلى أكثر من قرن.
هذا المبنى الأنيق، المؤلف من طابقين، يبدو أكثر محافظة على الطابع الاسباني، في المنتجات العالية الجودة من اللحوم – لا سيما «الخامون» – والأجبان والخمور المحلية، بالإضافة إلى بعض الأصناف التقليدية مثل معجنات «بونيولوس» المقلية، والخبز المحمّص المعروف باسم «تورّيخاس».
«الوقت قصير جداً بالنسبة لأولئك الذين يفرحون»… أيّامك القليلة في مدريد تجعلك غير قادر على إكمال رحلة الـ«ميركاردوس»، التي يفترض أن تحملك إلى باقي أسواق الطعام، التي تحوّلت إلى مصطلح أساسي تستخدمه في محرّكات البحث عبر هاتفك الخلوي، وانت تجول سيراً على الأقدام بين حيّ مدريدي وآخر… هل ثمة فرصة لزيارة «ميركادو دي مارفيّاس» أو «ميركادو دي سان فيرناندو» أو «ميركادو دي انطون مارتين»؟ تسأل نفسك، قبل أن تقرّر زيارة مدريد مرّة أخرى، لتتنبّه بشكل سريع إلى أن المدينة انتصرت عليك في لعبة الغواية.
وسام متى في “بوسطجي”