غزة – عبد الله أبو كميل
ممّا لا شكّ فيه أنّ غزّة تعيش أسوأ مراحل حياتها الانتقالية في ظل تدهور الوضع الاقتصادي، والافتقار لأبسط متطلبات المعيشة، بسبب الحصار المفروض عليها من إسرائيل لما يزيد عن 11 عامًا.
ولا يختلف الفلسطينيون في غزة على ان الاحتلال المسبب الاكبر لمعانة اهلها، اذا بالاضافة الى سنوات الاحتلال الطويلة، جاء الحصار لاحقا متذرعا بأحداث الانقسام الفلسطيني في العام 2006، يوم سيطرت حركة المقاومة الاسلامية “حماس” على غزّة بالقوة العسكرية بعد فوزها في الانتخابات التشريعية، ليعلنها الرئيس الفلسطيني محمود عباس حكومة “انقلابية”.
المملكة السعودية أوّل من لعب دور الوسيط بين حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) وحماس، في محاولة لإنهاء الخلاف السياسي بينهما وتقريب وجهات النظر، بعد أن دعتهما لاجتماع لإبرام اتفاق في العام 2007، تحت مسمى “اتفاق مكّة”.
لكنّ سرعان ما تكشف الزيف بين طرفي النزاع، وانتهاء النفس السعودي في السيطرة على الفصيلين لاجبارهما على تطبيق ما تم الاتفاق عليه، لتعود الكرة إلى مركز الصراع والتراشق الإعلامي العلني.
في تلك الفترة كانت حركة حماس تبني علاقة حميمة مع الدولة القطرية، من خلال ساستها، وتسويق القضية الفلسطينية، وتبيان أولويتها في الحكم في غزّة.
وفي ظل الجهود التي كانت تتردد في انهاء الخلاف السياسي بين الحركتين، كانت الأزمة السورية قد بلغت أشدها في العام 2011، وأعلنت حماس موقفها من الاحداث التي تعصف بسوريا، فكان نتاجها اغلاق مكاتبها على الأراضي السورية، وخروج قياداتها الى تركيا وقطر.
كان المناخ مثمرًا في ترسيخ العلاقة بين الجماعة ودولة قطر، فسرعان ما لقيت ترحيبًا من الأمير القطري آنذاك الأب حمد بن خليفة، واستعداده لاستقبال أعضاء المكتب السياسي لحركة حماس الذي يترأسهم خالد مشعل وقتها.
النفس القطري كانّ أطول من المحاولة السعودية في محاولات إنهاء الانقسام السياسي بين الحركتين، لعلّ المرجع الحقيقي لثبات قطر في ذلك المسلك العلاقة التي تربطها بجماعة “الإخوان المسلمين” منذ العام 1999، يوم أن تدخّلت وسيطًا بين ملّك الأردن في ذلك الوقت وحركة حماس، فاستطاعت جلبها لملعبها.
بدأت قطر تتصدر مشهد الزعامة بين الفصيلين الفلسطينيين في محاولة لسحب البساط من تحت أقدام الهيمنة الخليجية التي تتمثل بالدولة السعودية، ليكون العام 2012 حافلًا بمناسبات تاريخية كانّ من أبرزها احتضان العاصمة القطرية (الدوحة) لملف المصالحة بين حماس وفتح.
وتبعها في ذات العام الزيارة التاريخية الأولى لأمير قطر حمد الأب وزوجته الشيخة موزة، بالإضافة للتنسيق القطري بالسماح لرئيس المكتب السياسي آنذاك خالد مشعل لزيارة غزّة، رغم الحصار المعلن على حركة حماس.
اتفاق الدوحة المبرم بين حماس وفتح لم يكّن في حقيقته جادًا، وإنّما جاء لتمرير سياسة قطرية بموافقة دولية، لإيقاع حركة حماس في بوتقة السياسة القطرية، من خلال الدعم المالي الذي يعتبر متنفس اساسي لمقومات ثبات سياسة حماس على أرض غزّة.
ورأى مراقبون أنّ دعم قطر لحماس لم يكّن هبة لغزّة وساكنيها، وإنّما جاء ليساعد الأخيرة في اعلان وثيقتها الجديدة، من على الاراضي القطرية، والتي تتبنى فيها فكر الانفتاح على العالم والاعتراف الضمني بحدود 67، وهو ما تتبناه حركة فتح.
وبحسب المراقبون فإنّ قطر نجحت في خلق حماس جديدة كبديل عن حركة فتح، تقبل مفاوضات مباشرة مع الجانب الاسرائيلي، وهو ما أعلنه عضو مكتبها السياسي موسى أبو مرزوق بقبول مبدأ التفاوض مع الاحتلال.
فجاء الدعم القطري بطابع اقتصادي، وحمل في باطنه الجانب السياسي الذي لا يمكن اخفاءه، حتى لو لم يكن الأمر معلنًا، وذلك بحسب ما قدره المراقبون.
ويرى مراقبون أن الدولة القطرية عملت على ترسيخ الانقسام بين فتح وحماس من خلال دعوتها لرئيس المكتب السياسي آنذاك خالد مشعل لحضور القمة العربية كبديل عن الرئيس الفلسطيني محمود عباس وتكفّلها بصرف رواتب موظفي حماس فقط، بالإضافة إلى افتتاح مشاريع في غزة جهزت ولم يتم العمل بها حتى هذه اللحظة، وكأن قطر تنتظر تنازلا سياسيا جديدا من قبل حماس.
“جورنال” التقت بالخبير القانوني أحمد حسنية عميد كلية الحقوق في جامعة غزة وسألت عن المدى القانوني للدعم الخليجي لحركة حماس، وقال إنّ قطر كسرت البروتوكول الدولي في دعمها المالي، الذي منّ المفترض أن يأتي عن طريق جامعة الدول العربية مرورًا بسلطة النقد الفلسطينية.
واعتبر حسنية أنّ قطر استطاعت تمرير تمويلها المالي للقطاع عن طريق التذرع بضرورة إنشاء لجنة القطرية لإعادة إعمار غزّة بعد عدوان صيف 2014.
وتابع: “من بين المواد التي تنص عليها الجامعة العربية أنه يحق للدول المانحة دعم المناطق المنكوبة من خلال تقديم مساعدات إنسانية للمواطنين، وهذا الأمر استغلته قطر لتمرير أهدافها السياسية ودعمها لحركة حماس تحت ما يسمى مشاريع تشغيلية”.
وأشار حسنية إلى أنّ أغلب المشاريع القطرية التي يتم الإعلان عنها وتدخل تحت بند المناقصات الاستثمارية بين رجال الأعمال تكون حركة حماس مهيمنة عليها لترسوا الصفقة لصالحها وبذلك لا يخر الماء من غربالها.
واستدرك حسنية: “طلبنا نحن كقانونيون بالكشف عن الاتفاق الذي تم توقيعه بين حماس والسفير القطري محمد العمادي بشأن مدينة حمد التي أنشأت على أساس أنها بديل لمن هدمت منازلهم في عدوان عام 2014، والأسر الفقيرة التي دون خط الفقر المدقع، إلا أنّ الأمر قوبل بالرفض”.
ويجب الوقوف هنا على أنّ أحد اشكال تمرير المال السياسي لحركة حماس، موافقة قطر على بيع شقق مدينة حمد للمواطنين مقابل 5 الالاف دولار، كدفعة أولى، وتقسيط باقي المبلغ المقدر بحوالي 40 الف دولار بالعملة الاميركية على مدار السنوات مقابل دفع 100 دولار شهريًا، وهو ما جاء مخالفًا لما تم الاعلان عنه بأنّها مجانية، ويعد ذلك تمرير مال سياسي لحماس.
ويلاحظ المراقبون ان قطر كانت تحاول تجاهل الحاضنة الخليجية وخلع عباءة الوصاية السعودية وتسويق نفسها كلاعب كبير.
السعودية اقتنصت الفرصة لصالحها ضد الدولة القطرية من خلال مكالمة سربت للأمير تميم بن حمد الذي هاجم فيها السياسة السعودية المعارضة للنظام الإيراني واعتبار جماعة الإخوان المسلمين بما فيهم حماس، الممثّل الشرعي للشعب الفلسطيني عوضًا عن منظمة التحرير (فتح).
وتحت ذريعة التصنيف الإرهابي لحركة حماس سنحت الفرصة للسعودية لفرض حصار على الدولة القطرية بمشاركة الامارات والبحرين ومصر، وجعلت الرياض رفع العقوبات عن العاصمة الدوحة مرهونًا بقطع الدعم القطري عن جماعة الإخوان المسلمين وإيقاف الدعم المالي عن حركة حماس.
قطر تعتبر نفسها الأكثر رعاية لهؤلاء الأطراف المتمثل في حاضنتها للمشروع الإسلامي، فلم يكّن من السهل التنازل عن ذلك بالصورة المتوقعة. وخرج سفيرها محمد العمادي معلنًا تنصله من دعم بلاده لحركة حماس، وما تقوم به قطر هو من باب الدعم الإنساني للمواطن في غزّة، إضافة لطرد ثمانية من كوادر حركة حماس العسكرين.
لكن ذلك لم يثنِ عنان الدول المجاورة من محاولة لفت النظر وقلب المشهد ضد قطر عمليًا من خلال ملامسته لواقع سكان غزّة، فلعبت دولة الأمارات الداعم المباشر المشرف على تقديم الخدمات الإنسانية والمساعدات الطلابية وخلافها من خلال تمريرها عن طريق القيادي في فتح محمد دحلان والذي يشغل منصب مستشار الأمن القومي للإمارات.
التباين في الادار القطري والاماراتي انعكس تباينا في المواقف داخل غزة نفسها. ظاهرة، تمثلت لاحقا في الاعتداء على السفير القطري والتطاول برشقه بالأحذية والمطالبة بعدم عودته إلى القطاع.
وفي استطلاع عشوائي أجرته “جورنال” في الشارع الغزّي، شكلت نسبة 40 شخصًا من أصل 50، لم يتلقوا مساعدات قطرية، وعلى ذات النقيض تلقى 35 مواطنًا من أصل 50 للدعم الآخر؛ من دول مختلفة كان أبرزها الأمارات التي كان أخر مشاريعها توفير المستلزمات الطبية عن طريق الهيئة الهلال الأحمر الإماراتي للمصابين على الحدود الشرقية الفاصلة بين غزة والاحتلال الإسرائيلي بقيمة 5 ملاين دولار.
وعلى ذات السياق الدولة الكويتية استطاعت أن تجعل لها بصمة واضحة بين المواطنين في غزّة من خلال افتتاحها لعدة مشاريع خيرية لم يكن أخرها مشروع دعم التعليم من خلال بناء عدة مدارس، مرورًا بدعمها لإعادة بناء المنازل المهدمة بقيمة 200مليون دولار أميركي، واقامة احياء سكنية وبناء مساجد، ومراكز صحية.
لكنّ اللافت للنظر أنّ جميع الدول المانحة دون قطر، كانت تمرر مساعداتها لغزّة بشكل قانوني، وبعلمٍ مسبق من جامعة الدول العربية، وتحت إشراف السلطة الفلسطينية أو حكومة الوفاق الوطني.