لم تجلب اسرائيل منذ الاعلان عن تاسيسها قبل 76 سنة، سوى الخراب والحروب على جوارها. وفي حروب العام 1956 و1967 و1973 و1978 و1982 بالاضافة الى غزواتها على غزة طوال سنوات، كانت تخوض معاركها داخل اراضي العرب. لكن هناك ما تغير جذريا الان.
+++++++++++++++++
انها المرة الاولى التي تجبر فيها اسرائيل على خوض معركة ممتدة زمنيا بهذا القدر، حيث انها مضطرة الى الانخراط في مواجهات عسكرية على عدة جبهات في الوقت نفسه منذ 300 يوم متواصلة، وهو ما يتجاوز حتى ما تسميها اسرائيل “حرب الاستقلال”، او حرب النكبة كما يسميها العرب والفلسطينيون في العام 1948.
وفي تلك الحرب، قاتلت العصابات الصهيونية منذ 15 ايار مع المقاومين الفلسطينيين والجيوش العربية داخل اراضي الفلسطينيين التاريخية، حيث كانت العصابات الصهيونية تسعى الى فرض احتلالها على الارض. واستمرت هذه الحرب 9 شهور و3 اسابيع ويومين، وانتهت بهزيمة القوات العربية واحتلال ما يوصف بانها “اراضي ال48″، اي باستثناء الضفة الغربية وقطاع غزة.
وبرغم ان الدول العربية وقتها كانت تضم نحو 80 مليون انسان، ولم يكن عديد اليهود في الاراضي الفلسطينية سوى نحو 500 الف نسمة، الا ان الحكومات والجيوش العربية لم تحشد من اجل هذه المعركة الحاسمة سوى نحو 60 الف جندي، وجاء اغلبهم من مصر والاردن ولبنان وسوريا والعراق والسعودية، بينما تمكنت العصابات الصهيونية من تعبئة 120 الف مقاتل، العديد منهم، ممن جاءوا من اوروبا، يحملون مهارات قتالية اكتسبوها في الحرب العالمية الثانية. ولهذا، ولاسباب كثيرة اخرى، فشل العرب طوال شهور القتال التي استمرت اقل من 10 شهور بقليل، في كسر شوكة العصابات الصهيونية ومنعها من ترسيخ اعلان قيام “دولتهم”.
والان، يمكن القول انه الى ما قبل عملية “طوفان الاقصى” وما تلاها منذ 7 تشرين الاول 2023، فان حرب “النكبة” العام 1948، كانت اخر حرب يخوضها الاسرائيليون داخل اسرائيل نفسها. صار لاسرائيل اليد الطولى منذ ذلك الوقت، لكي تخوض قتالها ضد الدول العربية، داخل اراضي هذه الدول. لكن معركة “طوفان الاقصى”، وجبهة “المساندة” القائمة في الشمال، مع لبنان، بدلت هذه المعادلة للمرة الاولى ولوت الذراع الطولى هذه لاسرائيل.
لاحظوا مثلا ان اسرائيل، لم تنتظر طويلا بعدما استقرت لها دولتها في الاراضي المحتلة منذ العام 1948، وسارعت الى المبادرة للمشاركة في ما سمي بحرب “العدوان الثلاثي” على مصر، او ما اصطلح على تسميتها في الغرب باسم “ازمة السويس”. فقد كان الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، قد اعلن لتوه تاميم قناة السويس في العام 1956، حماية لحقوق المصريين وسيادتهم على ارضهم وبحرهم، بينما كانت بريطانيا التي خرجت لتوها من مرحلة “الانتداب” على فلسطين تاركة اياها للعصابات الصيونية، تحاول التاكيد على ان دورها كقوة استعمارية في المنطقة والعالم، لم يتلاشى، وانه لا يمكن السماح للنظام المصري بالسيطرة على القناة، وتوقيع القاهرة على اتفاقية تسليح مع الاتحاد السوفياتي، ودعم عبدالناصر للمقاومة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، كما ان اسرائيل كانت ترى انها لحظة مؤاتية لها للمساهمة في اضعاف “الثورة المصرية” (الوليدة في العام 1952)، والتي كانت من نتائج نكبة العام 1948.
وتامرت اسرائيل مع بريطانيا وفرنسا فيما عرف باسم “بروتوكول سيفرز” الذي تضمن خطة فرض المعركة على المصريين واجبارهم على التخلي عن سيطرتهم على قناة السويس، ولهذا بدا الهجوم الثلاثي بهجوم اسرائيلي، ثم انضم اليه الانكليز والفرنسيون، من 29 تشرين الاول الى 7 تشرين الثاني 1956، لكنه انتهى الى الفشل، بعد تهديدات الاتحاد السوفياتي، ورفض الولايات المتحدة، والمقاومة الشعبية في بورسعيد.
اما “حرب النكسة” في العام 1967، فانها لم تستمر سوى لخمسة ايام، وبادرت اليها اسرائيل ملحقة خسائر جسيمة بالعرب، باحتلالها كامل سيناء المصرية وقطاع غزة والضفة الغربية التي كانت تحت السيطرة الاردنية، بالاضافة الى هضبة الجولان السورية، وتهجير عشرات الالاف من العرب من هذه المناطق، وتدمير القدرات العسكرية خصوصا الجوية لمصر وسوريا. ثم ابقت اسرائيل برغم صدور قرار من مجلس الامن الدولي، يطالبها بالانسحاب من الاراضي التي احتلتها، على احتلالها لها. ولم تنسحب من سيناء سوى بعد معاهدة السلام معها، ولا تزال تحتل الجولان، والضفة الغربية برغم وجود “اتفاقات اوسلو”، وها هي تنفذ حاليا ابادة بقطاع غزة المطوق بالاساس بالكامل منذ اكثر من 17 سنة.
وحاولت اسرائيل البناء على انتصارها في ال1967، بعملية غزو سريعة باتجاه الاردن في 21 اذار 1968، وذلك فيما عرف باسم “معركة الكرامة”، بذريعة ملاحقة المقاومين الفلسطينيين، لكن الاهم كان بالنسبة اليها، السيطرة على مياه نهر الاردن لتامين مخزونها المائي لمستوطنيها المتزايدين. وتكن اهمية هذه المعركة ليس فقط في نجاح الجيش الاردني والفدائيين الفلسطينيين في اجهاض الغزو الاسرائيلي ومنعه من تثبيت سيطرته على اراض جديدة خارج “فلسطين التاريخية”، وانما في بروز فكرة “حرب العصابات” بسبب نجاح تصدي المقاومة الفلسطينية للقوات الاسرائيلية التي كانت حتى الان تحقق انتصارات سهلة نسبيا على الجيوش العربية النظامية.
ومع استمرار ما سمي ب”حرب الاستنزاف” التي تلت النكسة، وتمسك اسرائيل باحتلالها للاراضي الشاسعة التي سيطرت عليها في الجولان وسيناء وغيرها، واستمرار الغليان في الشارع العربي للرد على اسرائيل، كان من المحتم ان تندلع “حرب تشرين” والتي تسمها اسرائيل “حرب يوم الغفران”، وذلك في 6 تشرين الاول العام 1973، والتي بادرت اليها بشكل اساسي مصر وسوريا لتحرير اراضيهما المحتلة، وهو ما يعني فعليا ان المعارك جرت على اراض عربية، ولم يتعرض الداخل الاسرائيلي للهجوم، وتواصلت حتى 24 من الشهر نفسه.
وبينما وضعت جبهات القتال اوزارها بشكل “رسمي” مبدئيا، مع سوريا من خلال اتفاقية فك الاشتباك (1974)، ومع مصر من خلال ما يسمى “مفاوضات الكيلو 101″ و”معاهدة كامب ديفيد” من بعدها (1979)، فان انظار اسرائيل وسعيها للعمل عسكريا خارج “حدودها” المفترضة، كانت تتجه شمالا نحو لبنان حيت كانت تداعيات المعاناة الفلسطينية تتراكم بما في ذلك قضية مئات الاف النازحين الفلسطينيين المهجرين من وطنهم، كما كانت عمليات المقاومة الفلسطينية تنشط لا من لبنان فقط وانما من الاردن، وتدور في الوقت نفسه عمليات امنية واغتيالات وهجمات متبادلة بين المنظمات الفلسطينية واسرائيل واجهزتها الامنية، مثلما جرى مثلا في ميونيخ وفي اثينا وباريس ولندن وروما وغيرها، مثلما جرت هجمات “داخل اسرائيل” نفسها بينها عمليات في مستوطنات افيفيم وكريات شمونة ومعالوت وحتى تل ابيب.
وبدا ان اسرائيل اصبحت اكثر تفرغا للتركيز على لبنان، وفي 14 اذار العام 1978، شنت عدوانا حمل اسم “عملية االليطاني” لاحتلال منطقة جنوب نهري الليطاني، باستثناء مدينة صور، ووسعته لاحقا نحو النهر، وقتلت الاف اللبنانيين والفلسطينيين، وغالبيتهم من المدنيين، لكنه انسحبت لاحقا مع صدور قرار مجلس الامن الدولي الرقم 425، مسلمة المنطقة الى ما سمي ب”جيش لبنان الجنوبي”، وبدات تتشكل ملامح نظرية “الشريط الامني” التي ارادتها اسرائيل بمثابة منطقة عازلة خارج حدودها، لحماية مستوطنات الشمال.
وكان الشريط الحدودي اللبناني بمثابة المحاولة الثانية من جانب اسرائيل لفرض ترتيبات امنية داخل اراضي “عدوها”، اذ سبق ان جربتها بشكل ما من خلال اتفاقية فك الاشتباك مع السوريين في الجولان المحتل عندما اقتضى الاتفاق وقتها الا يدخل السوريون صواريخ “سام” المضادة للطائرات ضمن منطقة عمقها 25 كيلومترا بمحاذاة الحدود مع الجولان.
واستثمرت اسرائيل كثيرا في بلورة الشريط الامني مع لبنان، وصولا الى غزو العام 1982 الذي قاد الى احتلال اول عاصمة عربية، بعد القدس، ثم اضطرارها الى الانسحاب تدريجا من مختلف مناطق لبنان، لتتمركز منذ العام 1985 في منطقة ممتدة في العمق اللبناني، من الناقورة مرورا ببنت جبيل والخيام والنبطية وحاصبيا والبقاع الغربي ومرجعيون وجزين، على طول اكثر من 79 كليومترا على الحدود، وبعمق نحو 14 كيلومترا، واكثر من 150 قرية لبنانية.
سقطت تجربة الشريط الحدودي. لقد كانت المرة الاولى التي تضطر فيها اسرائيل الى الانسحاب تحت النيران مخلية مواقعها العسكرية تباعا بعدما برهت 15 سنة على الاقل من المقاومة وتكتاف الدولة والناس معها، على امكانية تحقيق التحرير بدون قيد او شرط، ومن دون اتفاقات ومعاهدات مسبقة. سقط بذلك مبدا اسرائيل بحماية نفسها من داخل ارض “عدوها”، وسقطت معها استراتيجية القتال داخل اراضي الاعداء، على الرغم من ان اسرائيل حاولت ترسيخ الشريط الحدودي وفاعليته، بشنها عدوانين على لبنان في العام 1993 و1996، لكن لبنان هو الذي نجح في فرض معادلة “المدني بالمدني”، ليردع اسرائيل من استسهال استباحة المناطق والقرى المدنية. واضطرت اسرائيل في نهاية المطاف الى الخروج متقهقرة في العام 2000.
والان، كل المشهد يتبدل. كان العام 2000، سابقة في تاريخ الصراع العربي-الاسرائيلي. صارت المقاومات الشعبية قادرة على التعامل مع العدو الاسرائيلي وتهديداته اكثر من قدرة بعض الحكومات والدول العربية. ما فعلته المقاومات الشعبية، مثل “حزب الله” والفصائل اللبنانية المقاومة الاخرى، وما راحت تفعله حركات المقاومة الفلسطينية ايضا، مثل حركات حماس والجهاد الاسلامي والجبهة الشعبية وفصائل شبابية مقاومة منبثقة عن فتح، فرضت معادلات جديدة.
تجربة تقهقر جديدة ستتحقق بعد ذلك بخمسة اعوام، وتحديدا في غزة التي كانت احتلتها في العام 1967، وكانت تعتزم الاحتفاظ بها لانها اقامت فيما منذ ذلك الوقت عددا كبيرا من المستوطنات الى جانب المواقع العسكرية الكثيفة، لكنها تحت وطاة عمليات للمقاومة الفلسطينية، وبدء استخدام الصواريخ البدائية الصنع، ادركت اسرائيل ان تمركزها داخل القطاع الفلسطيني لم يحقق لمستوطنات “الغلاف” الامان. وفي العام 2003، اضطر رئيس الحكومة ارييل شارون الى طرح خطة الانسحاب من غزة، ووافق الكنيست عليها في شباط 2005، ونفذت في شهري اب وايلول من نفس العام. وللافت ايضا ان هذا الانسحاب تقرر بعدما جربت اسرائيل، بلا جدوى، في ايلول 2004، قهر الفلسطينيين، بعملية برية-جوية واسعة، ومحاول وقف صواريخ “القسام” التي كانت تستهدف مستوطنات سديروت، خارج القطاع، والمستوطنات داخله، وانما من دون جدوى. وبرغم مئات الضحايا الفلسطينيين، فان المقاومة لم تكسر.
صار لزاما على اسرائيل ان تتموضع خارج “ارض اعدائها”. وكما فعلت بخروجها من جنوب لبنان، جرت اذيال الخيبة في غزة، وتموضعت خارج القطاع منذ العام 2005، لكنها طوقته بالابراج والاسلاك الشائكة والجدران والتحصينات، وعزلته تدريجيا عن العالم، ودمرت مطاره الوحيد وميناءه وحاصرت بحره واحكمت اغلاق معابره.
“طوفان الاقصى” في 7 تشرين الاول 2024، اكد ما صار مؤكدا في لبنان العام 2000. قتال اسرائيل وسيطرتها من داخل اراضي اعدائها لم تعد تكتيكا ناجحا. بامكان فصائل المقاومة فرض معادلات جديدة في الصراع. في 19 تموز 2024، اعلت المقاومة في لبنان، قصف مستعمرات هي ابيريم ونيفيه زيف ومنوت، وذلك للمرة الاولى منذ بدء اشتعال الجبهة الشمالية. تتعمق هجمات المقاومة اكثر في داخل اسرائيل نفسها. الشريط الحدودي الذي جربت اسرائيل اقامته في لبنان، راح يترسخ فعليا في داخل “اراضيها” نفسها. المستوطنون، المعارضة، قادة الجيش والاجهزة الامنية، يشتكون منذ بداية الحرب، الى ان مساحة بعمق يتراوح بين 10 الى 15 كيلومتر، مصابة بشلل شبه كامل، وتكاد تقتصر الحركة فيها على الوحدات العسكرية، بينما من المقدر ان اكثر من 200 الف مستوطن غادروا الشمال المجاور للبنان.
وفي 18 تموز ايضا، قالت المقاومة انها ضربت للمرة الاولى “قاعدة فيلون” التي تبعد عن الحدود اللبانية نحو 16 كليومترا. اسرائيل تصعد اعتداءاتها وقتلها للمدنيين وقصفها للقرى، والمقاومة تعمق من مسافات استهدافها في “الشريط” الاسرائيلي المخلى من الناس والحركة الاقتصادية والزراعية. المقاومة في لبنان قالت انها “تعاهد شعبها انها عند اي اعتداء على المدنيين، سيكون الرد على مستعمرات اخرى جديدة”.
فكرة “ارض الميعاد” و”الوطن الامن” التي وعدت به العصابات الصهيونية في العام 1948 يهود العالم لكي ياتوا اليه، تتساقط تباعا. مفاهيم اسرائيل منذ اقامتها تترنح بشكل لم تعهد من قبل، واسرائيل للمرة الاولى مجبرة على الخضوع والانكفاء للقتال من “الداخل”. وحتى لو انتهت الحرب غدا، فان مستوطني الشمال المحاذي للبنان، والجنوب المحاذي لغزة، مترددون بالعودة، ومنهم قرروا الا يعود نهائيا. هذه تقديرات الاسرائيليين انفسهم. و”جبهات الاسناد” التي تضم لبنان والعراق وسوريا واليمن، مقتنعة، مثلما ضربت تل ابيب وام الرشراش (ايلات) وقواعد الاحتلال في الجولان والنقب والجليل وبئىر السبع وغيرها، بانها قادرة على زعزعة ثقة الاسرائيليين بكيانهم، وبانه فعليا ليس وطنهم النهائي. فان تضطر اسرائيل، مهما امعنت في التدمير والابادة في غزة لتعويض انكسارها، الى خوض معارك على كل هذه الجبهات دفعة واحدة، يعني ان الصراع في المنطقة برمتها صار شكله مختلف جذريا. وليلة الصواريخ الايرانية، لم تكن سوى جزءا من انقلاب هذا المشهد بالكامل.
اسرائيل قليلة الحيلة الان. وربما هذا ايضا ما يجب ان يكون مدعاة للحذر.
جرائم اخرى
على هوامش الحروب الاسرائيلية واعتداءاتها الكبيرة، كانت هناك العديد من الجرائم والعمليات التي ارتكبتها اسرائيل ضد العرب من بينها على سبيل المثال:
-تدمير 13 طائرة مدنية في مطار بيروت الدولي العام كانون الاول العام 1968
-في نيسان 1973، ارتكبت اسرائيل عدونا جديدا على لبنان، انتقاما لما جرى في هجوم ميونيخ في المانيا. نفذت عدة عمليات في حي فردان، وقتلت القادة الفلسطينيين الثلاثة محمد النجار، وكمال عدوان وكمال ناصر، وقامت بتفجيرات في شمال بيروت وجنوبها وفي صيدا ايضا.
-“عملية بابل” التي دمرت خلالها اسرائيل المفاعل النووي العراقي المدني “اوزيراك” قبل اكتمال انشائه في 7 حزيران العام 1981 وذلك بغارات جوية.
-اغتيال الرجل الثاني في حركة فتح خليل الوزير (ابوجهاد)، بعملية انزال وتسلل في تونس في نيسان العام 1988
-تدمير “منشأة الكبر” النووية في دير الزور في سوريا، بهجوم جوي في ايلول العام 2007.
-نحو 100 قتيل وجريح غالبيتهم من الاطفال في هجوم جوي على مدرسة بحر البقر في محافظة الشرقية المصرية في نيسان العام 1970.
https://www.general-security.gov.lb/uploads/articles/14131.pdf