في العام 1918، انتقلت حكومة الدولة السوفياتية الوليدة من بتروغراد إلى موسكو. استقر قادة الدولة الجديدة، مع أسرهم، في الكرملين، وأنشئ مصنع غذائي خاص لخدمتهم. في البداية، اقتصر الأمر على «بوفيه» صغير، وفي وقت لاحق تمّ تخصيص غرفة طعام، كاملة الخدمة، في المبنى رقم 14. كانت إمكانية الوصول إلى هذا المكان مقتصرة على دائرة محدودة من الأشخاص، اتسع نطاقها مع مرور الوقت. ولكن الكرملين نفسه، كمؤسسة اجتماعية، بات مغلقاً على نحو متزايد، وهو أمرٌ فتح الخيال على الكثير من الأساطير!
في حقيقة الأمر، أرادت «الأرستقراطية» السوفياتية الوليدة أن تجعل أفضل الأشياء تحت سيطرتها، بما في ذلك الغذاء. على هذا الأساس، تجاهل «أمراء» تلك «الأرستقراطية» المجاعة الرهيبة في منطقتي الفولغا وأوكرانيا، وما رافقها من أعمال شغب على أيدي الجوعى في القرى والمدن، وأصرّوا على أن تكون ولائمهم متكاملة: الكثير من اللحوم والأسماك والأجبان.
ربما تكون الفترة التي حكم فيها لينين، هي الوحيدة التي عاش فيها القادة السوفيات مرحلة «الزهد». في المكان المعروف بـ«تلال لينين»، يمكن العثور، حتى اليوم، على بعض الأواني المطبخية الرخيصة. بعد وفاة قائد «البروليتاريا الأممية»، تغيّرت الحياة خلف جدران الكرملين تماماً.
في عهد ستالين، برزت المآدب الكبيرة التي كانت تجمع قيادات الحزب الشيوعي وممثلي الخبة السوفياتية والضيوف الأجانب. ولهذا الغرض، أقيمت بنية تحتية ملائمة جداً. كان الأمر يتطلب تأمين منتجات ذات جودة عالية من مناطق عدّة في الاتحاد السوفياتي، علماً بأنّ هذا الأمر لم ينقطع حتى خلال الحرب الوطنية العظمى.
في الستّينيات، وتحت إشراف مباشرة من اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي السوفياتي، نشأت مزارع فرعية كانت تمدّ المطبخ المركزي باللحوم والحليب والأسماك والدواجن والخضار والفواكه. هذه الممارسة ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا، فثمة مؤسسات ثانوية للغرض عينه، ومن بينها مجمّعات للصناعات الغذائية المهمة، مثل «فوسكريسنسكي» و«نيبيتسينو». ولكن جنباً إلى جنب، فإنّ منتجات بعض المصانع، وأبرزها «كريمليوفسكي»، تذهب إلى سلاسل محلات البيع بالتجزئة في كافة أنحاء روسيا، وهي تحمل علامة مميزة: “جودة الكرملين”.
كل المنتجات التي كانت تجد طريقها إلى مائدة الرجل الأول في الدولة، كان يتم فحصها بدقّة بالغة، كما أن ثمة منتجات أخرى كانت محظورة تماماً على المائدة الرئاسية، من بينها، على سبيل المثال، بعض أنواع الفطر، التي قد تكون سامة في مراحلها المبكرة. علاوة على ما سبق، فإنّ البازلاء والفاصوليا والعسل وبعض أنواع المكسرات لم يكن مرحّباً بها على الإطلاق، وذلك لأسباب صحّية، أو مرتبطة بمعايير سلامة الغذاء، إذ كان من غير المسموح تعريض الضيوف لما يمكن أن يسبّب لهم «الغازات» في البطن، أو بعض أنواع الحساسية. هذه الممارسات ما زالت قائمة حتى اليوم. وأمّا مهمة فحص المائدة الرئاسية حالياً فتتولاها وحدة خاصة في “جهاز الحماية الفدرالي”.
ومن ناحية أخرى، كانت ثمة حاجة إلى موظفين مؤهلين لتنظيم المآدب. في عهد ستالين، تم اختيار هؤلاء من بين الطهاة والنوادل الذين عملوا في مطاعم موسكو المعروفة في الحقبة القيصرية. في الواقع، لم تقتصر مهمة هؤلاء المختصين في مجال الضيافة على خدمة الكرملين فحسب، فقد ساهموا، في الواقع، في الحفاظ على الاستمرارية بين الذوق المطبخي الراقي في مرحلة ما قبل الثورة، طوال عهد الاتحاد السوفياتي، وحتى اليوم. وليس من المستغرب أن مآدب الكرملين في الحقبة السوفياتية كانت تحوي الكثير من عناصر مآدب احتفالات طبقة التجار الموسكوفية.
بدايةً، وقبل أي شيء آخر، تجلت هذه الاستمرارية في تنظيم المائدة: كانت الوجبة وفيرة بشكل واضح، وكانت كمية الأطعمة على الطاولة تنمو بشكل مباشر مع الرفاه العام في البلاد. ويقول الخبراء إنه خلال عهد بريجنيف، كان الشخص الواحد في وليمة تمتد لساعتين يتطلب تأمين ثلاثة كيلوغرامات من الطعام. بطبيعة الحال، يستحيل على المرء تناول هذه الكمية، ولكن وفرة الوليمة كانت تؤدي وظيفتها الدعائية والتمثيلية، وهي الدلالة على عظمة السلطة السوفياتية وقوّتها.
كان من المعتاد طهي سمك الحفش، ولحم الخنزير، وطيور الدراج المحشية، وكلّها توضع في صوانٍ ضخمة، على طاولات طويلة، إلى جانب الوجبات الخفيفة والمعجّنات والفواكه.
كانت المأكولات تعدّ بحرفيّة بالغة مع اهتمام كبير بالمنظر والطعم على حدّ سواء. وأما المشروبات الكحولية فكانت تتراوح بين الفودكا والكونياك.
في الثمانينيات، بدأ الكرملين في توفير المال. توقّف تدريجياً تقديم سمك الحفش، وحل مكانه سمك الفرخ، كما استبدلت الطيور والخنازير المحشية الكاملة بشرحات من اللحوم المحمرّة. برغم ذلك، ظلّت الكمّيات وفيرة، والنوعية ممتازة، حتي في سنوات التسعينيات الصعبة.
لا بد من الإشارة إلى ان تقاليد المطبخ في الكرملين لم تكن متوافقة بالضرورة مع الخيارات المفضّلة للرجل الأول في الدولة السوفياتية. كثيرون في النخبة الحاكمة، ممن اعتلوا الحكم، قادمين من طبقات إجتماعية دنيا، لم يفرضوا نمطهم الغذائي على المطبخ الرسمي، وكانوا غير مستقرين في تناول الطعام، ففي الحياة اليومية كانوا يأكلون وجبات عادية جداً – وإن كانوا يحظون بطهاة من ذوي الخبرات العالية – وأمّا في الحفلات الرسمية فكان الـ«ريبرتوار» الغذائي مختلفاً. ستالين على سبيل المثال كان يحبّ شوربة الـ«شّي»، وبطبيعة الحال، كانت تعدّ له الأطباق الجورجية. خروتشوف، الذي يهوى الصيد، كان باستطاعته أن يأكل أحياناً لحم الغزلان، ولكنه في أوقات أخرى، كان يستمتع بالبطاطس المقلية مع الخيار المملّح. بريجنيف كان يعشق الـ«كورنيك» (فطيرة الدجاج) مع الأرُز، إلى جانب أطباق الدجاج الأخرى والبيض المقلي، التي كان يعدّها له طباخه الخاص زافيدوفو. أما غورباتشوف فلم يكن مهتماً بالطعام إطلاقاً، ولكنه كان مولعاً بمجموعة متنوعة من الحلويات، التي غالباً ما كانت زوجته رايزا ماكسيموفنا تطلب من إدارة الشؤون الإدارية إزالتها من قائمة الغذائية. وأمّا يلتسين فكان يحبّ اللحم المقلي ويتناول بشهية الـ«رافيولي» والسجق مع الفستق، وكان في العموم يرفض الأطباق الغريبة.
كل شيء كان يعدّ بأقصى قدر من الرعاية. بحسب مذكرات رئيس الرابطة الوطنية للطباخين في روسيا، فيكتور بلياييف، الذي خدم لمدة ثلاثين عاماً في المطبخ الرئاسي، فإنّ المأدبة كانت تحضر فيها المئات من أطباق اللحوم والفواكه التي كان يتم غسلها وتنظيفها بعناية شديدة، ووضعها على الطاولات. في كل مرة، كانت تلك الأطباق، من دون أدنى شكر، تبهر الاجانب بشكل خاص.
كان إعداد الوليمة الرئاسية أشبه بمهمة دهن جدران الكرملين، فالأمر كان يتطلب الصحة الوفيرة لكل العاملين. وغالباً ما كان تحضير المائدة يتطلب جهد عمل لعدة أيام، كان الطباخون خلالها لا يذهبون الى بيوتهم، ويخلدون الى النوم بمعدل اربع الى خمس ساعات في اليوم فحسب.
برغم وفرة المواد الغذائية، بقيت القائمة الرسمية متواضعة نسبياً في معظم الأوقات: نوعان أو ثلاثة من المقبلات، نوعان من الحساء، طبقان أوّليان، صنفان من الأطباق الساخنة (اللحوم والأسماك)، والحلوى. على سبيل المثال، فإنّ قائمة المأدبة التي أقيمت يوم 27 شباط العام 1967، شملت الكافيار وفطيرة «فيزيغوي»، شوربة «بورش» وشوربة الهليون، «غالانتين» السمك وسلطة الدجاج الرومي، سمك بالزعفران وخروف مشوي مع الخضار، القهوة، اللوز، والفواكه. وكان الاستثناء الوحيد في بعض الأعياد الوطنية مثل الذكرى السنوية لـ«ثورة اكتوبر»، أو رأس السنة الجديدة. وعلى هذا الأساس، حلّت على مائدة الكرملين ليلة 31 كانون الأول العام 1963، أطباق جديدة مثل البيض والمخللات والخضار المشوية، وسمك السلمون مع الليمون، والسلطعون، وأنواع من الطيور، ولحم الغزلان، وسلطة الملفوف، وأنواع أخرى من الحلويات.
التقاليد السوفياتية في مآدب الكرملين – أو بعبارة أخرى كل المأكولات السابقة في الكرملين – ألغيت تماماً مع وصول فلاديمير بوتين إلى الحكم. أشخاص جدد، يملكون خبرات وآفاقاً ثقافية مختلفة في تذوّق الطعام، حلّوا مكان الطهاة التقليديين. بعض هؤلاء اتيحت له فرصة السفر إلى مختلف أنحاء العالم، بينما كان البعض الآخر يدرس أو يعمل في الخارج. لا عجب إذاً، أن ثمة حقبة جديدة في تاريخ المطبخ الرئاسي الروسي قد بدأت مع العهد البوتيني الجديد.
استبدلت الطاولات الكبيرة، التي كانت تكاد تشبه «السفن»، بموائد مستديرة صغيرة لخمسة أو ستة أشخاص. واستبدل غطاء الطاولات الكامل التقليدي، بآخر على النمط الأوروبي، وبات هناك اهتمام كبير بتصميم كل طبق، إذ صار أكثر بساطة مقارنة بالتصميم «الباروكي» الذي كان يعدّ من جماليات المطبخ السوفياتي.
أمّا الشيء الرئيسي الذي تغيّر، فهو الذوق الغذائي نفسه. لم يعد المطبخ الفرنسي التقليدي مهيمناً – بالرغم من أن الموسكوفيين يعتبرونه الأفضل في العالم على الإطلاق – بل حلّ مكانه المطبخ الإيطالي، قبل أن يتخذ الأمر منحى آخر، بفضل الطاهي الشاب قسطنطين ماكريدين، الذي أعاد الأطباق الروسية مرّة أخرى على المائدة الرئاسية: سمك ستيرلت، الأوَز، لحم «فينيزون» بصالصة التوت البري، الشمندر، فطيرة «كوليبياك»، والفطائر الروسية التقلدية، وحتى الـ«بان كيك» ذات الأحجام الصغيرة، المغطاة بملعقة من الكافيار أو قطعة من السمك المملّح.
حالياً، يتزايد الاهتمام بتراث المطبخ الروسي في الكرملين، وذلك بفضل جيل جديد من الطباخين الروس، أمثال فلاديمير موخين، ايفان وسيرغي بيريزوتسكي، أناتولي كازاكوف، سيرغي يروتشينكو، غيورجي ترويان، وآخرين.
لا يقتصر التعبير عن التراث الروسي على المطبخ فسحب، وإنما أيضاً في استخدام المنتجات الروسية ذات الجودة العالية. ومنذ العام 2012، بات النبيذ المحلي يقدّم وحده في المناسبات الرسمية، وهناك بالفعل أنواع فاخرة جداً من شبه جزيرة القرم وإقليم كراسنودار.
أما آخر الابتكارات في هذا المجال، فهي «البروفة» الأولية للمآدب. وبحسب إيغور بوخاروف، الذي ترأس منشأة «كريملفسكي» للصناعات الغذائية في عهد الرئيس ديمتري ميدفيديف، فإنّ ثمة آلية فريدة باتت معتمدة، فإدارة «كريملفسكي» تقترح مباشرة فكرة خدمة المأدبة على دائرة البروتوكول الخاصة بالرئيس، وفي حال تمّت الموافقة عليها، يتم التعامل معها بكثير من التفاصيل، قبل أيام قليلة من «الحدث»، فيتم إعداد اللائحة الكاملة للأطباق، واختيار أنواع النبيذ، وتُحدّد الخدمة المقترحة لكل طبق. وبعد الحصول على الموافقة النهائية، يبدأ العمل لإنجاز المهمة بشكل كامل.
لم يكن هناك شيء من هذا القبيل في الحقبة السوفياتية، وفقاً لفيكتور بلياييف، الذي يقول: «كان كل شيء يتحرّك بشكل تلقائي. كنا نعرف تماماً ما ينبغي القيام به، وكيف يجب أن يتم ذلك. كان يتم تكليفنا بالأمر بكل بساطة، ولكنّ أحداً لم يكن مسيطراً على التنفيذ».
(عن موقع المسكوبية)