الرئيسية » العالم والخليج » “تعديل قضائي” يفضح اسرائيل .. وشروخ القبائل

“تعديل قضائي” يفضح اسرائيل .. وشروخ القبائل

خمدت العاصفة التي ضربت البنيان الاسرائيلي طوال اسابيع، لكنها لم تتبدد، وتتجمع غيومها، اذ ان اسرائيل اجلت ازمتها الداخلية، لكن الصراع الداخلي، كشف عن مكامن ضعف في بنيانها، وعن مخاطر تتعلق بعلاقاتها مع واشنطن، الحليف الاوثق تاريخيا، في ظل التحولات الاقليمية الكبيرة الجارية.

خليل حرب

+++++++++++++++++++++++++

صدامات بين المتظاهرين في العديد من المدن والبلدات، وتهديدات متبادلة، ومخاوف من “اللبننة”، واضرابات تعم مرافئ ومطارات وادارات، وتلويح باعلان حالة الطوارئ، ومساس بقدرة الجيش وتماسكه وهواجس من احتمال زعزعة سياسة الردع، بالتزامن مع اعلان تاسيس “ميليشيات” دينية، وتصاعد العمليات الفدائية من جانب الفلسطينيين، ردا على جرائم الاحتلال بالقتل والتوغل والتنكيل.

هذا جزء من مشهد تخبط عاشته اسرائيل خلال الاسابيع القليلة الماضية في الصراع حول ما سمي ب”الاصلاحات القضائية” التي يختصرها محللون، حتى من الجانب الاسرائيلي، بانها تعكس محاولة من حكومة بنيامين نتنياهو، المتحالفة مع التيار الديني المتطرف، لتقليص استقلالية القضاء، من اجل فرض هيمنة المتشددين على الحياة السياسية والاجتماعية في اسرائيل.

ويجري ذلك فيما اجبرت اسرائيل على الخضوع للعب على حافة الهاوية، بعدما تمادت في اعتداءاتها الداخلية والخارجية، سواء بعمليات الاغتيال النشطة التي تقوم بها في الضفة الغربية والقمع ضد المصلين في المسجد الاقصى، او في تكثيف غاراتها على سوريا-وايضا على الحدود العراقية-، فاشتعلت في وجهها بؤر نار صاروخية من محيطها الجغرافي، في رسائل تحمل دلالات كبيرة.

ليس سهلا ان يضطر نتنياهو خلال ايام الى تجرع مرارة الانكفاء خلال ايام: تراجع مؤقتا عن اقرار الاصلاحات القاضية؛ ومنع المستوطين اليهود من القيام بزيارات الى المسجد الاقصى (خلال الايام ال10 الاخيرة من شهر رمضان)؛ وتراجع عن اقالة وزير حربه يواف غالانت؛ وتجنب المبادرة الى عمل عسكري كبير ردا على سلسلة من هجمات الصواريخ والامتناع عن رد عسكري يطال لبنان والاكتفاء بوضع حركة حماس في لائحة الانتقام، وشن غارات شكلية لا تتسبب بفتح جبهات اقليمية واسعة.

فكعادتها، حاولت اسرائيل الهروب من ازمتها الداخلية باتجاه تاجيج الوضع الخارجي، وخصوصا من تصعيد اعتداءاتها على سوريا، والمساس بالعاصمة دمشق، وضرب ما تصفه بانه مواقع تمركز لايران وحلفائها. وترافق ذلك، مع تحذيرات اسرائيلية من خطورة الوضع الاسرائيلي الداخلي من بينها ما قاله مثلا اللواء احتياط الاسرائيلي اسحاق بريك بان الجيش الاسرائيلي خلال السنوات العشرين الاخيرة، تحت قيادة 5 رؤساء اركان، تدهور الى ما تحت الخط الاحمر، وهو ليس جاهزا لحرب متعددة الساحات، فيما “نحن نقاتل بعضنا البعض ولا نقرا خريطة الكارثة الوشيكة” حيث تقف اسرائيل كانها عارية امام حلقة من 250 الف صاروخ وقذيفة صاروخية وطائرات مسيرة، بالاضافة الى عشرات الاف المقاتلين المدربين ايرانيا، حول الحدود.

وصحيح ان نتنياهو اعلن تاجيل اقرار التعديلات القضائية، تحت ضغط الشارع الذي تنامت تظاهراته بشكل لم تعهده اسرائيل منذ سنوات طويلة، بل وظهرت انقسامته الحادة مؤججة لغة التخوين المتبادلة، الا ان التاجيل، لم يشكل بالنسبة لكثيرين سوى محاولة لكسب الوقت من جانب مؤيدي التعديلات، ومحاولة لواد الازمة -ان صح التعبير- التي ظهرت في العلاقات بين اسرائيل وبين ادارة الرئيس الاميركي جو بايدن.

وازاء ما وصف بانه ازمة عصية على الحل اكتفى نتنياهو بتاجيلها لبضعة اسابيع، برزت قراءات عديدة حتى من الجانب الاسرائيلي، لفهم معاني وتداعيات ما جرى، من بينها ما قدمه “معهد ابحاث الامن القومي” في جامعة تل ابيب، فيما يتعلق بـما وصفه بانه “انذار استراتيجي”، حيث تناول الشرخ الداخلي المهدد للامن القومي الاسرائيلي، والتهديدات الامنية المتمثلة بايران التي صارت دولة “العتبة النووية” وعلاقاتها المتنامية مع الصين وروسيا، والتوتر الامني المتصاعد في الضفة الغربية المحتلة، واداء “حزب الله” في لبنان. واعتبر المعهد الاسرائيلي ان الضرر الاخطر يتعلق بالجيش الإسرائيلي الذي كان دائما يعلو على اي خلافات داخلية، مضيفا ان هناك تاثيرات ايضا على الوضع الاقتصادي، وعلى العلاقات مع الولايات المتحدة. ويتناول المعهد ايضا التقويض الحاصل فيما يتعلق بالمناعة الاجتماعية الداخلية الذي يرقى الى “تفتت”.

لكن الابرز في ما وصل اليه المعهد الاسرائيلي هو الحديث عن احتمال حدوث تدهور يصل ال مرحلة العنف الشديد والواسع بين المتشددين من جانب المعسكرين، اليميني الديني المتطرف، وقوى يمين الوسط او المؤيد ل”العلمانية” والاقل تدينا.

وبحسب الباحثة الاسرائيلية تمار هيرمان، من “المعهد الاسرائيلي للديمقراطية”، فان الازمة سلطت الضوء على الفجوات بين “القبيلتين” المتناحرتين في اسرائيل، حيث تركز احدهما على الهوية الديمقراطية بينما تركز الاخرى على الهوية اليهودية. ومن شان هذا التعارض بينهما ان يقوض مكانة اسرائيل كدولة ديمقراطية ويهودية. اما بالنسبة لتركيبة وذهنية كل معسكر، فيبدو ان معارضي الاصلاحات القضائية يميلون الى ان يكونوا اكثر ثراء ويعيشون في المناطق الحضرية؛ ويعمل الكثيرون في مجال التقنيات المتطورة ولديهم اتصالات خارج اسرائيل. وخلال الازمة، اتخذوا عموما مقاربة غير عنيفة. ومع ذلك، يظهر المحتجون الموالون للحكومة ميلا اكبر لاستعمال العنف او غيره من الوسائل غير المشروعة وغير القانونية للتاثير على النقاش. وبالفعل، شجع نتنياهو ووزير الامن القومي ايتمار بن غفير الاحتجاجات المضادة وقد يستمران في القيام بذلك. وعلى الرغم من ان معظم الاسرائيليين في يسار الوسط يبدون غير مستعدين حاليا لاستخدام العنف، الا انهم قد يغيرون رايهم اذا تعرضوا لهجوم”.

وفي ندوة نظمها “معهد واشنطن” الاميركي، قال زوهار بالتي، الرئيس السابق لـ “مديرية استخبارات الموساد”، ان اسرائيل “لم تواجه ابدا مثل هذا الصراع الداخلي العميق. فهذه هي الازمة السياسية الاولى التي تغلغلت في قوات الاحتياط، ومن بينها سلاح الجو، وجيش الدفاع الاسرائيلي الاوسع نطاقا، واجهزة المخابرات. وفي الوقت نفسه، لا تزال هناك تهديدات امنية خارجية خطيرة، مع ملاحظة حلفاء اسرائيل واعدائها على حد سواء للانقسامات داخل البلاد”. ويضيف زوهار بالتي حول اقتراح الوزير بن غفير لانشاء ميليشيات “الحرس الوطني” كشرط لبقائه في الائتلاف الحكومي، ان هذه القوة العسكرية “غير ضرورية وخطيرة.. وانشاء قوة عسكرية منفصلة (بخلاف الجيش) من شانه أن يفسد تراتب القيادة، وقد يعارض الاسرائيليون قيام اي ميليشيا ايديولوجية من هذا القبيل”.

تضيف شعبة الاستخبارات في هيئة الاركان العامة الاسرائيلية الى المحاذير حيث اعتبرت ان تقديراتها تتزايد باحتمال وقوع حرب شاملة على جبهات مختلفة، حيث يعتقد “اعداء”  اسرائيل، انها اصيبت بالضعف في اعقاب الازمة الداخلية الحادة، وهو ما يترافق مع 3 مؤشرات بحسب شعبة الاستخبارات، هي تراجع الاهتمام الاميركي بما يجري في الشرق الاوسط باتجاه الحرب الاوكرانية والخطر الصيني، وازدياد الثقة الذاتية الايرانية بتحدي اسرائيل، وزيادة الاضطرابات في الساحة الفلسطينية. وجاء ذلك في وقت نقل موقع “والاه” الاسرائيلي عن مسؤولين قولهم ان شعبة الاستخبارات حذرت المستوى السياسي من ان التوترات الامنية لن تنتهي مع نهاية شهر رمضان.

ولا تشكل الازمة التي تشهدها اسرائيل حدثا عابرا، لانها تعكس وجود شروخ عميقة في بنية هذا المجتمع وتزايد نزعة الانكار بحق للفلسطينيين والعرب عموما. فبينما يظهر استطلاع اجراه معهد “الاستطلاعات المباشرة”، ان “ثلثي السكان المتدينين في اسرائيل يريدون ان تواصل الحكومة الضغط، من اجل تمرير التعديلات القضائية المخططة وليس تجميد التشريع”، فان وزير المالية الاسرائيلي بتسلئيل سموتريتش يقول من جهته في خطاب انه لا يوجد هناك شعب فلسطيني، وهذا اختراع عمره 100 عام، واشار إلى خريطة تضم فلسطين والاردن على انها “خريطة اسرائيل”، وهو تصريح اثار احتجاجا من الحكومة الاردنية، ودعوات في مجلس النواب الاردني من اجل طرد السفير الاسرائيلي من عمان.

وتختصر صحيفة “نيويورك تايمز” ما يجري في اسرائيل بالقول ان المعركة حول القضاء في اسرائيل هي معركة ايديولوجية وثقافية عميقة، بين الذين يريدون دولة اكثر علمانية وتعددية، وبين الذين لديهم رؤية اكثر دينية وقومية. وتشير الى ان معارضي التعديلات القضائية ينظرون إلى المحكمة العليا على انها اخر معقل للنخبة العلمانية الوسطية، المنحدرة من اليهود الاوروبيين الذين سيطروا على الدولة خلال العقود الاولى من عمرها، بينما ينظر اليهود المتدينون، وخاصة المتشددون، الى المحكمة العليا على انها عقبة أمام أسلوب حياتهم شديد المحافظة. وفي هذا السياق، فان الاسرائيليين اليمينيين الذين يريدون ترسيخ الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية المحتلة، يعتبرون ان المحكمة هي بمثابة خصم لهم، ولهذا يجب اخضاعها تحت سطوة التعديلات القضائية.

ولكن من اجل الدقة اكثر، فان المحكمة العليا كما تشير الصحيفة الاميركية لم تعرقل معظم عمليات الاستيطان، الا انها منعت بعض الاهداف الاكثر طموحا لحركة المستوطنين، بما في ذلك بناء المدن الاسرائيلية على الاراضي الفلسطينية المملوكة للقطاع الخاص، كما انها ايدت طرد جميع المستوطنين الاسرائيليين من غزة في العام 2005، وهي لحظة محورية عززت منذ ذلك الوقت رغبة قيادة المستوطنين في فتح معركة التعديل القضائي.

تتجمع كل هذه المؤشرات لتقول ان ازمة التعديلات القضائية لم توصد ابوابها بعدن وان انفجارها مجددا، ولو باشكال اخرى، مرجح. يعزز هذا الاحتمال تصريحات نتنياهو نفسه عندما كان يعلن تعليق اقرار التعديلات القضائية، حيث هاجم خصوم التعديلات بالقول هناك اقلية متطرفة مستعدة لتمزيق الدولة، وتستخدم العنف وتهدد بالحاق الاذى بالمسؤولين المنتخبين وتحرض على حرب اهلية وتدعو إلى العصيان، ونحن على مفترق خطير ومسار صدام في المجتمع الاسرائيلي ولن نقبل بحرب اهلية، قبل ان يضيف “لدينا الغالبية في الشارع وفي الكنيست ولن نسمح بسرقة نتائج الانتخابات”.

“اللبننة”

قارنت صحيفة “اسرائيل اليوم” بين لبنان المزدهر قبل الحرب الاهلية ولبنان المتصدّع المنهك بعدها، وتقول انه يجدر من خلال السياقات التي تمر اليوم على المجتمع الاسرائيلي، مجتمع قبائل وطوائف، ان تقلق كل واحد منا، وبخاصة من يعرف عن كثب تاريخ لبنان المجاور. وتضيف انه في مؤشرات اللبننة التي طلت لدينا ويجب ان نقاتل بكل قوة خشية أن نصبح لبنان رغم كل شيء.

“حل الدولتين”

ذكرت صحيفة “هارتس” ان الهدف الحقيقي للاصلاحات القضائية هو القضاء على خيار “حل الدولتين”. واوضحت ان “حقيقة الاصلاح القضائي لحكومة اليمين هو احداث انقلاب في الافق السياسي، بحيث لا وجود لحل الدولتين بعد اليوم، ولا وجود لتسوية اقليمية، والافق السياسي الجديد هو دولة واحدة مع الفلسطينيين كرعايا، وليس كمواطنين. دولة واحدة ونظامان قانونيان. ابرتهايد وتفوق يهودي”.

ازمة مع واشنطن

تقول صحيفة “هآرتس” ان عدم دعوة نتنياهو الى البيت الابيض خير دليل على تازم العلاقات مع الولايات المتحدة. وتضيف انه من غير الواضح ما اذا كانت اسرائيل ستنجح الان في تجنيد الولايات المتحدة لتهديد عسكري كبير ضد ايران لكبح مشروعها النووي.

وتناولت وسائل اعلام اسرائيلية الاتصال الهاتفي بين وزير الخارجية الاميركي انتوني بلينكين ونظيره الاسرائيلي ايلي كوهين في محاولة لتهدئة التوترات بعد تصريح الرئيس الاميركي جو بايدن المنتقد للتعديلات القضائية، وتأكيده أن لا نية لديه لدعوة نتنياهو لزيارة البيت الابيض خلال الفترة القريبة.

وكانت وزارة الخارجية الاميركية استدعت السفير الاسرائيلي في واشنطن مايك هيرتسوغ، من اجل الاحتجاج على قانون اسرائيلي تم تمريره، يقضي بـ”الغاء قانون فك الارتباط في الضفة الغربية، وهو القانون الذي يجيز العودة الى المستوطنات وشرعنة البؤر الاستيطانية”.

وفي سياق تدهور العلاقات بين الطرفين، ذكر موقع “تايمز اوف اسرائيل” ان مصدراً مقربا من نتنياهو اتهم واشنطن بتمويل جزئي للتظاهرات ضد التعديلات القضائية.

حرس الحدود

انتقد نائب رئيس الاركان الاسرائيلي السابق ماتان فيلنائي منح وزير الامن القومي ايتمار بن غفير الحرس الوطني، موضحا ان الخطوة تشبه “اعطاء المافية الايطالية جيشا خاصا”.

chrome-extension://efaidnbmnnnibpcajpcglclefindmkaj/https://www.general-security.gov.lb/uploads/articles/14116.pdf

عن خليل حرب

خليل حرب، صحافي لبناني، مدير تحرير في جريدة "السفير" سابقا. يشغل اليوم منصب رئيس تحرير موقع "جورنال".