الرئيسية » العالم والخليج » اللعنة الكورية “خط العرض 38”

اللعنة الكورية “خط العرض 38”

 

اظهر الرئيس الاميركي دونالد ترامب خلال جولته الاسيوية على الصين، اليابان، كوريا الجنوبية، فييتنام والفيلبين، في النصف الاول من تشرين الثاني الماضي، ان اولويته هي التجارة، على الرغم من التصريحات النارية السابقة التي اوحت ان عنوانها الاخطر هو “كوريا الشمالية”. تاريخ طويل حافل بالمخاوف والدم، لكن فتح الأسواق، ظل دائما الهدف الاكبر.

“اذا حاولت افضل الادمغة في العالم ان تجد لنا اسوا مكان في العالم لخوض هذه الحرب الملعونة، لكانوا اجمعوا على كوريا.” هذا التصريح هو لوزير الخارجية الاميركية الاسبق دين اتشيسون حول الحرب الكورية خلال الخمسينات من القرن الماضي، لكنه ما زال صالحا حتى يومنا هذا.

ومن غير الواضح ما اذا كان ترامب حمل معه هذه الموعظة القاسية التي كلفت العالم ارواح خمسة ملايين انسان وقتها، خلال جولته الاسيوية الاخيرة.

لكن اللافت ان ترامب الذي استبق جولته الاسيوية، بحملة متبادلة من القصف “النووي” لفظيا مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون، انتهى به المطاف بعدها بايام، وهو يتحدث عن امكانية ان يصبح يوما هو والزعيم الكوري الشمالي “صديقين”!

ليس غريبا لا على ترامب ولا على كيم جونغ اون هذه الانفعالات المثيرة لجنون العالم. والمساواة هنا بين سلوك الرجلين ليس استنسابيا. قبل ايام، تحاور اعضاء في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الاميركي، في جلسة هي الاولى من نوعها منذ العام 1976، بشان حدود سلطة ترامب في حال قرر المبادرة الى شن هجوم نووي في اطار التوتر القائم مع بيونغ يانغ. حتى ان عضو الديموقراطي كريس مورفي قال خلال النقاش “نخشى ان يكون رئيس الولايات المتحدة غير مستقر ومتقلب الى حد يجعله يعطي امرا باستخدام سلاح نووي في تعارض تام مع مصالح الامن القومي الاميركي”.

“خط العرض 38” هو ذاته اللعنة التي تلاحق الكوريين، والعالم، منذ نحو 70 سنة. وتشير وقائع التاريخ الى ان الكوريين لم يرتبكوا خطيئة  “خط العرض 38”. والمفارقة ان اليابانيين والاميركيين، اكثر من غيرهم، يتحملون الماسي التي نتجت عن هذا التقسيم الذي يهدد البشرية بحرب نووية بين اسبوع واخر.

كانت الامبراطورية اليابانية تحتل شبه الجزيرة الكورية منذ بدايات القرن العشرين حتى الحرب العالمية الثانية، عندما بدات القوات اليابانية الغازية بالتقهقر امام الجيش السوفياتي الذي تقدم لتحرير الارض في الشمال الكوري وصولا حتى خط العرض 38. وفي اب من العام 1945، قام موظفان في وزارة الخارجية الاميركية بتقسيم شبه الجزيرة الكورية متخذين من خط العرض الـ 38 اساسا لذلك، فسيطر السوفيات على الشمال، وسيطر الاميركيون على الجنوب، الى ان اندلعت الحرب الكورية في الـ 25 من حزيران العام 1950، عندما عبر الاف الجنود من جيش الشعب الكوري الشمالي الحدود مع كوريا الجنوبية. ثم انحازت الاطراف والقوى الاقليمية والدولية، بما في ذلك الصين، كل الى طرف في الحرب بحسب شعاراته ومصالحه، الى ان تم الاتفاق على هدنة في 27 تموز من العام 1953.

ولا شك ان دونالد ترامب ومساعديه، يدركون بعض هذه الحقائق، والتي من بينها ان الحرب الكورية تسببت بخلاف علني وحاد بين الرئيس الاميركي الاسبق هاري ترومان وقائد القوات الاميركية الاشهر في المنطقة الجنرال دوغلاس ماك ارثر والذي انتهى باقالته لاصطدامه مع الرئيس الاميركي، بالاضافة الى حقيقة ان الحرب اودت ايضا بارواح اربعين الف جندي اميركي وتسببت بجرح نحو مئة الف اخرين.

لا يحتاج ترامب الى فتيل مشتعل اخر يؤرق ولايته الغارقة بالتشكيك والاتهامات والتحقيقات. فعلى الرغم من التصريحات النارية لترامب تجاه بيونغ يانغ، قبل بدء جولته التي شملت كوريا الجنوبية والصين واليابان وفييتنام والفيليبين، الا ان حدته خفت بينما كان يقوم بجولته الخارجية الاطول، ويقطف تباعا ثمرات اقتصادية من الدول التي زارها، تحت عنوان تصحيح العلاقات التجارية التي تسيء للاقتصاد الاميركي بسبب سياسات الادارات الاميركية المتعاقبة، مثلما اعلن مرارا منذ ما قبل انتخابه رئيسا.

وقد كانت تهديدات ترامب “النووية” من الحدة التي دفعت العواصم العالمية والاقليمية ومحللين من مختلف انحاء العالم، الى محاولة التكهن بموعد وخيارات الهجوم الاميركي المحتمل على كوريا الشمالية. ومما قاله ترامب ان “الحلول العسكرية اصبحت الان جاهزة للتطبيق بشكل كامل، وفي وضع التاهب والجاهزية اذا تصرفت كوريا الشمالية بشكل غير حكيم “.

وقال الرئيس الاميركي ايضا “امل ان يفهموا (الكوريون الشماليون) تماما خطورة ما قلته، وانا اعني ما قلته … تلك الكلمات سهلة الفهم جدا جدا… اذا تلفظ (كيم جونغ اون) بتهديد واحد في شكل تهديد علني وهو بالمناسبة ما اعتاد على قوله لسنوات، كما اعتادت عائلته على قوله لسنوات ايضا- او فعلا أي شيء بشان (جزيرة) غواما واي مكان اخر، سواء كانت أراض أميركية او تخص حليفا لاميركا، فسيندم على ذلك حقا وسيندم سريعا”.

وهدد ترامب كوريا الشمالية بـ “الغضب والنار”. ثم اعقب ذلك بالقول ان هذا التهديد “لم يكن شديدا بما فيه الكفاية”، وحذر النظام في بيونغ يانغ بان عليه “ان يقلق جدا جدا” مما سيلحق به اذا فعل شيئا ضد الولايات المتحدة.

وفي المقابل، كانت تصريحات ترامب، خصوصا تغريداته عبر “تويتر”، تستفز الكوريين الشماليين الذين قاموا باطلاق صواريخ بعيدة المدى وتجارب نووية اخرها في ايلول الماضي. وزير خارجية كوريا الشمالية ري يونغ-هو، قال “سيدفع ترامب ثمن اشعاله تلك الحرب على بيونغ يانغ عبر تويتر، بوابل من النار ليس له مثيل من قبل”.

تهديدات علانية كانت تبدو مخالفة لما يدور في الكواليس. اذ تشير تقارير انه بينما كانت اللغة النارية سائدة ما بين واشنطن وبيونغ يانغ، كانت اتصالات بعيدة عن الاعلام، تجري بين الطرفين من خلال المبعوث الأميركي الخاص الى كوريا الشمالية جوزيف يان، والديبلوماسي الكوري الشمالي في الامم المتحدة باك سونغ ايل.

ولم تكن هذه المفاوضات المفارقة الوحيدة في المشهد. فخلال زيارته الى فييتنام، قال ترامب انه لا يستبعد ان يصبح صديقا لكيم جونغ اون “في وقت ما”، موضحا “ان الأمور الغريبة قد تحدث، وان حدثت فهي لصالح كوريا الشمالية ولاماكن أخرى في العالم”.

لا بل ان ترامب حاول ممازحة خصمه الكوري الشمالي. ففي تغريدة على “تويتر”، تساءل الرئيس الاميركي لماذا ينعته زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ اون بالعجوز بينما هو لن ينعته ابدا بالقصير والسمين، مضيفا “أحاول جاهدا ان أكون صديقا له وربما يتحقق الامر يوما ما”.

ولم يدر كثيرون اين ذهبت تهويلات ترامب بالحاق “الدمار الكامل” بكوريا الشمالية. وكان من الواضح ان الرئيس الاميركي كان يعول على الدور الصيني في ضبط الملف الكوري الشمالي. بكين، كما هو معروف الحليف الابرز لبيونغ يانغ. بكين ايضا لا مصلحة لها في اشعال حرب كورية، ولا في نزاع نووي على حدودها، ولا بكارثة انسانية ستقع امام ناظريها. وربما لهذا، اعلنت الصين عن ارسال مسؤول مكتب الارتباط الدولي في الحزب الشيوعي الحاكم سونغ تاو، الى بيونغ يانغ، بعد ايام على زيارة ترامب الذي كان حثها لزيادة الضغوط المصرفية والتجارية على كيم جونغ اون. الرئيس الاميركي قال حرفيا ان بامكان بكين “حل هذه المشكلة بسرعة وبسهولة وامل ان تتحرك بصورة اسرع واكثر فاعلية من أي طرف اخر حيال هذه المشكلة”.

الجريدة الالكترونية الروسية “نيزافيسيمايا غازيتا” نشرت مقالا للباحث البروفسور غيورغي تولورايا، رئيس المركز الاستراتيجي الروسي للشؤون الاسيوية التابع لاكاديمية العلوم الروسية، تحت عنوان “شبه الجزيرة الكورية: الدبلوماسية ام الحرب؟”، اختصرت فيه الكثير من معالم المشهد المعقد. كتب تولورايا قائلا “بتهديده اميركا، اجتاز زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ اون الخط الاحمر. بالرغم من العقود التي انقضت منذ وقف الاعمال الحربية في كوريا في تموز 1953 –سواء الحرب الاهلية او الاشتباك بين النظامين داخل العالم الثنائي القطبية الذي كان يضم الصين (واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية وراءها) وبين الولايات المتحدة الاميركية، لم يتغير الى الان جوهر ما يحدث في شبه الجزيرة الكورية. وخلال احداث 60 عاما مضت لم يحقق أي من الطرفين ما يرغب فيه، ويامل كل طرف ان العدالة التاريخية في رايه التي تقع الى جانبه ستنتصر عاجلا او اجلا”.

ومن الواضح ان مراقبة الكوريين الشماليين لما يجري في العالم منذ ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وامثلة التدخل الخارجي التي فتت ودمرت دولا مثل ليبيا ويوغوسلافيا والعراق وسوريا وغيرها، تجعلهم اكثر ريبة من دور الولايات المتحدة، والتمركز العسكري الاميركي في الجوار الكوري الجنوبي الى جانب المناورات العسكرية الاميركية التي تكاد لا تتوقف عند حدودهم الجنوبية وفي البحار المجاورة.

ان هذا التوجس هو جوهر الكثير مما يتبدى في السلوك الكوري الشمالي. لم يوفر لا الصينيون ولا الروس ولا الاميركيون طبعا، الطمانينة التي ربما تبحث عنها بيونغ يانغ. ويبلغ القلق الكوري الشمالي ذروته في التجارب الصاروخية والتفجيرية التي يقومون بها على امل الايحاء بالردع.

القنبلة النووية الحرارية التي يعتقد انها جرت في 3 أيلول الماضي، كانت بقوة 250 كيلوطن، علما بان قوة انفجار قنبلة هيروشيما كانت 20 كيلوطن.

وبرغم هذا الاحتقان، فان ملف التجارة مع الاسيويين، او تحديدا فتح الاسواق الاسيوية بشكل اكبر امام الشركات الاميركية كان الطموح الاكبر لترامب. ففي كل محطات جولته الاسيوية، وقع عشرات الاتفاقات ومذكرات التفاهم التجارية. في بكين نفسها، وقع اتفاقيات ومذكرات تفاهم مع نظيره الصيني شي جين بينغ، تبلغ قيمتها ربع تريليون دولار (250 مليار دولار)، تشمل قطاعات عدة، في الطاقة والطيران والسيارات والغذاء والالكترونيات. شركة “بوينغ” وحدها نالت عقودا ضخمة بقيمة 37 مليار دولار.

وهكذا، تستمر لعنة “خط العرض 38” وانما من دون ان تتعطل المصالح الاقتصاد والتجارة.

 

 

كوريا الشمالية: معلومات وارقام

يبلغ عدد سكان كوريا الشمالية حوالي 24 مليون نسمة، وهي واحدة من اكثر دول العالم تجانسا لغويا وعرقيا. وينتشر التراث البوذي والكونفوشيوسية، مع وجود مسيحي محدود. لكن الدستورلا يسمح بالحرية الدينية. ووفقا للمعايير الغربية للدين، يمكن وصف غالبية السكان في كوريا الشمالية بانهم ملحدون.

والتعليم اجباري حتى المرحلة الثانوية لكنه مجاني.

وبحسب الأمم المتحدة ومؤشر التنمية البشرية فان كوريا الشمالية تحتل المرتبة 75، والناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد 4058 $. وكان متوسط الراتب حوالي 47 دولارا شهريا في العام 2004.

القطاع المهيمن في الاقتصاد هو الصناعة (43.1٪)، تلاه قطاع الخدمات (33.6٪) والزراعة (23.3٪)

 

القدرات العسكرية

 

تخصص كوريا الشمالية ما بين 16.9 بالمئة و 23.2 بالمئة من ميزانيتها البالغة 34 مليار دولار للدفاع. وهناك من يقدر ان الرقم لا يتعدى نحو اربعة مليارات دولار فقط.

ويقدر عديد الجيش الكوري الشمالي بـ 9 مليون و279 الف جندي بين احتياطي واساسي وقوات خاصة، وهو يحتل المرتبة الرابعة عالميا بعديده. وتمتلك 1600 مروحية حربية و500 قطعة بحرية عسكرية مختلفة غالبيتها فرقاطات، وبينها نحو 100 غواصة، لكنها لا تمتلك اي حاملة طائرات. ويحظى الجيش ايضا باكثر من 5 الاف دبابة.

ويعتقد ان بيونغ يانغ تمتلك ما بين 10 و16 راسا نوويا، واكثر من الف صاروخ باليستي مختلفة المدى. الى ذلك، تمتلك 1500 طائرة مقاتلة يعود معظمها الى سبعينيات القرن الماضي، وهي صينية وروسية الصنع، وابرزها “سوخوي سو-25″، “ميل مي-26″ و”ميغ 29”.

وتضم ترسانتها ايضا نحو 350 مدفعا من مدافع “كوكسان” عيار 170 ملم، بالاضافة الى مئتي قاذفة للصواريخ المتعددة عيار 240 ملم، كما تضم 95 مدفعا ضخما.

وتتمتع كوريا الشمالية بامتلاكها “الجيش الالكتروني” الذي يعتبر احد اقوى الجيوش الالكترونية في العالم.

ولدى كوريا الشمالية مخزون هائل من الاسلحة الكيميائية، الثالث عالميا. وقد سبق لها ان اعلنت عن نجاحها في اجراء تجربة لقنبلة هيدروجينية. وطورت بيونغ يانغ صواريخ “سكود” وصنعت صواريخ “نودونغ” و”تايبو دونغ 1″ و”تايبو دونغ 2″ وصاروخ “موسودان”، وبعض هذه الصواريخ لم تجرب عمليا، في حين البعض الاخر خضع لاختبارات فاشلة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عن خليل حرب

خليل حرب، صحافي لبناني، مدير تحرير في جريدة "السفير" سابقا. يشغل اليوم منصب رئيس تحرير موقع "جورنال".