عمان – رانية الجعبري
في المنطقة الحرة على الحدود الأردنية السورية، التي أصبحت نقطة مغلقة، والتي لا تُفتح أمام الصحافيين والمنظمات إلا بعد ترتيبات أمنية، يُمكنُ للمأساة السورية أن تكتمل مشاهدها.
عند إحدى نقاط تجمع النازحين السوريين على الشريط الحدودي بين الأردن وسوريا، يتجمع 200 إلى 250 نازح سوري، حمل مجملهم السلاح، ورفضوا المصالحة في الوقت بدل الضائع، لسبب بسيط وهو أنهم لم يدركوا حتى الان تقلبات السياسة. تحت قيظ تموز يقفون ينتظرون معجزة تفتح الحدود ليدخلوا إلى أي مكان في الأردن، بعيداً عن جيش بلادهم الذي حملوا السلاح ضده.
يمكنك إدراك قسوة الحياة التي يواجهونها هنا، عند متابعة حديث مساعد مدير المستشفى الميداني للخدمات الطبية الملكية – التابعة للقوات المسلحة الأردنية، عن الإصابات بين النازحين. “في البداية كانت تأتينا إصابات جراء المعارك، لكن فيما بعد صارت الحالات تتراوح بين ضربة شمس ولدغة عقرب أو أفعى أو التهابات معوية”. يتحدث بحرفية طبية ويتركك قليلا، لتعاود النظر إلى الرؤوس التي تنظر بلا ملل أو كلل نحو الحدود الأردنية متمنية عبورها. مَنْ الذي خدعها وقال لها أن النجاة، من كل ما جرى، ممكنة!
ورغم أنه ما كان يسمح للصحافيين الاقتراب من نقطة التماس التي يقف خلفها مباشرة النازحون، لكن المستشفى الميداني الذي اقامته الخدمات الطبية الملكية – القوات المسلحة الأردنية، كان يتيح للصحافيين لقاء المرضى من النازحين الذي يعبرون تلك النقطة للعلاج فقط، وإن سمحت ظروفهم الصحية، فإنهم يعودون إلى تلك النقطة الحدودية من جديد، لممارسة أمل العبور نحو الجانب الآخر من الحدود، ولعل بعضهم يتمنى مرضاً عضالا يتيح له الاقامة الأطول في أحد المستشفيات الأردنية بعيداً عن القيظ والخطر.
عندما أتيحت الفرصة للقاء شاب يحمل ابنته التي رأت النور في سنوات الأزمة السورية ورجل كهل، قد تشعر بخديعتهم المريرة. وتتساءل “هل تمكنوا من إدراك الخديعة التي لحقت بهم وبكثيرين غيرهم؟
كان الكهل يتحدث ببراءة وتعاون مع الإعلام، لم تسمح له الأردن منذ 4 سنوات بالدخول لرؤية عائلته، التي تستقر داخل الحدود الأردنية، وعندما تسأله عن وظيفته يخبرك بأنه “خطيب مسجد”، الوظيفة كافية لتشرح لك ما الذي جرى، ومهمته في تجييش المشاعر للقتال، وربما حمل السلاح فعلاً.
أما الشاب الذي تشي يديه بأنه حمل السلاح وقاتل فعلاً، يكتفي بالنظر بمرارة وكبرياء، ويلتزم الصمت لكن رغبة انتقام ترتكز في زاوية عينه.
من غير الممكن أن تنظر لهؤلاء الذين يحسنون حمل السلاح، لكنهم لا يفهمون السياسة، إلا بحسرة بالغة. نتمنى لهم النجاة، لكن سنخاف كثيراً على الأردن إن سمح بدخولهم، وسنخاف أكثر على سوريا، إن لم تحسن وبذكاء كيف تغفر لهم. في حين أن محركيهم، ومن أوهموهم بعدم المصالحة لأن “الدعم” قادم، يتنعمون في البلدان التي خططت لتدمير سوريا .. وخراب بيوتهم.
أيُّ مأساة ارتسمت في سوريا منذ اللحظة الأولى لنطق كلمة “الحرية” التائهة في مصالح الدول المُنقضّة على سوريا والساعية لتمزيقها، مروراً بسنوات القتال وصمود الدولة، وانتهاءً بلحظات النصر الأخيرة للدولة!
قبل بدء حرب الجنوب اتصلت بأحد المنسقين العسكريين في الجنوب السوري، فحدثني أنه ليس في الأردن، التي يقيم فيها منذ بدء الأزمة، بل في دول خليجية يتلقى العلاج. صمتُّ قليلا لأبتلع الكذبة، إذ لطالما كان بلدي الأردن محجاً للعرب الراغبين في العلاج وتحديداً دول الخليج.
سايرته وعلمت أن رحيله المفاجئ ومكوثه هنالك مرتبط بحرب الجنوب السوري وليس في صحته، وبدأت أتحدث إليه للحصول على معلومات لمادتي. كان يردّ وكأن الأمور منتهية في الجنوب السوري لصالح المعارضة المسلحة، وينكر أن إغلاق “غرفة الموك” منذ عام، يعني تخلي الحلفاء عنهم، ويؤكد أن سياسة الولايات المتحدة حاسمة لصالحهم، وينفي أن الجيش الأردني لن يتعامل إلا مع الجيش العربي السوري، رغم أن رئيس هيئة الأركان الأردني حسمها منذ مطلع العام 2016. https://journal-lb.com/article/2537 ، بل إن الأمر تعدى ذلك إلى لهفة من قبل المواطنين الأردنيين والسياسيين لعودة فتح الحدود، وعودة الجيش العربي السوري.
- ما اسمك يا حبيبة؟
لا تقوى على الردّ من الحرّ، بل إنها “حردانة” من الله ومن الدنيا ومني ومن الناس، تفرك رأسها المنهك في حضن والدها قوي البنية، بينما يجيب بعد دقائق على سؤالي بجفاء المقهور:
- حنين
أنظر لعينيه، وأود أن أخبره بكذب من زينوا لهم الواقع، وحرموهم فرصة المصالحة مع الدولة السورية، وددت أن أخبره بفداحة حمل السلاح في الوطن، وأنهم ضحايا كذب الكبار.
ما حجم الضريبة التي تدفعها الأوطان من أمنها عندما يغيب الوعي السياسي؟. هؤلاء المساكين، الذي أخاف على سوريا والأردن منهم، هم ربما ضحايا قلة الوعي السياسي.
هل تدرك سوريا الحبيبة بعد سبعة أعوام عجاف أن عليها أن تبني أسوار أمنها وأمانها بالوعي السياسي لمواطنيها، وهل يدرك الأردن الحامد لربه على نعمة أمنه، رغم الخلايا النائمة وبعض البيئات المحافظة الحاضنة للفكر المتطرف، أن استمرار هذه النعمة لا يتم فقط بالقبضة والحِرَفيّة الأمنية فقط بل، بالوعي السياسي؟
منذ العام 2011 بدأت المنطقة تتلقى درساً قاسياً في بناء أمن الأوطان، وربما على الأنظمة أن تتعلم هذا الدرس قبل المواطن.
رانية الجعبري