بين ليلة وضحاها، صار لفنزويلا رئيسان: نيكولاس مادورو، الرئيس الشرعي المنتخب المتسلح بالقاعدة الشعبية للإرث التشافيزي، والولاء الصارم للجيش، ودعم خارجي ركيزتاه روسيا والصين؛ وخوان غوايدو، نجم المعارضة اليمينية، الذي سطع فقط منذ مطلع العام الحالي، مقتنصاً شعبيته من التململ الشعبي من الأوضاع الاقتصادية المتردّية، ومتسلحاً بدعم غير محدود من قبل الولايات المتحدة الساعية إلى ضرب العمود الفقري للبديل البوليفاري الذي أذّن قبل عقدين لصحوة اليسار اللاتيني.
وسام متى
فنزويلا أمام مفترق خطير. الحرب بالوكالة التي تخوضها الولايات المتحدة، عبر حلفائها الداخليين، ضد الدولة اللاتينية اليسارية، منذ اليوم الأول لوصول الرئيس-الرمز هوغو تشافيز إلى الحكم في اواخر تسعينيات القرن المنصرم، انتقلت إلى مواجهة مباشرة من شأنها أن تدفع بالأزمة السياسية إلى مستوى أكثر خطورة، يتجاوز الاستقطاب الداخلي الحاد بين اليمين واليسار، باتجاه التدويل، الذي لاح في الأفق الفنزويلي يوم امس، حين سارعت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وعدد من دول أميركا اللاتينية، وبعض الأوروبيين، إلى دعم المغامرة الخطيرة التي أطلقها رئيس البرلمان خوان غوايدو، بتنصيب نفسه رئيساً للبلاد، بديلاً للرئيس المنتخب نيكولاس مادورو.
هكذا، تحوّلت الأزمة في فنزويلا إلى مواجهة حتمية، يقرّ الجميع بأن أحداً لا يمتلك القدرة الفورية على حسمها، لكنها تنذر بسيناريوات سوداء، في ظل محاولات للدفع بالصراع القائم إلى حافة الحرب الأهلية من جهة، واستجرار التدخل العسكري الخارجي، سواء عبر الولايات المتحدة نفسها، أو عبر دول الجوار الفنزويلي الحليفة لها، من جهة ثانية.
ويبدو واضحاً أن الولايات المتحدة حسمت خيارها بخوض المعركة الكبرى ضد اليسار اللاتيني، من البوابة الفنزويلية، في ظل توجهات أكثر عدائية تنتهجها إدارة دونالد ترامب، لاحت بوادرها سريعاً، منذ دخول الرئيس “الجمهوري” إلى البيت الأبيض، حين قرر الانقلاب على الخطوة التاريخية التي اتخذها سلفه “الديموقراطي” باراك اوباما، بإنهاء القطيعة التاريخية مع كوبا.
وإذا كان الانقلاب على سياسة الانفتاح على كوبا، قد شكل الخطوة الرمزية بشأن النيات الترامبية الأوسع نطاقاً، فإنّ الأمر يبدو أكثر خطورة في التصعيد ضد فنزويلا، فالأخيرة شكلت، منذ نهاية التسعينيات، القاطرة السياسية والاقتصادية لليسار الأميركي اللاتيني، في كل الانتصارات التي حققها خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، ابتداءً من البرازيل وبوليفيا، وصولاً إلى الأرجنتين وتشيلي، وغيرها من الدول التي نجح اليساريون في انتزاع حكمها من اليمينيين، على اختلاف توجهاتهم.
على هذا الأساس، فإنّ الولايات المتحدة تجعل من استهداف فنزويلا، اليوم، البند الأهم في خطة الانقضاض على المد اليساري في أميركا اللاتينية، وبالتالي سدّ نوافذ الأمل أمام التقدميين، باستخدام كافة الأسلحة، التي تراوحت، حتى الأمس القريب، بين قطع الطريق على الرئيس البرازيلي الأسبق لويس إيناسيو لولا دا سيلفا للعودة إلى الحكم، عبر فبركة ملفات قضائية ثبت زيفها (بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة)، وبين شراء الولاءات، حتى في صفوف القادة اليساريين، وهو ما يفسر الموقف المريب الذي يتخذه الرئيس الإكوادوري لينين مورينو تجاه الأزمة الفنزويلية.
استهداف فنزويلا، اليوم، البند الأهم في خطة الانقضاض على المد اليساري في أميركا اللاتينية
لا يكفي الولايات المتحدة سحب هذه الدولة اللاتينية أو تلك إلى فلكها، فصناع السياسات الأميركيون يدركون جيداً حقيقة عبّر عنها الزعيم الكوبي الراحل فيدل كاسترو، حين قال إن فنزويلا هي “موطن المحرر سيمون بوليفار، وفيها تم وضع تصوّر لفكرة اتحاد شعوب أميركا اللاتينية، وينبغي، بالتالي، أن تتزعم بلدان اتحاد شعوب أميركا اللاتينية”، ما يعني أن توجيه الضربة القاضية لذلك البديل التحرري، الذي قاده ووضع هوغو تشافيز الحجر الأساس له، لا بد أن يمر بتدمير هذا البلد، بما يحقق هدفين أساسيين، أحدهما ذو طابع آني، مع بدء العد العكسي لانتخابات الرئاسة الأميركية، والثاني ذو طابع استراتيجي، ويتمثل في إعادة اميركا اللاتينية عشرات السنين إلى الوراء، وجعلها مجدداً “تفاحة سقطت من شجرة الاستعمار الاسباني ووقعت في بستان العم سام”.
سيناريو متوقع
بالنسبة إلى كثيرين، فإنّ ما يجري في فنزويلا ليس مفاجئاً على الإطلاق، فالسيناريو المعتمد حالياً، يكاد يكون السلاح الأخير في ترسانة التحالف اليميني، وداعميه في الولايات المتحدة، ولكنه السلاح الأكثر خطورة على الإطلاق، بالنظر إلى تداعياته الكارثية المحتملة، في ظل الاستقطاب الحاد السائد حالياً في فنزويلا، والذي من شأنه أن يزيد احتمالات الحرب الأهلية.
وإذا كان من غير الواضح بعد ما إذا كان القرار بإشعال الحرب الأهلية في فنزويلا قد اتخذ بالفعل في واشنطن، خصوصاً في ظل التحذيرات الداخلية من المخاطر المتصلة بالأمن القومي الأميركي، إلا أن هذا السيناريو ليس مستبعداً تماماً، خصوصاً بعدما استنفدت الولايات المتحدة كل وسائل الضغط التقليدية، بدءاً برعاية الانقلابات (كما حدث في العام 2002)، وعمليات التمرّد (أحدثها تحرّك مجموعة عسكرية صغيرة قبل أيام للاستيلاء على قصر ميرافلوريس الرئاسي)، ومخططات الاغتيالات (آخرها حادثة الطائرة من دون طيار التي هاجمت المنصة الرئاسية في آب الماضي)، وصولاً إلى ممارسة الضغوط الاقتصادية، سواء من خلال تذكية الأزمة المعيشية من خلال مافيات التجارة المرتبطة بالمعارضة اليمينية، أو اللجوء إلى فرض العقوبات الاقتصادية والمالية، التي باتت السلاح المفضل عند دونالد ترامب.
انطلاقاً مما سبق، فإنّ الخيار الأخير، الذي بقي متاحاً أمام الأميركيين، هو “الانقلاب السياسي”، كبديل عن “الانقلاب العسكري”، الذي أكدت تجارب السنوات العشرين الماضية استحالته، بالنظر إلى عوامل عدّة، أهمها إرث هوغو تشافيز، الذي قدم من المؤسسة العسكرية إلى السلطة السياسية منتخباً، وتمكن خلال سنوات حكمه من تحييد مخاطر النزعات الطموحة للجنرالات وكبار الضباط، حين تمكن من تطهير الجيش الفنزويلي من بعض هؤلاء، وذلك بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، التي دعمتها الولايات المتحدة في عام 2002، ونجح في إدماج البعض الآخر داخل مؤسسات الحكم، سواء في الحكومة الاشتراكية أو في مؤسساتها، بما في ذلك الشركة الوطنية للنفط (“بي دي في أس آيه”).
بذلك، يعتقد صناع القرار في الولايات المتحدة أن نموذج “الميدان” على الطريقة الأوكرانية، ربما يكون هذه المرة أكثر نجاعة من نموذج “الانقلاب العسكري”، الذي كان حتى الأمس القريب العنوان العريض لـ”كتيب معايير” اسقاط الأنظمة التقدمية في أميركا اللاتينية منذ عقود.
ما جرى بالأمس، شكل الانطلاقة الفعلية لتطبيق مقاربة جديدة تمزج بين نموذجي “الميدان” و”الانقلاب”
ما جرى بالأمس، شكل الانطلاقة الفعلية لتطبيق مقاربة جديدة تمزج بين نموذجي “الميدان” و”الانقلاب”، وربما التدخل العسكري المباشر، وقد بدأ الإعداد لها بالفعل منذ فترة طويلة، عبر إنفاق مبالغ ضخمة على التحريض في الإعلام، والتخريب في الشارع، وشراء الولاءات في الداخل، بغرض نزع الشرعية عن مادورو، وتجنيد دول الجوار، ولا سيما البرازيل والاكوادور، وبطبيعة الحال كولومبيا، استعداداً للساعة الصفر، التي اختير لها تاريخ بالغ الرمزية، هو 23 كانون الثاني، الذي يصادف ذكرى سقوط نظام الدكتاتور ماركوس بيريز خيمينيز في العام 1958، والتي سبقتها استفزازات خارجية، اتخذت هذه المرة شكل إثارة “الكزينوفوبيا” ضد الفنزويليين في دول الجوار، على نحو غير مسبوق، بلغ ذروته خلال الأيام القليلة الماضية، من خلال عمليات ترحيل جماعية.
ماذا بعد؟
مما لا شك فيه أن ما بعد 23 كانون الثاني لن يكون كما قبله، فالمواجهة المباشرة انطلقت بالفعل، واعتراف الولايات المتحدة وبعض حلفائها بخوان غوايدو رئيساً لفنزويلا، يجعل الأبواب مشرّعة أمام احتمالات خطيرة لمستقبل الأزمة الفنزويلية، في حين أن الدعم الصريح من قبل روسيا والصين للرئيس نيكولاس مادورو، يجعل الأزمة عنواناً لصراع دولي، ربما ترتسم ملامحه في الجلسة الخاصة التي من المقرر أن يعقدها مجلس الأمن الدولي لمناقشة الوضع في فنزويلا.
وفي العموم، فإنّ خطوة خوان غوايدو تأخذ فنزويلا إلى منطقة مجهولة، إذ من شأنها أن تكرّس واقع ازدواجية السلطة في البلاد، خصوصاً إذا ما مضت المعارضة اليمينية قدماً في تشكيل حكومة موازية معترف بها في الخارج، ولكن من دون سيطرة على وظائف الدولة، في مقابل حكومة شرعية أخرى، رئيسها منتخب، وتحظى باعتراف دولي واسع أيضاً، ما يثير اشكاليات عدّة، تطال منظومة العلاقات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية المربكة أصلاً.
وليس من قبيل المصادفة أن تكون أول وثيقة يوقعها غوايدو، بصفة “رئيس”، عبارة عن بيان موجه إلى البعثات الدبلوماسية في فنزويلا، يطلب فيها الاستمرار في أداء عملها، وعدم الاستجابة لأية قرارات مخالفة، في إشارة واضحة إلى خطوة نيكولاس مادورو طرد الدبلوماسيين الأميركيين من فنزويلا.
برغم كل ذلك، لا يزال مادورو يمتلك الكثير من مقومات الصمود، التي تجعله قادراً على احتواء الموقف، فهو من الناحية العملية لا يزال يمارس مهماته في قصر ميرافلوريس، ولا تزال سلطته قائمة على كافة مؤسسات الدولة وأجهزتها، ولا سيما الجيش الفنزويلي (الذراع العسكري) الذي جددت قيادته الولاء للرئيس المنتخب، واصفة ما يجري بأنه “انقلاب ضد المؤسسات وضد الديمقراطية وضد دستورنا وضد الرئيس نيكولاس مادورو، رئيسنا الشرعي”، ووزارة النفط (الذراع الاقتصادي) التي أكدت أيضاً أن لا رئيس شرعياً في فنزويلا إلا نيكولاس مادورو.
يحظى مادورو بولاء كامل للذراعين العسكري والاقتصادي في الدولة الفنزويلية
علاوة على ما سبق، فإنّ مادورو ما زال يحظى بثقل خارجي كبير، يتمثل في الموقف الحازم الذي اتخذته روسيا من الأزمة الحالية، على أعلى المستويات، حيث أكد الرئيس فلاديمير بوتين دعمه للسلطات الشرعية فى فنزويلا، مشدداً على أن التدخل الخارجى غير البنّاء ينتهك القواعد الأساسية للقانون الدولي، في وقت أكدت وزارة الخارجية أن موسكو ستقف مع فنزويلا لحماية سيادتها، وحماية مبدأ عدم التدخل في شؤونها الداخلية.
كل ما سبق يجعل خوان غوايدو مجرّد “انقلابي” قد يجد نفسه في أية لحظة رهن الاعتقال والإقامة الجبرية كما حدث للعديد من قادة المعارضة اليمينية، الذين ذهبوا في السابق بعيداً في مغامراتهم السياسية. ولا يغيّر في الأمر ما ناله من اعتراف خارجي، خصوصاً أن أحداث 21 نيسان العام 2002، ما زالت حاضرة في أذهان المعارضين، يوم اعترفت الولايات المتحدة ببدرو كارمونا استانغا رئيساً لفنزويلا، في سياق المحاولة الانقلابية على هوغو تشافيز، ليجد نفسه في اليوم التالي خلف القضبان.
ومع ذلك، فإنّ ثمة الكثير من الرهانات التي تجعل المعارضة اليمينية، ومعها الولايات المتحدة، مستعدة للمضي قدماً في معركتها، فأعمال العنف والتخريب في بعض المناطق، التي تقوم بها مجموعات صغيرة مناهضة لمادورو، تتقاطع مع تنظيرات عدّة، على غرار ما قاله وزير التجارة والصناعة الفنزويلي الاسبق مويسيس نعيم في في “منتدى دافوس”، من أنّ “سلوك الرجال المسلحين بالبنادق قد يحدد الكثير مما سيحدث خلال الايام المقبلة”، في إشارة إلى “العصابات المحلية وعبر الوطنية” التي “ربما تكون أكثر فتكاً وخطورة من الجيش”، على حدّ قوله.
ولا شك أيضاً أن المعارضين، وبرغم إدراكهم لسيطرة مادورو على مؤسسات الدولة، يراهنون على ضغط خارجي يشجّع المسؤولين الأقل مرتبة في الجهاز الإداري والعسكري على الالتحاق بالانقلاب، خصوصاً ان “تكاليف دعم الحكومة باتت أعلى وأعلى كل يوم”، على حد قول غابرييل سعادة، منسق البحوث والمشاريع في مؤسسة “لا ميخور فنزويلا فورو”، وهو مؤسسة بحثية تتخذ من كاراكاس مقراً لها.
هذه الرهانات تؤكد مرة أخرى أن ما يجري ليس عفوياً، وأن ثمة سيناريو موضوعاً بدقة لنقل الأزمة الفنزويلية إلى مرحلة أكثر تقدماً، يصار فيها إلى سفك مزيد من الدماء، للضغط على مادورو للتنحي ومغادرة فنزويلا، على طريقة “الثورات الملونة”، وذلك تحت طائلة إثارة الحرب الأهلية، تمهيداً لتدخل عسكري، تحت عنوان “قوات حفظ السلام”، أو حتى العمل على استفزازات عسكرية خطيرة ضد فنزويلا من قبل كولومبيا والبرازيل، بما يؤدي إلى إشعال نزاع عابر للحدود، يستهدف إلحاق الهزيمة بالحكومة اليسارية، حتى وإن تطلب الأمر تدخلاً عسكرياً أميركياً مباشراً.
وسام متى في “بوسطجي”