غيب الموت صباح الأحد الباحث المصري المتخصص بالشأن الإيراني الدكتور مصطفى اللباد بعد رحلة علاجية استمرت عامين على الأقل، وقد اشتهر اللباد بمقالاته التحليلية واطلالاته الإعلامية التي كان يناقش فيها المستجدات الإيرانية برؤية تحليلية يقرأ عبرها الواقع ويستشرف مستقبل التطورات على الصعيد الإيراني ومنه إلى الصعيد الإقليمي.
لم تقتصر شهرة مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية على عالم الصحافة، وإنّما قدم لجمهور الباحثين في الشأن الإيراني كتاباً بعنوان “حدائق الأحزان.. إيران و ولاية الفقيه”. وفي هذا الصدد تُقدم “جاده إيران” قراءة لهذا الكتاب الصادر في العام 2007 عن دار الشروق بواقع 319 صفحة.
يتضمن الكتاب خمسة فصول، جاء الفصل الأول بعنوان “الفقهاء والدولة في إيران”، حيث استعرض اللباد في هذا الفصل مسار العلاقة بين رجال الدين والساسة في إيران منذ الدولة الأشكانية (249 ق.م- 226م)، إلى أن نجح الفقهاء بقيادة روح الله الخميني في إسقاط نظام الشاه محمد رضا بهلوي عام 1979م. بيد أن هذا الفصل يشير أيضاً إلى سر اختيار الكاتب لاسم هذا الكتاب، فيلفت بشكل عام إلى إعجاب الكاتب بحدائق إيران، لكنه في الخصوص يؤكد أنه انتقى هذا الاسم بعد زيارته لحديقة الأحزان، وهي حديقة بيت رئيس الوزراء الإيراني الأسبق محمد مصدق التي نُفي إليها بعد الانقلاب الذي أطاح به عام 1953م.
في مقدمة فصله التالي “نظرية “ولاية الفقيه” بين المبنى والمعنى”، اعتبر الكاتب أن “ولاية الفقيه”، هي أرقى أشكال الحكم التي طورها الإسلام السياسي الشيعي، مشيراً إلى صعوبة فهم إيران الحالية دون الأخذ بعين التحليل نظرية “ولاية الفقيه”. ودفعت هذه الخلاصة اللباد للدخول في تبيان معاني الولاية شرعياً واصطلاحياً، فضلاً عن تطرقه للتأصيل الشرعي الذي قامت عليه ولاية الفقيه، ثم عرج الكتاب على ولادة النظرية، فأوضح مراحل تطور المشاركة السياسية للشيعة في الدولة الإسلامية.
واستعرض الكاتب المصري الاجتهادات الفقهية التي استحدثت مسألة “نيابة الفقهاء” عبر الجهود البحثية لمحمد بن مكي الجزيني العاملي صاحب كتاب اللمعة الدمشقية، لافتاً بعد ذلك لمصطلح “ولاية الفقيه” الذي ورد في كتاب “عوائد الأيام في بيان قواعد الأحكام” لأحمد بن محمد مهدي النراقي كاشاني.
خلال هذا الجزء من الكتاب، صنف اللباد أهم الاجتهادات في موضوع “الولاية”، قديماً وحديثاً، فوصل خلال هذا التصنيف إلى اجتهاد الخميني الذي قاده لـ “ولاية الفقيه المطلقة” التي تحصر الأمر في فقيه واحد حائز على الشرائط المعلومة.
بعد أن استعرض هذا الفصل أعمال الخميني الدينية والسياسية، وكذلك التأصيل الشرعي الذي وصل به الخميني لنظرية “ولاية الفقيه المطلقة”، عدّ الباحث المصري هذه النظرية تطويعاً لمقتضيات الفكر الشيعي، بهدف الوصول إلى السلطة، وجعلها في يد الولي الفقيه تحديداً، وأضاف “لذلك يمكن الفهم أن النظرية لا يمكن تطبيقها إلا في مجتمع غالبيته شيعية”، ليخلص إلى أن الثورة لا يمكن تصديرها إلا لمجتمعات شيعية أو ذات غالبية شيعية.
وفي الفصل الثالث الذي حمل عنوان “ولاية الفقيه تحكم إيران”، تطرق اللباد إلى تفاصيل الأحداث السياسية والأمنية على المستوى الداخلي والخارجي في إيران بعد انتصار الثورة واعتلاء الإمام الخميني لمنصب “الولي الفقيه” في إيران، إلى أن وصل إلى المرحلة التي عُزل فيها حسين منتظري عن خلافة المرشد، الأمر الذي وضعه الكاتب في سياق فتح الباب بعد ذلك لإسقاط شرط المرجعية الدينية المؤدي لتقلد أعلى المناصب، مما قاد على حد اعتقاده إلى تغليب العامل السياسي على العامل الديني والمذهبي في بنية وهياكل الدولة، وبذلك خلص إلى أن السياسة انتصرت على المرجعية.
الفصل الرابع جاء بعنوان “ولاية الفقيه بعد الإمام الخميني”، استحضر فيه الكاتب تسلسل الأحداث والمناقشات التي كان محورها مجلس خبراء القيادة والتي قادت في النهاية لتنصيب علي خامنئي مرشداً للجمهورية الإسلامية الإيرانية. اللباد في هذا المحور من الكتاب أبرز الركائز التي استند عليها مجلس الخبراء في اختيار خامنئي، فأشار إلى كلٍ من الفصل بين منصب القيادة السياسية والمرجعية الدينية، والتأييد الذي ابداه الخميني لتولي خامنئي هذا المنصب، بشهادة أحمد الخميني وهاشمي رفسنجاني. كما أورد في تلك الركائز المشروعية الثورية والتاريخية النضالية لخامنئي.
احتوى هذا الفصل على تبيّان الطريق الصعب الذي خاضه المقربون من الخميني مع رجال الدين في قم من أجل حصول خامنئي على درجة الاجتهاد، حيث ورد في هذا الجانب مضمون الرسائل المتبادلة بين المراجع الدينية حول هذا الأمر. الباحث المصري علّق على هذا الخلاف، فلم يرى أنه صراع بين تيارات الإسلامي السياسي، وإنما صراع على السلطة الدينية الروحية للشيعة، إلى جانب أنه صراع لتثبيت الجناح المسيطر على أركان القوة والنفوذ في إيران.
وعاد اللباد في هذا الجزء من الكتاب إلى مسألة تعديل الدستور، وموافقة الخميني على تهذيب الشرائط الواجب توفرها في المرشد، فاعتبر ذلك دليل على إلحاق الخميني للشريعة بالمفهوم الشيعي بالثورة التي قادها وليس العكس، كما أنه عدّ انفصال المرجعية عن القيادة انتهاءً لمفهوم ولاية الفقيه، مبرراً ذلك بأن هذا الفصل يؤشر لانفصال الوظيفة الدينية الكبرى عن الوظيفية السياسية العليا.
كذلك وضع مصطفى اللباد الممارسات التي حدثت بعد عام 1989، في سياق الممارسة العملية الهادفة لشرعنة محافظة الدولة الدينية على سلطتها، لكن بشروط السياسة الدنيوية، وذلك بعد تثبيت الدولة الدينية في السنوات العشر السابقة عبر الاستقواء بالديني على الدنيوي.
واختتم الكتاب بفصل عنوانه “صعود الخطاب الخاتمي هبوطاً إلى نجاد”، تحدث فيه عن فترة حكم الدويكا (ثنائية الحكم بين خامنئي ورفسنجاني)، وتابع كذلك إلى فترة حكم الترويكا (ثلاثية خامنئي، رفسنجاني، خاتمي)، وأوضح أن فترة الحكم الأخيرة هذه هي التي شهدت فرز بائن في التيارات السياسية الإيرانية، كما حلّل اللباد في هذا الجانب من الكتاب الخطاب الإعلامي والسياسي والديني الذي جاء به محمد خاتمي، واستنتج بناء على تحليلاته أن الخطاب الديني الإيراني لا يمكن أن يكون خطاباً واحداً وسرمدياً يتجاوز النطاق الزمني، وإنما هو خطاب واقعي يتطور باستمرار.
إيران في زمن الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد كان لها نصيب في هذا الكتاب، حيث قارن اللباد بين الخطاب الإيراني الذي جاء به نجاد والخطاب الذي كان سائداً في زمن الدويكا والترويكا، كما أن المستقبل الإيراني لم يغب عن كتاب “حدائق الأحزان”، فاستشرف الكاتب بحسه البحثي التحديات التي تنتظر إيران في القادم من سنوات.
زكريا أبو سليسل
في موقع “جادة ايران”