ربما ما من سياسي يمكن ان تسرد سيرته بمثل هذه الكثافة، وان تختلف معه الى حد الخصومة، يكون لذلك معان مغايرة وأشد وطأة عندما يكون ذلك الشخص في العراق.
ورغم مواقع المسؤولية والزعامة التي تولاها أو آلت اليه، لم يكن طريق مسعود بارزاني معبدا ولا مفروشا بالورود. لا بل يمكن القول ان الطريق كانت شديدة الوعورة وفي الوقت نفسه حافلة، بالأمل كما بالاحباط، بالانجازات كما بالانكسارات، بالرهانات البراقة وبالخيانات.
وانك بالكاد تكون قادرا على تمييز مراحل طفولته ومراهقته عن مراحل انخرط فيها بعمق في العمل العسكري والسياسي والامني. وبالكاد بمقدورك ان تعزل بدايات نشوء وعيه السياسي، عن اضطرابات عراق الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وعن اضطرابات العالم ومحاور الحرب الباردة، ومصالح القوى الكبرى والاقليمية.
فاذا اغفلت تفصيلا ولو ضئيلا من تلك المراحل، ربما لن تتكون أمامك صورة واضحة. سيكون مسعود بارزاني عسيرا على الفهم عليك، في التاريخ وفي الحاضر، تماما كما أنه ليس من السهل فهم أسرار القضية الكوردية ولا تعقيداتها الداخلية والاقليمية والدولية. مسعود بارزاني بهذا المعنى، صورة عن قضيته.
فمن أين تسبر أغوار هذه الشخصية وأنت تارة تجد شيئا في نشأته الأولى، وتارة أخرى في زلزال اقليمي أو عالمي ترك بصماته العميقة فيه، كانسان أولا وسياسي ثانيا، ثم في رحلته الطويلة، في ميادين ألغام الشرق الأوسط.
فلنبدأ من طفولة مسعود بارزاني. هو من عائلة نقشبندية من طرف أبيه الملا مصطفى بارزاني. والنقشبندية هي من المذاهب التصوفية التي شاعت بين الاكراد منذ قرون، وقد انعكس سلوك المتصوفة على شخصية مسعود بارزاني. ولذلك، فان من يعرفه عن قرب يلاحظ فيه قلة الكلام وقلة الأكل والالتزام بالمواعيد واحترام رجال الدين والابتعاد عن ثرثرة السياسيين.
وفي مقابلاته الصحافية وهي ليست كثيرة بالنسبة لزعيم أمضى كل هذه السنوات في مواقع المسؤوليات المتنوعة، تلاحظ اجاباته المقتضبة على أسئلة شديدة الحساسية، والتزامه بالايجاز، واللامغالاة في التعبير والأوصاف في الخطابة.
اما من طرف والدته، فان مسعود بارزاني ينتسب الى قبيلة الزيبار. الراحل مصطفى بارزاني تزوج من احدى بنات رئيس قبيلة زيبار، القبيلة المنافسة للبارزانيين تاريخيا. وربما لهذا يقول عارفون، يحمل مسعود بارزاني كثيرا من صفات الوجاهة العشائرية لانه عاش في بيت جده محمود آغا الزيباري من العام ١٩٤٧ الى العام ١٩٥٨، اي في سنواته العشرة الأولى، اي الى حين عودة والده ملا مصطفى من الاتحاد السوفيتي.
والوجاهة العشائرية تقود أحيانا الى صلابة في الرأي والموقف. هي أحيانا من علامات تأكيد الزعامة. لكنها وبينما قد تؤدي أحيانا بالرجل عندما يخوض غمار السياسية الى النجاح في فرض رؤيته وأفكاره بالتشبث بها، فانها في أحيان أخرى، قد تحجب عنه رؤية فكرة بديلة أو خطأ ما. والسياسيون، بطبيعة الحال، أثرياء بأخطائهم الكثيرة.
تروي سيرته الرسمية، انه ولد في مدينة مهاباد في كردستان ايران في 16 آب/اغسطس العام 1946، بالتزامن مع انعقاد المؤتمر الأول للحزب الديمقراطي الكوردستاني في مدينة بغداد، حيث انتخب الملا مصطفى رئيسا للحزب.
وستعصف التطورات سريعا بطفولة مسعود بارزاني، اذ بانسحاب القوات السوفياتية من ايران، جرى الانقضاض على “جمهورية مهاباد” الوليدة، واضطر والده عندها الى اللجوء الى الاتحاد السوفياتي، بعيدا عن ابنه.
وكان ان قامت الثورة على الملكية في العراق في 14 تموز 1958 ونشأت الجمهورية العراقية التي سمحت بذلك باعادة التئام العائلة. ولم يكن مسعود بارزاني سوى في عمر ال15 عندما اضطر الى ترك الدراسة، بعد انفجار الخلاف بين الملا مصطفى والرئيس عبدالكريم قاسم، وتحوله الى ملاحقات بحق قيادات الحزب الديمقراطي ثم الى مواجهات عسكرية، ليلتحق مسعود بعدها في العام 1962، بقوات البيشمركه، مع اشتعال “ثورة 11 ايلول” التي استمرت حتى العام 1975.
ها هو مسعود يخطو خطواته الأولى بين الألغام ويتصارع مع عواصف الاقليم. بعد مضي وقت قصير من التحاقه بقوات البيشمركه، عمل في العام 1967 الى جانب آخرين على تاسيس جهاز “الباراستن” الذي هو بمثابة الذراع الاستخباراتية للثورة. وكانت الساحة الكوردية حافلة بالصراعات والانقسامات والولاءات.
وسيضعه هذا الجهاز في لحظة اصطدام حتمية مع الخصوم. ففي عالم الأمن والاستخبارات، تعتصرك التحديات والمخاطر، وتختبرك تحت النار لتكون أكثر حذرا، وأقل سعة صدر.
وبامكاننا القول ان العام 1970 كان الاختبار السياسي الأول لمسعود بارزاني. حدثان كبيران في حياته، الأول انضمامه الى وفد التفاوض الكوردي مع الحكومة العراقية، والثاني انتخابه من قبل المؤتمر الثامن للحزب الديمقراطي الكوردستاني في اللجنة المركزية للحزب.
لن يدوم انجاز التفاوض مع حكومة بغداد طويلا، فسرعان ما انهار اتفاق الحكم الذاتي، لتعود قعقعة السلاح الى الجبال والوديان. الا ان ابرام “اتفاقية الجزائر” بين نائب الرئيس العراقي صدام حسين وشاه ايران محمد رضا بهلوي برعاية الرئيس الجزائري هواري بومدين في العام 1975، شكلت منعطفا حادا في مسيرة مسعود بارزاني، اذ فرضت الظروف المستجدة على الحركة الكوردية الانكفاء قليلا واعادة التموضع للتعامل مع شروط المرحلة الجديدة، ومصاعبها، لكنها مهدت لانفجار “ثورة كولان” الكوردية التي اشرف عليها وقادها كل من مسعود وشقيقه ادريس بارزاني.
الا ان الملا مصطفى لم يكن بأحسن احواله صحيا، وكان مسعود الى جانب والده بينما كان يتلقى العلاج في الولايات المتحدة ما بين عامي 1976 و1979. وفي هذه المرحلة تحديدا كان يمارس دورا سياسيا من خلف الاضواء، اذ فتح قناة اتصال سرية مع مكتب السيد الخميني في باريس والذي كان يسعى الى اسقاط نظام الشاه. وفي تلك المرحلة خاض مسعود امتحانا مباشرا امام الموت بعدما نجا من محاولة اغتيال في العاصمة النسماوية فيينا العام 1979. هل انقذه حسه الأمني الذي شذبه منذ أيام جهاز “الباراستن”؟ ليس واضحا، ولم تعرف تفاصيل كثيرة عن تلك المحاولة، لكن الأكيد ان الجريمة نسبت الى المخابرات العراقية وان اثنين من مرافقيه اصيبا بجروح.
وبامكاننا ان نتخيل بارزاني في تلك اللحظة المفاجئة في فيينا أمام امتحان الموت غدرا، أمام تساؤلات لا تحصى. شريط الحياة والأقدار المعاكسة أمام هذا الشاب الثلاثيني، يمر أمامه سريعا، منذ ولادته في مهاباد، ثم ترعرعه في منزل جده محمود آغا الزيباري، وصولا الى انضوائه في صفوف البيشمركه ثم انتكاس الأحلام المتتالية واتقاد آمال التغيير بسقوط نظام الملكية لفيصل الثاني ونوري السعيد، وفرص التعاون مع الايرانيين لاسقاط الشاه.
هل سها مسعود عن احتمالات لم يحسب لها حسابا؟ هل صدق الوعود أكثر مما يحتمل ؟ وهل وثق أكثر مما يجب، فقاده كل ذلك الى هذه اللحظة أمام رصاص الاغتيال؟ هل غفل مسعود عن حقيقة ان والده الملا مصطفى لم يكن كثير الثقة بالمنافسين والاعداء طيلة حياته السياسية وانه هو في المقابل أكثر منه تصديقا للوعود؟
ولم يطل انتظاره للخيار الايراني، اذ سقط الشاه بالفعل، ولهذا حط سريعا في طهران ليتابع التفاهمات الباريسية مع قيادة الخميني. وكانت الاقدار المعاكسة بانتظاره مرة جديدة. تبلغ فور وصوله بوفاة والده!
محطات أخرى عديدة وتحولات كبرى ستمر على مسعود بارزاني في السنوات التالية، وستطبع مسار حياته لاحقا. انتخابه بالاجماع من جانب المؤتمر التاسع للحزب الديمقراطي الكردستاني، رئيسا له العام 1979، ثم عندما تجسد مشهد الموت أمامه مرة أخرى وانما بحق عشيرته وابناء منطقته في ما عرف باسم “عملية الانفال” التي شنها صدام حسين العام 1983 وقتل فيها الاف الاشخاص، بينهم، بحسب الأرشيف الرسمي لمسعود بارزاني، 37 من أفراد عائلته.
وبينما بدا ان الحرب العراقية -الايرانية تشكل فرصة لتعزيز تطلعات النضال الكوردي، بعدما مزق صدام حسين “اتفاقية الجزائر” – أو اتهم ايران بخرقها – فانها، أي هذه الحرب، ضربت في الوقت نفسه، موعدا مع الأقدار المعاكسة ذاتها. فمع انكسار موجة الهجوم العراقي في بداية الحرب داخل الاراضي الايرانية، وتحول ايران من موقع الدفاع الى الهجوم، صب صدام حسين انتقامه على الكورد الذي بلغ ذروته في الابادة الكيميائية في حلبجة العام 1988.
وكان مسعود يعمل خلال سنوات الحرب العراقية الايرانية عى خط مواز آخر لتحصين الساحة الكوردية، تمثل ذلك في جهوده المشتركة مع شقيقه ادريس التي أثمرت تشكيل الجبهة الكوردستانية المعارضة العام 1982.
سيعاد التأكيد من جانب الكورد على زعامة مسعود بارزاني من خلال انتخابه من قبل المؤتمر العاشر للحزب الديمقراطي عقد في كانون الاول/ديسمبر 1989 رئيسا للحزب لولاية ثانية، وذلك قبل شهور قليلة من غزو صدام حسين للكويت، وهو عدوان سيغير وجه العراق والمنطقة برمتها. لن تعود القضية الكوردية كما كانت قبل تاريخ الغزو في آب/اغسطس 1990. فمع اعادة تحرير الكويت، واندلاع انتفاضتين ضد صدام حسين في الجنوب والشمال، قاد مسعود بارزاني القتال على الجبهة الكوردستانية.
لقد ارتكب صدام حسين أكبر اخطاء عمره تدميرا. وبدا ان الأقدار ابتسمت أخيرا، وأحسن مسعود بارزاني اغتنام اللحظة سواء في ضرب القوات الموالية لصدام، أو في الوقت نفسه، استكشاف احتمالات الخيار السياسي مع بغداد، حيث ذهب اليها في أيار/مايو 1991 للمرة الأولى مترأسا الجبهة الكوردستانية للتفاوض على حل سياسي.
أشياء كثيرة تغيرت منذ ذهب في تلك المرة في العام 1970، بغرض التفاوض أيضا، في حياة مسعود بارزاني وفي كل من بغداد وكوردستان وفي منطقة الشرق الأوسط التي يستحيل فيها السلام. والخيبات كانت كثيرة مع بغداد. وهذه المرة أيضا لم يكتب النجاح لخيار التفاوض السياسي، وكان التقدم العسكري على الجبهة أكثر فاعلية اذ أنه اتاح لمسعود بارزاني المبادرة الى خطوات تاريخية في مسيرة الكورد تعزز كيانهم السياسي من خلال العمل من أجل انشاء برلمان وحكومة، اذ لم يعد ما قبل 1990، كما بعده.
ثم كانت سنوات الدم السود. تقاتل الحزبان، الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني الكوردستاني في صراع دموي على القرار والسيطرة، فيما تداخلت وتضارب مصالح بغداد وواشنطن وطهران. ويحكى ان مسعود بارزاني كان وقتها يحاول عبر الدبلوماسية السرية التوصل الى صفقة مع الحكومة العراقية لانتزاع الحقوق السياسية لكوردستان.
وكانت طبول الحرب الجديدة تقرع بصوت عال في المنطقة. في العام 2003، انتهى نظام صدام حسين، ولم يعد العراق الذي نعرفه. فمن سلطة الائتلاف، الى مجلس الحكم الانتقالي والحكومة العراقية المؤقتة، وصولا الى العام 2005 حيث وافق العراقيون على دستور جديد في استفتاء شعبي، أكد أن جمهورية العراق دولة اتحادية، واعترف بحدود وصلاحيات اقليم كوردستان، لا بل ان الكورد صاروا شركاء أساسيين في الحكم في بغداد.
وها هو مسعود بازراني أول رئيس للاقليم في العام 2005. ولعلها المرة الأولى التي يوضع فيها مسعود بارزاني أمام امتحان مسؤوليات الدولة بهذا الشكل. ازدهرت الأعمال كثيرا في الاقليم، وصار لقب “دبي الثانية” شائعا في الاعلام العالمي. أما هو فصار تارة ضيفا في واشنطن والفاتيكان ولندن وطهران وانقرة ودمشق والقاهرة والرياض، وتارة يستقبل كبار الزعماء ومسؤولي العالم في اربيل.
آخر اختبارات الأقدار أمام مسعود بارزاني عودته الى الجبال لمقاتلة “داعش” في 2014. يوما قال بلسانه انه طلب المساندة من الحلفاء البديهيين، ولم يأتوا سريعا. يومها طلب من الايرانيين فجاءوا في اليوم التالي. “طيور الظلام” كانت على أبواب أربيل وبغداد والنجف. أحس مسعود مرة جديدة بالخذلان.
ومن الصعب عليك ان ترسم صورة جامدة لمسعود بارزاني المتأثر تارة بقيم قبلية نشأ عليها في صغره، وتارة أخرى بقيم العصر التي نادى بها الحزب. لكن بامكانك ان ترى فيه مقاتلا في البيشمركه، مثلما كان في الستينيات. صحيح ان ذلك الطفل المولود في مهاباد، كبر، لكن الشرق الأوسط لم يغيره.
عن موقع “شفق نيوز”