ما لم يباشر مصطفى الكاظمي ووزراء الحكومة التشمير عن سواعدهم والانكباب على فتح الملفات المعيشية سريعا، فان تداعيات الأزمة الاقتصادية تهدد الجميع بانفجار لا يبقي ولا يذر.
لا تحتاج الأرقام المتوفرة، وحالة التردي العامة معيشيا، الى حنكة اقتصادية تكشف المستور، فالكل شاهد، من المواطن العادي الى المسؤولين المحليين في المحافظات والاقضية العراقية وصولا الى نواب البرلمان واعضاء الحكومة العتيدة الذين ربما لسوء حظهم – او حسن حظهم اذا أحسنوا العمل – ان المسؤولية الكبرى آلت اليهم في احد اصعب المراحل التي يعيشها العراقيون.
وهناك تفاؤل عام بأن حكومة الكاظمي قد تكون أفضل من سابقاتها، اذ جاءت بعد أكثر من محاولة لتشكيل حكومة ما بعد فترة عادل عبدالمهدي، فتلاقت من أجلها ظروف ومعادلات ووقائع، ربما لم تتوفر قبلا، ففتحت طرقات التسوية أمامها.
لكن هذا التفاؤل اضطراري أيضا، ومرده وهذا ربما الأهم، ان آمال الناس وخياراتهم تكاد تنتفي بعدما صارت الأحوال المعيشية لعموم العراقيين، في بلد يفترض أنه بين الأكثر ثراء بموارده النفطية على مستوى العالم، من السوء لدرجة لم يعد يقبلها لا عاقل ولا مجنون.
ولقد مضى على نهاية الحقبة السوداء لصدام حسين 17 سنة، ولم تعد فكرة هدر موارد العراق سابقا، مقبولة على المستوى الشعبي، لتبرير هشاشة الحال الاقتصادية العامة بعد مرور كل هذا السنوات. صحيح ان العراق مر بظروف وتحديات أمنية وعسكرية صعبة خلال السنوات الماضية، لكن الشعور السائد في العراق، ان الناس لا تشعر، وبنسب كبيرة، بفوائد الثروة النفطية الهائلة، ولا بخطط الاصلاح والتنمية والازدهار التي تعد بها الحكومات العراقية المتعاقبة ولا يكاد يتحقق منها شيء.
خذ مثلا أحد خطابات عادل عبدالمهدي في تشرين الثاني 2019، بعيد بدء تظاهرات الاحتجاج الشعبية والتي تضمنت مجموعة وعود وضعها على صفحته على فيسبوك، لعلنا نسلط الضوء على مفارقة التعهدات المتسلسلة التي يطلقها المسؤولون على مر السنوات، ثم يكتشف العراقيون تدريجيا انها حبر على ورق.
فبماذا تعهد عبدالمهدي؟ قال ان الأولوية لزيادة الموارد غير النفطية وتعزيز الاقتصاد والناتج الإجمالي وفرص العمل، والسيطرة على الديون الخارجية والداخلية، وإيجاد موازنة قادرة على إدارة الاقتصاد بشكل علمي صحيح وزيادة الموارد غير النفطية. تحدث عن الالتزام بالرنامج الحكومي، وتعزيز الرقابة، وتعهد بالاصلاحات “الجدية”، وتسوية المشاكل المالية المعلقة والشائكة بروح وطنية ومنصفة بما فيها النفط المصدر من اقليم كوردستان، وتنظيم المشاريع (قيمتها 17 مليار دولار) وتفعيلها بعدما أدى تعطيلها الى ضياع اكثر من 350 الف فرصة عمل.
ولا حاجة للقول ان غالبية النقاط التي تحدث عنها رئيس الحكومة السابق لم تتحقق. وقد يقول قائل ان أربعة أحداث كبرى، عطلت امكانية النجاح: انفجار التظاهرات الشعبية، خراب داعش، ظهور فيروس كورونا، وانهيار الصادرات النفطية.
وقد يكون كل ذلك، أو بعضه، صحيحا، لكن من المهم التذكير بأن العراق حقق ايرادات خلال الاعوام ال17 الماضية، بمئات مليارات الدولارات، ولنأخذ العام 2018 وحده مثلا، اذ حققت الدولة ايرادات من النفط بلغت نحو 84 مليار دولار، فأين ذهبت كل هذه الاموال منذ العام 2003، والبنى التحتية الأساسية في حال يرثى لها، بما في ذلك خدمة الكهرباء والمياه وملايين العراقيين يعانون من البطالة أو العوز.
ويمكن وصف العراق بالأرقام التي تتحدث بنفسها عن الواقع بعيدا عن التحليل والتنظير السياسي – الاقتصادي، وتكشف وحدها حجم التناقضات الرهيبة، وتضفي شرعية على تساؤلات العراقيين وهواجسهم، ما يضع الكاظمي، وقد تسلم للتو كرسي رئاسة الحكومة، أمام الامتحان العسير: ماذا سيفعل؟
وها هي الارقام ترسم صورة عن عراق لا يتمناه العراقيون. لدى هذا البلد خامس أكبر احتياطي من النفط الخام، يقدر بنحو 150 مليار برميل (حوالى 8.8 % من الاحتياط العالمي)، ينتج منه حوالى 4.3 مليون برميل يوميا، ويصدر غالبيته الى الخارج، ما يجعل العراق بين الخمسة الكبار في تصدير هذه السلعة الحيوية لاقتصاد العالم.
الذي جرى ان العراق، وهو ثاني أكبر منتجي النفط داخل “اوبك”، بانهيار اسعار النفط عالميا وتعطل قدرات الانتاج والتصدير بسبب فيروس كورونا، لم يحقق من ايرادات النفط سوى 1.4 مليار دولار خلال شهر نيسان الماضي. تسبب ذلك بتعثر قدرة الحكومة على دفع رواتب موظفيها الشهرية في القطاع العام والتعويضات ونفقات حكومية أخرى والمقدرة بنحو اربعة مليارات دولار.
وكان وزير المالية العراقي علي عبد الامير علاوي أقر الاثنين الماضي ان الامور “صعبة” فيما يتعلق بالشأن المالي في البلد، مضيفا “لكن الرواتب وقوت الناس من اول اهتمامات وأولويات الحكومة”.
وللدلالة على حجم الهوة الواقع فيها العراق، اكد عضو اللجنة المالية النيابية جمال كوجر “حاجة العراق من 15 إلى 20 مليار دولار لسد العجز في الموازنة”.
غير ان “مجموعة جيفريز” للخدمات المالية في نيويورك، تعتبر ان العراق بحاجة الى 40 مليار دولار. وفي حين ان حكومات اجنبية وهيئات مالية مثل صندوق النقد الدولي، تعهدت بدعم العراق، الا ان “جيفريز” ترى ان “العراق أكبر من أن تتحمله الدول الدائنة”، وان العراقيين بحاجة الى الاتكال على انفسهم من خلال اعتماد اجراءات تقشف قاسية في الميزانية، وتقليص حجم الحكومة.
ومعلوم ان العراق لم يقر حتى الآن موازنة البلاد المالية للعام الجاري نتيجة الاحتجاجات الشعبية منذ تشرين الأول، والتي أجبرت حكومة عبد المهدي على الاستقالة مطلع كانون الأول/ديسمبر. وفي الوقت نفسه، فقد خسر ايرادات مالية قيمتها 11 مليار دولار جراء انهيار اسعار النفط، مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي، بحسب احصاءات شركة سومو الوطنية والتي باع العراق وقتها ما قيمته حوالى 27 مليار دولار.
اذا، المشهد قاتم والأداء السنوي هو الأسوأ منذ العام 2003 بحسب تقييم البنك الدولي الذي يتوقع انخفاض الناتج المحلي الاجمالي للعراق بنسبة 9.7 %. يعتبر ان التظاهرات تعبر عن مدى هشاشة النظام الاجتماعي والاقتصادي. يخشى البنك من ان نظام الرعاية الصحية لا يتمتع بقدرات تشغيلية ومالية كافية لاحتواء خطر كورونا والسيطرة عليه.
وعوضا عن مكافحة الفساد وتنفيذ اصلاحت هيكلية عميقة وتحفيز القطاع الخاص من أجل خلق فرص العمل أمام الشباب، بحسب البنك الدولي، عمدت الحكومة الى القيام بعمليات تعيين واسعة في القطاع العام وزيادة المعاشات التقاعدية والتحويلات الاجتماعية.
أكثر من ذلك. يشير البنك الدولي الى انه خلال العام 2019، ذهب معظم الإنفاق الاستثماري إلى قطاعات متصلة بالنفط، وبلغت نسبة تنفيذ الاستثمارات في القطاعات غير النفطية 18% فقط، مما أثار مخاوف بشأن مستوى تقديم الخدمات العامة، وتزايد فجوة البنية التحتية، وتوقف برنامج إعادة الإعمار.
اذا، العراق أمام فجوة تمويلية حادة لن تقتصر نتائجها على إرجاء تنفيذ مشروعات البنية الأساسية الحيوية في قطاعات تقديم الخدمات فحسب، بل وإرجاء تنفيذ برامج بناء رأس المال البشري، كما ستحد من قدرة الحكومة على تلبية احتياجات التعافي الاقتصادي فيما بعد انحسار جائحة كورونا، بحسب البنك الدولي.
وتأكيدا على ذلك، قالت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في العراق جينين هينيس بلاسخارت، خلال إحاطة بمجلس الأمن الدولي، إنه “من المتوقع انكماش الاقتصاد العراقي بنسبة 9.7 % في العام 2020، مع ارتفاع معدلات الفقر إلى حوالي 40 %. ومن المتوقع حدوث خسائر كبيرة في دخل العمل، وكذلك انخفاض في الفرص الاقتصادية”.
وبامكان العراق اللجوء الى احتياطاته النقدية من العملات والمقدرة بنحو 63 مليار دولار، لكنه يحتاج الى قرار من الحكومة يحظى بموافقة من البرلمان. وبينما وضعت الميزانية الاخيرة على أساس ان سعر برميل النفط 56 دولار، فانه يتراوح الان بحدود ال30 دولارا فقط.
وكان الاقتصاد يحقق في العام 2019 نموا ب 3.9 % بعد نهاية حرب داعش، مع تحسن الصادرات النفطية التي وصلت الى 4.7 مليون برميل يوميا، ما نشط حركة اعادة الاعمار التي تتطلب 88 مليار دولار. لكن صندوق النقد الدولي من جهته، يتوقع الآن نموا سلبيا للناتج المحلي الى 4.7 سالب في 2020، علما بأن ميزانية العام الماضي كان حجمها قياسيا، اذ قدرت ب 111 مليار دولار.
وتشير التقديرات الى ان الدين العام يشكل 51% العام 2019، وسيزيد قليلا في عامي 2020 و2021 حتى لو تعاملت الحكومة بشكل فاعل الان لمعالجة الموقف.
ويرزح العراق تحت عبء ديون خارجية، يقول محافظ البنك المركزي علي العلاق انها تبلغ 23 مليار دولار، بينما تبلغ الديون الداخلية نحو 40 تريليون دينار عراقي. الا ان تلك الديون لا تشمل 40 مليار دولار تمثل ديونا معلقة لفترة ما قبل العام 2003، ويعتقد انها الجزء الأكبر منها محل خلاف مع المملكة السعودية التي تطالب بها.
والحالة العامة لا تحتمل تأجيلا، فمنظمة اليونيسيف، تشير الى ان ان طفلا من بين كل أربعة أطفال، يعيش في حالة فقر، وهناك أربعة ملايين طفل يحتاجون الى مساعدة مباشرة.
ولا تتوفر أرقام دقيقة عن نسب البطالة، لكنها بالتأكيد عالية خصوصا بين الشباب والنساء في بلد تشكل فيها الدولة الجهة التوظيفية الأكبر، اذ بحسب البنك الدولي، فانه خلال الاعوام الأخيرة، وظفت الدولة 4 من بين كل خمسة أشخاص ممن حصلوا على وظائف في العراق. ويشكل العراقيون دون عمر ال24، أكثر من 60% من تعداد السكان. وبحسب صحيفة “واشنطن بوست”، فان التوظيف بالنسبة الى الغالبية مرهون بالعلاقات العائلية والعشائرية وبشبكة الفساد والرشاوى القائمة.
وبناء على ارقام متوفرة من وزارة التخطيط العراقية، فقد بلغ معدل نسبة الفقر خلال العام 2018 نحو 20 % على مستوى العراق، لكنه في بعض المحافظات كان اعلى من ذلك بكثير. ففي المثنى سجلت 52 %، والديوانية 48 %، وميسان 45 %.
ولا يشكل قطاع الزراعة، برغم أهميته في بلد بتعداد سكاني بحدود ال40 مليون نسمة، سوى 2 % من اجمالي الناتج المحلي، وخصوبة ربع مساحة أراضيه بسبب نهري دجلة والفرات. ولهذا، فان العراق يضطر الى استيراد غالبية حاجاته الغذائية من الخارج.
من الصعب تصور ان خططا اقتصادية آنية ستكون كافية لمنع الانهيار الاقتصادي – المالي المتدحرج، ما لم يبادر الكاظمي الى اعلان خطة طوارئ اقتصادية شاملة. تحتاج حكومة الكاظمي الى مراجعة جذرية لسياسات العراق الاقتصادية وتنويع خياراتها ثم اعلان خطة طوارئ اقتصادية للانقاذ تتضمن بالتأكيد حربا على شبكات الفساد المتأصلة. ومن دون ذلك، ربما تصاب حكومة الكاظمي في مقتل قريبا.