الرئيسية » Uncategorized » هل ينجو وسط ألغام ووحوش العراق ؟

هل ينجو وسط ألغام ووحوش العراق ؟

من غير الواضح ما إذا كان محمد شياع السوداني يعرف من أين تؤكل الكتف وهو المكلف بالوظيفة الأكثر تعقيداً في عراق ما بعد الـ2003: رئاسة الحكومة.

سيحتاج السوداني إلى أكثر من معجزة، إذا لم تتضافر ظروف داخلية وخارجية مؤاتية له، من أجل الخروج متعافياً من المهمة شبه المستحيلة التي آلت إليه بعد مرور أكثر من عام على إنتخابات برلمانية أنتجت أسوأ وأطول مرحلة انسداد سياسي في العراق.

هناك من يقول إن القوى السياسية كانت “عاجزة”، فأخفقت، لكن هناك أيضاً من يؤكد أن ما جرى كان “بمثابة تهاون في إدارة مرحلة ما بعد الإنتخابات، بالرغم من سلسلة النكبات اللامتناهية المصاب بها البلد، وتعقيدات السياسة والأحزاب والأمن والإقتصاد والخدمات والعلاقات الخارجية والتوتر الإقليمي والتململ الشعبي”.

وبقدرة “قادر ما”، انفرج الإنسداد السياسي في 13 تشرين الأول/أكتوبر الحالي فجأة، حيث التأم البرلمان وانتخب عبداللطيف رشيد رئيسا للجمهورية، فكُلّف على الفور محمد شياع السوداني، النائب المغمور، تشكيل حكومة ما بعد حكومة مصطفى الكاظمي الذي أوتي به توافقيا من عالم المخابرات منذ أكثر من عامين، فكان عنواناً لحقبة التجسير الأميركي ـ الإيراني التي يبدو أنها بلغت الحائط المسدود.. نووياً.

والآن، مع بدء مساومات توزيع المقاعد الحكومية، يُطرح السؤال الكبير: هل بامكان محمد شياع السوداني أن ينجو وسط أطنان ملفات الأزمات المتراكمة والاعيب دواهي السياسة والسماسرة والمافيات؟ أم سيجد نفسه منذ اليوم الأول أمام لحظة الحقائق المرة، بأن أزمات العراق أعقد من أن يعالجها رئيس وزراء آت من حزب صغير بعدما سبقه نظيره الذي عانى الأمرين، وهو الآتي من دنيا المخابرات ودهاتها؟

عبداللطيف رشيد خلال تكليف السوداني

تتحدث السيرة الذاتية عن رجل كان عضواً في اللجنة البرلمانية المشرفة على تنفيذ البرنامج الحكومي والتخطيط الإستراتيجي، وسبق له أن تولى منصب وزير العمل والشؤون الاجتماعية من العام 2014 إلى العام 2018. كما شغل منصب القائم بأعمال وزير الصناعة ووزارتي التجارة والمالية. لكن قبل ذلك، شغل منصب وزير حقوق الإنسان من العام 2010 إلى العام 2014. وعُيّن وزيراً بالوكالة لوزارتي الهجرة والزراعة، ومؤسسة السجناء السياسيين.

وغالب الظن أن هذه المناصب أضافت إلى السوداني الكثير من الخبرة في العمل السياسي، لكنها أيضاً سلبت من رصيده، لأنه “وُصِمَ” بقربه من رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، وهي “تهمة” يعتقد أنها عرقلت وصوله الى موقع رئاسة الحكومة في عامي 2018 و2019، وأيضاً عندما سرّبت “قوى الاطار التنسيقي” اسمه كمرشح محتمل قبل بضعة أسابيع، حيث أطلق السيد مقتدى الصدر العنان لأنصاره لاقتحام المنطقة الخضراء واحتلال البرلمان من أجل اجهاض محاولة تكليفه.

وحصل ذلك برغم أن السوداني الذي يحمل شهادة بكالوريوس العلوم في الزراعة من جامعة بغداد، حاول الخروج من عباءة المالكي، بابتعاده عن حزب الدعوة، وتشكيله “تيار الفراتين” العام 2021، ولم تحفظ له الذاكرة الشعبية لا مسيرته التي يصفها البعض بانها إتسمت بالكفاءة ولم تتلطخ بالفساد، ولا إرثه الشخصي، وهو طفل في العاشرة من عمره عايش إعدام صدام حسين لوالده وخمسة آخرين من أفراد عائلته.

لم ينجح السوداني تماماً في الخروج من ظل المالكي وتجربة الإسلام السياسي الشيعي السيئة في العراق، وظلّ كثيرون ينظرون إليه وفق هذه الصورة، وفي أحسن الأحوال، كان يُوصَف بأنه من تلك النخبة السياسية التي كان المتظاهرون ناقمين عليها.

كما تروي سيرته أنه شغل منصب قائم مقام مدينة العمارة (محافظة ميسان)، وكان عضواً في مجلس محافظة ميسان، ومحافظاً لميسان. وعندما اندلعت احتجاجات تشرين/اكتوبر 2019، قال السوداني إنه يؤيد مطالب المتظاهرين وتطبيق إصلاحات سياسية وإقتصادية وخدمية. وبعدما تم تكليفه قبل أيام، ألقى كلمة حدّد فيها الأفكار الرئيسة لبرنامجه الحكومي، وبينها استراداد هيبة الدولة وايقاف الانفلات ومواجهة الفساد ومعالجة البطالة وتنشيط قطاعات الصناعة والزراعة ومعاجلة قضايا البيئة والتصحر، وهي عناوين تناولها كل رؤساء حكومات ما بعد عام 2003، لكنها ظلت حبراً على ورق بدليل تردي الخدمات.. إلى حد الترحم على زمن صدام حسين!

كما توجه السوداني إلى الدول “الشقيقة والصديقة” قائلاً إنه يريد التعاون على “أساس المصالح المشتركة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام السيادة”، وأكد على أهمية التعاون مع كل القوى “سواء الممثلة في مجلس النواب أو الماثلة في الفضاء الوطني” ورفضه للإقصاء والتهميش.

يبدو هذا الكلام جميلاً ومنمقاً، لكنه كلام عام، ربما تقتضيه رمزية مناسبة تكليفه لا أكثر، لكنها تُخفي خلفها عدداً لا يُحصى من الألغام، ومن غير الواضح ما إذا كان السوداني الذي يترأس حزب “تيار الفراتين” المعلن في كانون الثاني/يناير 2021، وله ثلاثة مقاعد في البرلمان، وينادي بحقوق المواطنة والعدالة الاجتماعية والمساواة، سيكون قادراً على تفكيكها، أو بأحسن الحال.. النجاة منها.

والأسئلة والمخاوف كثيرة، بينها مثلاً كيف سيتعامل بداية مع توزيع الحصص الوزارية. المعلومات الأولية تشير إلى أنه يتعرض حالياً لضغوط من مختلف القوى من أجل تسمية شخصيات معينة أو انتزاع حقيبة وزارية معينة، في بلد اعتاد منذ 20 سنة، على مبدأ “المحاصصات” الفئوية والطائفية، تماماً كلبنان الذي اقتيد إلى الحضيض، وجعل أيضاً العراق نفسه مضرب مثل في العالم في الفساد، بدليل آخر ملف موجود على طاولة السوداني وقيمته مليارا دولار ونصف المليار دولار، وحتماً لن يكون من السهل أن يصل إلى خواتيمه، كلما كان بيكاره السياسي أكثر إتساعاً!

لكن الرجل المعروف بحيويته الإستثنائية يحتاج برغم ذلك إلى فرصته الخاصة. يشفع المقربون منه له أنه كان يُلقب يوماً بأنه “السيد النظيف” بالنظر إلى عمله الدؤوب في الحقائب والمناصب التي تولاها من أجل مكافحة الفساد، حيث يُروى عنه أنه خلال توليه وزارة العمل والشؤون الاجتماعية وفي وزارة التجارة والصناعة، تصدى للكثير من المطالبات الاحتيالية والعقود غير القانونية بعشرات ملايين الدولارات، وفتحت العديد من الملاحقات القضائية حولها.

لكن العارفين بالعراق يدركون أن “شياطين الفساد” أقوى من الدولة نفسها، فماذا سيفعل رئيس وزراء كلّفته “الكتلة الأكبر” المتمثلة بـ”قوى الإطار التنسيقي”، والطامعة بحصة كبيرة من مقاعد الحكومة، وهي التي كادت تجد نفسها خارج اللعبة السياسية نهائياً، بعد نتائجها المخيبة في الإنتخابات، لولا “الخطأ التاريخي” الذي إرتكبه السيد مقتدى الصدر بالإستقالة من البرلمان بعدما أخفق في الإستفراد بالتمثيل الشيعي متحالفاً مع جزء من المكونين الكوردي والسني، ممن سارع بعضهم إلى نقل بارودتهم من كتف إلى آخر!

ولعل الأكثر خطورة أمام السوداني وخياراته، ما إذا كان سيلتزم بعدم إقصاء أحد مثلما صرّح قبل أيام قليلة، وبالتالي، هل سيعمل على إبقاء مقتدى الصدر خارج المشهد السياسي المستحدث، أم سيحاول تقديم جوائز ترضية له أملاً بابقائه هادئاً، أو أقل مشاغبة عليه وعلى حكومته المنتظر ولادتها، وهو الذي برهن خلال عام كامل، برغم إخراج نوابه الصدريين من البرلمان، على قدرته على إشعال الشوارع، بلحظة واحدة.

ولا تتوقف التساؤلات والمخاوف هنا. ايرادات النفط المتضاعفة بفعل ارتفاع الأسعار عالمياً، ضاعفت إحتياطي الخزينة من الدولارات إلى نحو 90 مليار دولار، ما يفتح شهية الجميع، من رجال الأحزاب المزروعين في كل دوائر الدولة، إلى حكومات المحافظات، وصولاً إلى حكومات العالم، على “الكعكة” التي تختمر في الفرن النفطي العراقي.

وإلى أي مدى سيذهب السوداني في إظهار “حياديته” أو “توازنه” خارجياً، خاصة في العلاقة مع الجار الإيراني الصعب، مدركاً أن عيون الأميركيين مفتوحة لمراقبته؟ ثم ماذا سيفعل في حال عاد التوتر الساخن على خط العلاقات الأميركية-الإيرانية، وانعكس ذلك مباشرة، إهتزازاً على ساحة العراق؟

هل سينجح السوداني في محاولة قطف ثمار الحوار السعودي-الإيراني الذي ترعاه بغداد في كواليسها السرية منذ العام الماضي، فيواصل انفتاح العراق على الخليجيين والمصريين والأردنيين، إقتصادياً وسياسياً وأمنياً؟ أم أن نتائج انتخابات مخيبة في صناديق الإقتراع الأميركية لديمقراطيي الرئيس جو بايدن، وانهياراً محتملاً للمفاوضات النووية الايرانية، ستجعل حكومة السوداني في بغداد، تترنح أمام لكمات التوترات المتتالية؟

من تظاهرات العراق

لا إجابات سهلة على هذه الأسئلة، تماماً مثلما ليس بامكان السوداني نفسه أن يُجيب مثلاً على “التحدي الكوردي”، لا ذلك المتعلق فقط بالعلاقة مع إقليم كردستان وميزانيته والخلاف النفطي معه، وإنما أيضاً مع الوجود الكوردي المسلح الذي استثار في الأسابيع الماضية، ردوداً ايرانية صاروخية على مواقع ميليشيات كردية معادية لطهران في قلب كردستان العراق.. وفيها ما فيها من رسائل تتعلق بـ”الثنائي الكوردي” نفسه!

من المهم أيضاً، متابعة ما إذا سيجد مخرجاً عراقياً قوياً للتعامل مع التحدي التركي الذي فرض تهديدات متداخلة في الأمن والسيادة والتوتر الإقليمي، بالإضافة إلى المياه حيث أصبح العراق، بلاد ما بين النهرين، يوصف عالمياً بأنه من أكثر دول العالم عطشاً وجفافاً.

وربما للسوداني الذي عمل عبر اللجان الوزارية المتعددة في قطاع المياه، الخبرة اللازمة لمعالجة أزمة الجفاف الخطيرة المهددة للإستقرار الاجتماعي واستمرارية المجتمعات الزراعية والريفية وقدرتها على البقاء، لكنه بالتأكيد سيكون بحاجة إلى اجماع وطني في بلد موزع الولاءات، للتعامل بندية كافية مع تركيا وايران اللتين تقول وزارة الموارد المائية إنهما تتحملان مسؤولية عطش العراقيين.

هذا ليس تفصيلاً هامشياً في حياة أي بلد. لكن أن يتداخل العطش مع سوء الخدمات وانعدام الإستقرار السياسي والأمني والمعيشي والبطالة التي يقدر بأنها تتخطى الـ20 %، يجعل من العراق قنبلة موقوتة.

من المثير للإهتمام أن يحظى العراق برئيس للحكومة بروحية التواصل الخدماتي المباشر مع الناس، لكن أيام وشهور تعقيدات العمل الحكومي هي وحدها ما سيبرهن على استمرارية ومصداقية ذلك من عدمه، خاصة عندما سيجد محمد شياع السوداني، نفسه متحصناً في “المنطقة الخضراء” ومحاصراً بكل ما سبق من ألغام ووحوش.

ينشر بالتزامن مع 180Post

عن جورنال