الرئيسية » العالم والخليج » “جورنال” مع المقاومين في جرود عرسال : ما رَأَيْنا إلا جميلا”

“جورنال” مع المقاومين في جرود عرسال : ما رَأَيْنا إلا جميلا”

 

 

فراس خليفة

 

يضيقُ الفاصلُ  بين الأرض والسَّماء في أعلى جرود عرسال.هَوْن السَّما قريبة”، كما تقول الأُغنية المعروفة، أو هكذا يخالُ  للذين جاؤوا يستطلعون أحوالَ المقاومين بالتزامن مع نهاية مرحلة سيطرة “النصرة” في الجرود . كلّ الطرقات التي تُوصل إلى مواقع “النصرة” السّابقة شُقَّ معظمها قبل أيام  قليلة. هنا أوهناك، عند أوّل “الكَرْم” أو عند آخر الطريق المؤدّية إلى أحد مقالع الصخر، ثُبّتت آرمة خضراء تشير إلى وجهة “السَّير” الجديدة. أسماءُ أماكن تردَّد ذكرها في الإعلام كثيراً كُتبت سريعاً بخط غير سويّ تماماً لكنه واضح للقراءة. “على طريقتها، تضعُ المقاومة قانون السّيْر هنا ولا تنتظرُ ضوءاَ أخضر من أحد” على حدّ قول قيادي ميداني مواكب. يُسألُ القياديُ نفسه عن إتجاه القبلة من أحد “الضيوف” فيردّ ممازحاً: “أنت هون يا زلمة وعم تسأل عن القبلة؟ هون كيف ما برَمْت صلاتك مقبولة”..

“ضهر الهوّة” وبروفة المعركة الكبرى                                          قرب إحدى الدُشَم في مرتفع “ضهر الهُوّة” المُطل على منطقة “وادي الخيل” في جرود عرسال، بقايا طعام ولباس لمن كانوا قبل أيام هنا. حافَظَ المقاومون بعد دخولهم على نسخة من القرآن كانت بحوزة المسلحين ووضعوها في مكان مرتفع نسبياً عن الأرض. “يقاتلونكم بالقرآن إذاً، أليست مفارقة”؟ مدخلٌ لحوار سريع مع أحد المقاومين. “ربما تكون كذلك. فالتاريخ الاسلامي حافلٌ بتناقضات كثيرة”. يقول الرجُل الذي لم يُفاجَأ بالسؤال. ولكن أين يقف الله في معركة  يُرفع فيها اسمُه لدى طرفيْها؟ “مِعنا أكيد”. يبتسم معقّباً: “في النهاية الله للجميع ولكن المهم هو نُبل الهدف والوسيلة في آن”.

في الموقع نفسه الذي يعدُّ أحد أبرز المواقع المحرَّرة حديثاً يشرح ضابط عمليات في المقاومة لـ”جورنال” بعضاً من فصول المواجهات التي خيضت هناك، لافتاً إلى أن سقوط “الموقع الكبير” استغرق إحدى عشرة ساعة تقريباً. يقول إن بعض المواجهات جرت من مسافات قريبة جداً. يشير من جهة أخرى إلى أن مقاتلي “النصرة” كانوا يتركون جثث مقاتليهم في الأرض عند إنسحابهم. “نحتفظ بجثثهم في حال تم التفاوض عليها لاحقاً أو ندفنها”.

المعركة  في جرود عرسال برأي الرَّجل أدّت إلى مراكمة خبرات إضافية لرجال المقاومة مع أنها ليست الأولى من نوعها. “هي بالأصل نتيجة خبرات سابقة في هذا النوع من الحروب الصعبة” وفي الوقت ذاته “بروفة لمعارك قادمة”. بعد؟ “كل ذلك استعداداً للمواجهة الكبرى التي تعرفون  وجهتها جيداً”. ولكن متى تتعبون؟ “ليس لدينا سن تقاعد في العمل المقاوم. هذا أنا مثلاً بلغتُ الخمسين عاماً وعندي ولدان يقاتلان الآن على جبهات مختلفة” !

الرّاية الأولى وأثَرُ الـ”دوشكا”                                                       المكان: موقع “القنزح” الإستراتيجي  وأحد أبرز خطوط الدفاع الأولى السابقة لمجموعات “النصرة”. الزّمان: ظهيرة يوم تموزي من أيام  “حرب التحرير الثانية” كما أسماها أحد أعضاء الوفد الزائر هناك. “هذا وادي المعيصرة وذاك شيّار الحطب وهنا ضهر صفا اللزّاب وهذا موقع الكسارات”، يشير قيادي آخر في المقاومة إلى خريطة الأمكنة المحيطة كأستاذ بارع في الجغرافيا. يقول لـ”جورنال”: “سقوط الموقع كان مؤثراً جداً في سير المعركة في اليوم الأول”. يضيف: “واجهنا صعوبة في دكّ الموقع مدفعياً نظراً لتحصينه الشديد إذ انه عبارة عن كسّارة كبيرة  كما هو الحال مع عدد آخر من المواقع”. يؤكد الرجل أن السيطرة على المكان تمّت “عبرالالتفاف عليه من اكثر من جهة” ولاينسى أن يذكّر: “هنا رُفعت أوّل راية في هذه المعارك”.

كثيرون من “أخوة الجهاد” لا يحفظون أسماء رفاقهم الحقيقية. لا يخاطبون بعضهم البعض سوى بأسمائهم الجهادية المحبّبة لديهم. يسأل زائر عن اسم مقاتل من إحدى البلدات الجنوبية فيقال له: “الحاج جواد موجود لكنه خارج الآن في مهمّة”. أسامة ينادي حيدر، فيما يتكرّر إسم أبو تراب على “الجهاز” أكثر من مرة في أقل من دقيقتين. “معنويات الشباب بالسما”. يقول أحد مقاتلي المقاومة واسمه “فداء”. يتحدث ابن السنوات الخمس وعشرين عن “زملائه” الذين ساهموا في تحرير جرود عرسال الخاضعة لسيطرة “النصرة”. بنظره “كانوا جميعهم بمثابة قوات النخبة في المقاومة بمن فيهم قوات الإحتياط ومن أعمار متفاوتة”. شكّلت الحرب السورية ، وامتداداً لها معارك القلمون والسلسلة الشرقية، تجربة عسكرية غنيّة لـ”فداء” الذي أصيب بشظيّة قذيفة “دوشكا” في وجهه أيام معارك ريف القصير. ورغم أن الحرب تركت نُدُوباً في وجهه لكنها أعطته في المقابل دفعاً كبيراً لإكمال المهمّة. قاتل فداء مسلّحين ينتمون لفصائل عديدة. برأيه لا فرق بين “النصرة” و”داعش” الا بالولاءات لهذا الأمير أو ذاك أو لهذه الجهة “المموّلة” أو تلك. “هودي بدهم مواجهة لكسر ارادة القتال عندهم” !           على الجهة الأُخرى من الموقع قبالة  “تلّة العمامة” التي كانت آخر نقاط  المقاومة في العام 2015 يتحدّث أحد المقاتلين عن الروح المعنوية خلال المواجهات. “رغم أنني بلغتُ الـ47 عاماً أتعجَّب كيف أنني مؤخراَ شاركتُ  في هجوم بعمق 6 كلم اضطررنا فيه ان ننزل في وديان ونصعد التلال أكثر من مرة”. هل تفكّر بعائلتك وأنت في المعركة؟ “لن تصدّق اذا قلت لك انني في قلب المعركة أنسى كل شيء تماماً وفور انتهائها أعود فوراً ذلك الأب الذي تدمع عينه لأبسط التفاصيل التي تخص عائلته”. يضيف: “ابني عمرو 25 وعَمَّالي يقاتل كمان. مرّة مني ومرّة منو”!  يشير الرجل إلى الغُرف السابقة في الموقع والتي كانت مجهزة تجهيزاً كاملاً قبل أن تدمرها المقاومة. لكن بعض آثارهم لا تزال في مكانها. موقد نار لحفلة شواء أخيرة في الهواء الطلق. بقايا أطعمة ومواد غذائية وعبوات مياه وفرش واغطية ومواد طبية مصدرها جميعها متاجر لبنانية. لعلّ في ذلك إجابة على سؤال أحدهم حول صمود المسلحين هناك في ظروف مناخية قاسية.

جيل تمُّوز يحرّر جرود عرسال                                                   في موقع “القريّة” المحرّر والمشرف على أجزاء من بلدة عرسال وعلى مسافة غير بعيدة من مواقع الجيش اللبناني، يتحدث مقاتلو المقاومة عن العلاقة القوية مع الجيش ويشيدون ببسالة عناصره وعن “تجربة عرسال وجرودها الإستثنائية” التي منحت الطرفين تجربة مشتركة نموذجية على حد قولهم. “في المعركة نحن جسم واحد”.

كان الوقت ظهراً، وكان صوت المدفعية يستهدف آخر معاقل “النصرة” في “وادي حميد” قبل أن يعلن مسلّحوها استسلامهم لاحقاً. “لَيْك صوتو شو حَنَون” يعلّق مقاتل بلكنة بعلبكية على صوت  قذيفة “المدفع القنّاص” الروسي الصنع الذي قامت المقاومة بتعديل نظام حمله كما أشار أحد العارفين. عند أطراف الموقع يأبى “كرّار” العشريني إلا أن يرفع رايتّي المقاومة ولبنان على نقطة مشرفة في الموقع كنوع من تحية لضيوف اللحظة الإستثنائية. طيّارة مسيّرة عن بعد تحلّق على علوّ منخفض لتأمين المكان. يوزّع “فلاح” بعض عبوّات المياه على الحاضرين ويروي بعضاً من تجربته هنا. “أحياناً ولدى قيامنا بعمليات تسلل قبل تنفيذ الهجوم يحدث أن نكون على مسافة قريبة جداً من المسلحين لكننا لا نقوم بقتلهم حرصاً على نجاح العملية”. لماذا تقاتلون يا حاج؟ “ندافع هنا عن وطننا وأهلنا وعن أهل عرسال والقرى المجاورة الأخرى الذين خسروا أرزاقهم ومصالحهم”. يضيف فلاح في حديثه لـ”جورنال”: “لم يغب عن بالنا ولا لحظة دماء رفاقنا الشهداء في المقاومة والجيش، أفكّر كثيراً بعائلات الشهداء”. يقول الشاب الجنوبي، “سجّل عندك: أطفال حرب تموز هم مَن حرّروا هذه الجرود. الجيل الذي كان صغيراً حينها جاء إلى هنا ليقاتل الإرهاب وسيعود لقتال إسرائيل مجدداً”!  كان فلاح ورفاقه  ينتظرون خطاب “السيّد” او “خطاب النصر” في اليوم التالي. لم نعرف شعورهم مثلاً عندما خاطبهم “القائد” بعين دامعة: “بكم أنتم أخرجنا الله من الذل”. العلاقة الإستثنائية بينه وبينهم صارت مع الوقت واحدة من نقاط  قوة “حزب المقاومة” و ترسّخت بشكل أقوى في حرب تموز تحديداً !

عوْدٌ على بدء وانقلاب الآية                                                   صوتُ المدفعية مرّة أخرى. سيارات وآليات وصهاريج مياه و”محمولات” على انواعها و”عسكر” في الإتجاهين وأيادٍ تلوّح لوجوه لم تنم أبداً في الليالي الماضية. على الطريق الطويل يتغيّر لون التربة من الأحمر إلى الأبيض. المشمش “استوى على إمُّو” بلغة المزارعين  وبساتين مطرّزة في السفح  بدت كأنها من صنع مهندس عمارة وليس مزارع تقليدي. إلى أين؟ إلى  النقطة الأولى التي كان “الموكب” انطلق منها في جرود بلدة يونين. هناك خُطّت الآية القرآنية التالية: “إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبون مئتين”. ولكن الآية انقلبت على ما يبدو في السنوات الأخيرة الماضية. تحوّلت المقاومة إلى “جيش” غير قليل العدد أهدى قائده بالأمس “نصراً مُنجَزاً جديداً لكل اللبنانيين وشعوب المنطقة التي عانت وتعاني من الإرهاب” .

 

 

 

عن جورنال