الرئيسية » اراء ودراسات » غيفارا أم برنار هنري ليفي ؟ اليسار اليساري في مواجهة اليسار الليبرالي

غيفارا أم برنار هنري ليفي ؟ اليسار اليساري في مواجهة اليسار الليبرالي

د.جمال واكيم

 

قبل سنوات كنت قد قرأت كتابا حول تاريخ الثورات الشيوعية في العالم بعنوان “كومرادز”، أو الرفاق، وفيه يحاجج كاتبه روبيرت سيرفيس بأن الثورات السوفياتية والصينية والفييتنامية وغيرها لم تكن في جوهرها إلا ثورات قومية – وطنية ضد الهيمنة الغربية.

 

الاشتراكية شعار … الليبراليين ؟!

الجدير ذكره أنه مع توسع انتشار الرأسمالية في العالم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، نشأت نخب في المجتمعات التي وقعت تحت الاستعمار، أو التي تعرضت مجتمعاتها لنمط التطور الرأسمالي التابع، تنتمي في معظمها الى الطبقة الوسطى الناهضة في هذه المجتمعات آمنت بالمبادىء والمثل الليبرالية التي كانت ترمز لها بالدرجة الأولى الثورة الفرنسية.

لقد كانت هذه المبادىء هي الموجهة للثورة الدستورية في ايران في العام 1906 ولثورة الاتحاد والترقي التي قادها ضباط عثمانيون ضد حكم السلطان عبد الحميد في العام 1908 وثورة صن يات سن في الصين ضد الحكم الامبراطوري في العام 1911 وحتى الثورة البولشفية الروسية في العام 1917.

الا أن المبادىء الليبرالية التي كانت قد أمنت بها هذه النخب، كانت لتصطدم بمصالح القوى الاستعمارية التي كانت تحت قيادة نخب ليبرالية أيضا. وإذ بليبراليي العالم الثالث يجدون أنفسهم منبوذين وغير معترف بهم من قبل ليبراليي الدول المتقدمة، والتي كانت تسيطر على بلادهم ومجتمعاتهم.

وكانت الثورة البولشفية في العام 1917 قد طرحت نفسها بديلا عن الليبرالية الغربية، كسبيل للتحديث والتقدم، فشكلت جاذبا للكثير من النخب في العالم الثالث والتي وجدت فيها بديلا عن الليبرالية الغربية، التي استثنت بلادهم من نعمة التقدم، وصنفت مجتمعاتهم كمجتمعات متخلفة بنيويا وغير قابلة للتقدم.

 

تحولات الخمسينات والستينات

 

شهد النصف الأول من القرن العشرين محاولات من الليبراليين العرب لطرح فكرة التطور والتقدم على مجتمعاتهم، إلا أن آمالهم اصطدمت بالطموحات الاستعمارية لكل من فرنسا وبريطانيا. لكن هاتين القوتين تعرضتا لنكسة قوية خلال الحرب العالمية الثانية التي شهدت صعود نجم قوتين عاميتين هما الولايات المتحدة الأميركية من جهة والإتحاد السوفياتي من جهة أخرى. ولقد استفادت قوى التحرر في العالم الثالث من صعود هاتين القوتين لتتحرر من هيمنة قوى الاستعمار القديم وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا. لذلك فلقد شهدت مرحلة الخمسينات والستينات تحرر معظم بلدان آسيا وأفريقيا من الاستعمار الأوروبي.

لكن مرحلة التنافس بين السوفيات والأميركيين التي احتدمت خلال عهد خروتشوف حتى العام 1964، والتي أتاحت لقوى التحرر العالمي أن تستفيد من هامش واسع لتعزيز وضعها في مقابل القوى الامبريالية، كانت ستنحسر لاحقا ليحل محلها مرحلة الانفراج الدولي بعد العام 1965 بين القوتين العظميين. فلقد شكلت أزمة الصواريخ الكوبية صدمة للعالم أجمع، اذ أنها كانت قد وضعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي على حافة حرب نووية كان يمكن لها لو حصلت أن تدمر العالم. وقد أدت هذه الأزمة الى انقلاب في الولايات المتحدة تمثل في اغتيال الرئيس جون كينيدي في وضح النهار في شوارع دالاس، ما مهد لصعود اليمين الأميركي الذي اصطلح على تسميته بالمحافظين الجدد وسيطرتهم على مقدرات الدولة منذ ذلك الحين. في المقابل فلقد أدت الأزمة إلى ردة فعل الجهاز البيروقراطي والعسكري في الاتحاد السوفياتي ضد ما اعتبروه المغامرات غير المحسوبة لخروتشيف فقاموا بالانقلاب عليه في العام 1964 واستبداله بليونيد بريجنيف الذي قرر العودة الى مقررات اتفاق يالطا الذي وقع في نهاية الحرب العالمية الثانية والذي وزع النفوذ بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة على أن يقتصر نفوذ الأول على اوروبا الشرقية.

أدى الانقلاب على خروتشيف ونزوع القيادة السوفياتية على الانكفاء خلف الحدود التي رسمها اتفاق يالطا في العام 1945 الى ترك الساحة مفتوحة أمام هجمة أميركية في مختلف أنحاء العالم. فلقد دعمت واشنطن سلسلة انقلابات ضد الانظمة الوطنية المناوئة لها في اسيا وافريقيا واميركا اللاتينية، فكان الانقلاب على أحمد بن بلة في الجزائر في العام 1965، وعلى أحمد سوكارنو في اندونيسيا في العام 1966، وعلى سيكوتوري وموديبوكيتا ونيكروما والعشرات غيرهم من زعماء حركة التحرر في العالم الثالث. ولقد حاول الأميركيون دعم انقلاب ضد جمال عبد الناصر في مصر في العام 1965 بقيادة الاخوان المسلمين، إلا أن هذا الانقلاب لم ينجح، فاستعاض عنه الأميركيون بدعم ضربة اسرائيلية لمصر في حزيران من العام 1967 شكلت ضربة كبيرة للمشروع القومي العربي الذي كانت القاهرة تشكل قاعدته الاساسية.

ولقد تبع هزيمة مصر في العام 1967، والتي شكلت ضربة قاسية لحركة التحرر العربية والعالمية، اغتيال ارنيستو تشي غيفارا على يد الاستخبارات المركزية الاميركية بعد أسره في بوليفيا في تشرين أول 1967. وقد شكل هذا الاغتيال ضربة قاسية أخرى لحركة التحرر العالمية التي بدأت تنكفىء بعد ذلك تاركة المجال أمام تمدد النفوذ الأميركي على كافة الصعد.

 

اليسار … الليبرالي !!!

أدى انحسار حركة التحرر العالمية الى ترك الساحة مفتوحة لصعود تيارات يسارية، “ديمقراطية”، شعارها الأساسي، الاشتراكية ذات “الوجه الانساني”، والاشتراكية “اللاستالينية”. وتعود جذور هكذا يسار الى الخمسينات من القرن الماضي حين قامت دوائر القرار في الولايات المتحدة الأميركية بخلق تيارات فكرية ليبرالية داخل التيارات اليسارية والقومية والإسلامية، فأصبح هنالك يسار ليبرالي وقومية ليبرالية واسلام ليبرالي، تطبيقا لمبدأ محاربة النار بالنار. وقد جاء ذلك بناء لتوجيهات السفير الأميركي في الاتحاد السوفياتي  خلال الحرب العالمية الثانية جورج كينان، والذي كان قد كتب تقريرا مطولا بعد أيام على نهاية الحرب يحذر فيها من الخطر الذي يمثله الاتحاد السوفياتي على العالم الغربي، ويعتبر فيه أن الصراع مع موسكو يجب أن يكون صراعا شاملا، ليتضمن المستويات السياسية والايديولوجية والاقتصادية والعسكرية وحتى الفنية والأدبية. وقد فصلت فرانسيس ستونور ساونديرز هذا الأمر في كتابها الشهير، الحرب الباردة الثقافية.

بناء على ذلك، ومع ادانة الاشتراكية السوفياتية نتيجة الهجوم الشهير الذي شنه نيكيتا خروتشيف على ستالين في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي في العام 1957، ونتيجة الجمود البيروقراطي الذي وقع فيه الاتحاد السوفياتي في عهد بريجنيف، والأزمة التشيكوسلوفاكية في العام 1968، انحسرت التيارات الاشتراكية التقليدية مفسحة في المجال أمام تيارات يسارية ليبرالية. وقد استفادت الولايات المتحدة من تواجد العديد من المفكرين الماركسيين السابقين الذين لجأوا اليها قبل وخلال الحرب العالمية الثانية لتشكل نسختها “اليسارية”، كما سعت لتدعيم ماركسيين فرنسيين ليشكلوا بديلا عن الماركسية السوفياتية التي بدأ هؤلاء يصفونها بأنها مدرسة “ستالينية”. وما ساعد على ذلك هو الجمود الذي وقعت فيه هذه المدرسة منذ الحرب العالمية الثانية. من هنا، لم تعد مقررات الحزب الشيوعي السوفياتي هي التي توجه عمل الاحزاب الاشتراكية حول العالم، بل بات ماركسيون أميركيون مما يسمى بمدرسة فرانكفورت، أو ماركسيون فرنسيون مثل ميشال فوكو وألتوسير هم الذين يشكلون المرجعية الفكرية لليسار الليبرالي.

وبعد عام على اغتيال غيفارا، انطلق اليسار الليبرالي بثورته. وبدل أن تكون أدغال بوليفيا ميدانه، كان الميدان شوارع باريس، وبدل أن يكون غيفارا هو الرمز، فإن الرمز سيكون الفيلسوف الشاب “الحليوة” برنار هنري ليفي، وبدل أن يكون من يطاح به ديكتاتور مثل باتيستا، الذي كان مدعوما من الولايات المتحدة الأميركية، فإن من أطيح به كان رجل تاريخي بوزن شارل ديغول، المعادي للولايات المتحدة الأميركية. وعوض أن تكون القضايا المطروحة هي حق العمل والطبابة والتقاعد والتعليم وصراع الطبقات التي كانت تنادي بها الماركسية منذ القرن التاسع عشر، كان التركيز على ديمقراطية الدولة والحرية الشخصية والتمرد على القيم التقليدية الاجتماعية والثقافية.

 

بورجوازيو العالم الثالث … الاشتراكيون؟!

كان لعدوى اليسار الليبرالي أن تنتقل الى دول العالم الثالث وأن تجتذب أبناء الطبقة الوسطى العليا التي لم تكن لتلقى ترحيبا من قبل الليبراليين الغربيين. لذلك فلقد كان الخطاب الاشتراكي هو الذي يجعل من “مسلم شيعي” من الجنوب، مرحبا به في فرنسا، من قبل اليسار الفرنسي. لكن هوى ابناء هذه الطبقة الليبرالي جعلهم ينجذبون الى اليسار الليبرالي لا الى اليسار السوفياتي. وقد كان هذا ليساعدهم ايضا على تمييز انفسهم عن رفاقهم الفقراء الوافدين من الارياف والمنتمين الى طبقات اجتماعية دنيا. فظهرت احزاب يسارية فيها طبقة من القيادات، ذات الهوى الفرنكوفوني، في مقابل جمهور من الفقراء وابناء الطبقات الدنيا. وبات أبناء الطبقة الأولى يتوجهون الى باريس ومن بعدها لندن وحتى الولايات المتحدة لمتابعة التحصيل العلمي الجامعي، فيما أبناء الفقراء باتوا يتوجهون إلى الدول الاشتراكية السابقة لتحصيل علمهم وتحسين اوضاعهم الاجتماعية. وبات معيار الارتقاء الاجتماعي أن ينهي احدهم تعليمه في روسيا أو بلغاريا أو بولندة أو يوغوسلافيا أو كوبا، ومن بعد ذلك أن يقوم بدورات اختصاص في باريس، ويدعي أنه خريج جامعات فرنسا.

ومع نهاية الحرب الباردة وانهيار كتلة الدول الاشتراكية، عاد الفقراء وابناء الطبقات الدنيا في معظمهم الى بيئات منشئهم، فيما انتقل ابناء الطبقات الوسطى العليا الى خدمة البورجوازيات الحاكمة في بلادهم. فإذا بيساريي الأمس في العراق هم أنفسهم مبررو الغزو الأميركي لبلادهم في العام 2003، واذا بيساريي الأمس في سورية، هم مبررو الالتحاق بالاخوان المسلمين والسلفيات الاخرى بدعوى اسقاط النظام، وإذا بيساريي الأمس في لبنان، هم مبررو السياسات الليبرالية المغالية بتوحشها في حق الفقراء في عهد الطائف، وإذا بيساريي مصر السابقين هم مستشارو سياسات اللبرلة والانفتاح في مصر السادات وما بعد السادات. وحتى يبرر هؤلاء اليساريون الليبراليون مواقفهم، فإنهم كانوا أول من استهزأ من التجربة الاشتراكية للاتحاد السوفياتي، وباتوا يتذرعون بأن كل شيىء قد سقط. ولأن كل شيىء لم يسقط فعلا، خصوصا أن فيدل كاسترو وكوبا صمدتا وشكلتا شعلة لشعوب نهجت نفس طريق التحدي للهيمنة الاميركية والليبرالية كفنزويلا وجزئيا ايران وروسيا وغيرها، فلقد انصب جام غضب هؤلاء على البلدان الانفة الذكر فشنوا حملات استهزاء وشتائم عليهم وباتوا رأس الحربة في الحرب ضدهم. وعلى رأس هؤلاء جميعا، ظهر بطلهم برنار هنري ليفي، ودعوات الحرية والديمقراطية والفردية، وما سببته من مآس في العديد من اقصاع العالم وخصوصا في العالم العربي.

 

خلاصة

نعيش اليوم في عصر اليسار الليبرالي والذي هو في حقيقته ليبرالية ملبسة بلبوس اليسار. فهذا اليسار الليبرالي لا يرفع شعار حق العمل أو حق الطبابة أو حق التعليم أو حق الضمانات الاجتماعية، كما أنه لا يرفع حق تغليب الصالح العام على المصالح الفردية ولا يؤمن بالملكية العامة على حساب الملكية الفردية. هو يسار يطالب بتحسين الاطر المؤسساتية للدولة التي هي في حقيقتها الدولة البورجوازية. لذلك حتى يكون هناك يسار حقيقي، يجب أن تتم المطالبة بحق الطبابة والتعليم وحق العمل والسكن والتقاعد كحقوق اساسية مكتسبة، وأن تغلب المصلحة العامة على حساب الملكية الفردية، وأن يحل الاقتصاد المخطط على حساب اقتصاد السوق. هذا هو اليسار الحقيقي، يسار ارنستو تشي غيفارا، لا يسار برنار هنري ليفي.

عن جورنال