الرئيسية » اراء ودراسات » زعامتا اميركا والصين .. وكورونا

زعامتا اميركا والصين .. وكورونا

كتب الدكتور طارق عبود :

لم يكن هناك من شكّ أنّ ثمة حربًا غير معلنة تدور رحاها بين أكبر اقتصادين في العالم، الولايات المتحدة والصين. هذه الحرب التي بدأت نذرها بالظهور قبل وصول دونالد ترامب إلى البيت الابيض، وبدأت تطل برأسها في عهد الرئيس باراك أوباما. ولكنها وصلت إلى درجة متقدمة، بعدما كشّرت واشنطن عن أنيابها، وخلعت قفازاتها عندما تعلق الأمر بشركة هاواوي، التي شكّلت الواجهة لحرب الجيل الخامس الذي تعتزم الصين طرحه في القادم من السنين. ولم يكن هناك من شك عند أحد أنّ نفوذ الولايات المتحدة في تراجع في العقد الأخير أيضًا. وكانت القشّة التي قصمت ظهر البعير هي وصول دونالد ترامب إلى واشنطن، والترويج لرؤيته التي تقوم على الارتداد إلى الداخل، والعزوف عن مهمة الشرطي الذي يسيّر أمور العالم، والشروع تطبيق نظرية “أميركا أولًا”. في هذا الوقت كانت فيه الصين تتقدّم عبر مشروعها الضخم “الحزام والطريق” الذي رصدت له أكثر من ألف ومئتي مليار دولار لإنشاء طرق ومواصلات بريّة. ولكن الصينيين أيضًا، لم يكشفوا مرة، أو يلمّحوا أو يدّعوا أنهم يريدون وراثة الامبراطورية الأميركية، أو منافستها في قيادة العالم، بل كانت رؤيتهم – كما قدموها- مبنيّة على التشارك مع الدول، وليس الهمينة والسيطرة عبر القوة العسكرية.

وفي الوقت نفسه، ولكي نكون واقعيين، فإنّ هذا التغيير كان يحتاج إلى سنوات للتطبيق، إذا سمحت فيه الولايات المتحدة. ولكن حدثًا كبيرًا وهائلًا حضر، وفرض تسريع المشهد. وكان اسمه “كورونا” كوفيد 19. لذا لم يترك هذا الفايروس مجالًا حتى للصين في المراوغة، والتهرب من تحمّل المسؤولية، فتقدمت الدولة الآسيوية، وتصدّت للمواجهة، وأثبتت جدارتها كدولة حديثة، بالفعل، وليس بالخطابة والعراضات الفارغة. ولمّا انقشع بعض غبار الأزمة، تبيّن أنّ اختلافًا كبيرًا حدث في مقاربة البلدان لهذا الامتحان الذي فُرض على الدول فجأة، فظهرت التباينات، وبانت العيوب، وخضعت الدول إلى الاختبار الأقسى بعد الحرب العالمية الثانية.

العالم يتغيّر

يقول ارسطو في كتابه” سيكولوجيا الجماهير”إنّ القادة السياسيين يكتسبون شعبيتهم من خلال قدراتهم الخطابية، وليس من التزامهم بقواعد المنطق، وقد لاحظ الفيلسوف غوستاف لوبون، بعد دراسته الثورة الفرنسية، أنّ القائد الذي يلجأ إلى المنطق في خطابه الجماهيري، يضحّي بشعبيته، ما دفع كبار السياسيين في الغرب في القرن العشرين إلى الاستفادة من كتاب أرسطو، عبر إلهام الجماهير بالخطب الحماسية، وإثارة عواطفها.

أعتقد اليوم- وبالإذن من أرسطو- فإنّ هذه النظرية كانت صالحة عبر كل تلك القرون، إلى ما قبل بضعة شهور،أي إلى ما قبل ظهور الـ”كورونا”، الذي طرح نظرياتٍ جديدة، على العالم أن يقبلها، ويدرسها، ويتمعن فيها.

فالشعبوية في الخطابات وتحشيد الجماهير، ورمي التهم على الآخرين، لم تعد مناسبة لزمن الكورونا، لأنّ الأحداث تتسارع، والموت يطرق الأبواب، والجماهير تريد حلولًا ناجعة، لا خطاباتٍ برّاقة. وهنا تجلى الفارق بين الصين والغرب.

الشواهد التي تحضرني بالعشرات، ولكن سنورد الأكثر أهمية فيها، بما يخدم الرؤية التي نقدّمها. فلنبدأ من الرئيس الأميركي، الذي جلس الأسبوع الماضي على المكتب البيضاوي المشغول من خشب البلوط الإنكليزي الذي صنعته الملكة فيكتوريا من أخشاب السفينة أتش أم أس ريزيليوت للرئيس روثفورد.ب.هايز في العام 1880، منذ مئة وأربعين عامًا. وتبيّن من خلال مقاربة ترامب للأزمة الكبرى، أنه لم يكن بمستوى الذين سبقوا، أو من قماشة الرؤساء الذين خاطبوا الشعب الأميركي في الأزمات الوطنية الكبرى، وفي الحروب.بل بدا ترامب في كلامه متعثّرًا وأنانيًا وغير مقنع، وهو يضع فوزه في الانتخابات المقبلة في تشرين الثاني المقبل في سلّم أولوياته، حتى لو ضحى بالشعب الأميركي . وهو الذي قال في 28 فبراير/شباط، بخفّة واضحة، إنّ الفيروس قد “يختفي” مثل “المعجزة”، وإنّ “الطقس الدافئ سيقتله” وحسب ترامب الفايروس “أجنبيًا”، وليس وطنيًا. وتباهى أنّ إدارته بذلت الجهد الأكبر لمواجهة أخطر فيروس أجنبي في التاريخ الحديث.. بعدما تجاهل هذا الخطر في أكثر من سبع إطلالات على الجمهور في الأيام القليلة السابقة.إضافة إلى تهكّمه الدائم من الخوف المسيطر على أميركا. ما حدا به إلى القول: لو كان الأمر بيد الأطباء، لأغلقوا الكوكب كله. وأضاف: نسجل الآف الحالات من القتلى في حوادث السير يوميًا. هل يعني ذلك أنّ علينا إيقاف السيارات أيضًا؟

أما رئيس وزراء الامبراطورية البريطانية السابقة بوريس جونسون، فبشّر مواطنيه بالموت القادم. وطلب منم أن يودّعوا أحبتهم، وروّج لـ”مناعة القطيع” التي تدعو خفية، إلى التخلص من المتقدمين في العمر، لصالح الشباب في القارة العجوز.

إيطاليا لم تكن أفضل حالًا، فبدأت روما تفقد السيطرة على الوباء، وأعداد الوفيات يوميًا مهولة. وفي إسبانيا الوضع بغاية السوء، وفي فرنسا أيضًا. وبشّرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الألمان أنّ نسبة الإصابات بينهم ستقارب السبعين في المئة. لقد كشفت الأزمة عن مشكلات بنيوية عميقة على الصعد الصحية والاجتماعية والنفسية في هذه الدول، وفي غيرها من دول الشمال التي كانت تمثّل الأنموذج في التقدم والعلم والحضارة..

مفكّرون غربيّون: العالم يتغيّر، والتاريخ سيكتبه المنتصرون على كورونا

لقد مثّلت الولايات المتحدة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية الأنموذج والقدوة في الغرب، وهي التي تبوّأت مركز القيادة في حلف شمال الأطلسي لما يقرب قرنًا من الزمن، هي اليوم في هذا الظرف العصيب، لم تُقدِّم شحنةً طبيّةً واحدةً لمُساعدة الحُلفاء الغارقين في المرض والموت، بل أدارت ظهرها لهم، وعزَلت نفسها كُلِّيًّا، وأوقفت كُل رحَلات الطيران من أوروبا وإليها. بل إنها بدت غير قادرة على مواكبة مواطنيها.

عن التحولات الدولية الكبيرة والمتسارعة في عالم اليوم، سنستشهد بآراء علماء غربيين، لا ينتمون إلى الشرق..فترى مجلة فورين بوليسي أن جائحة كورونا، شأنها شأن أحداث مفصلية في التاريخ، كسقوط جدار برلين، أو انهيار بنك ليمان براذرز، هي حدث عالمي مدمر يصعب تخيّل عواقبه على المدى البعيد. وتوقّع ستيفن والت أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد الأميركية أن يسرّع انتشار الوباء وتيرة تحوّل السلطة والنفوذ من الغرب إلى الشرق، كما أنّ تعاطي الصين مع الوباء كان جيدًا، بالرغم من تعثّرها في البداية عند اكتشاف الفيروس. وقال إن الاستجابة البطيئة والمتخبطة في أوروبا وأميركا من الأشياء التي شوّهت الهالة التي طالما أحاطت بالتعامل الغربي.

ورأى بن نيبليت، المدير التنفيذي للمعهد الملكي للشؤون الدولية في بريطانيا، أن جائحة فيروس كورونا قد تكون القشة التي قصمت ظهر بعير العولمة الاقتصادية. ويُرجع نيبليت ذلك إلى عوالم قبل ظهور الوباء، من ضمنها القلق الأميركي من تنامي القوة الاقتصادية والعسكرية للصين، والذي أدّى إلى إجماع سياسي على فصل الصين عن التكنولوجيا العالية التي تمتلكها الولايات المتحدة، ومحاولة حمل حلفاء أميركا على أن يحذو حذوها.

وإنّ عالم ما بعد فيروس كورونا لن يشهد استمرار زعامة الولايات المتحدة للعالم. وأن واشنطن قد أخفقت في اختبار القيادة، وأن العالم قد بات أسوأ حالًا نتيجة لذلك الفشل. هذا ما قالته نائبة المدير العام للمعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية، كوري شاك في توقعاتها التي نشرتها فورين بوليسي، وأضافت إنّ العالم لن ينظر إلى الولايات المتحدة بعد الآن كقائد دولي، نظرًا إلى سلوك الإدارة الأميركية الذي يقوم على تغليب المصالح الذاتية الضيقة، وافتقار تلك الإدارة الفادح للكفاءة .وتوقع جون آلن، مدير معهد بروكينغز، أن المنتصرين في المعركة ضد فيروس كورونا القاتل، هم من سيتسنّى لهم كتابة التاريخ، كما هي الحال عبر تاريخ البشرية. 

الصين، قصة نجاح سترويها الأجيال

تواكب مجلة فورين أفيرز الأميركية التبدّل الحاصل في مشهد القيادة العالمي، فتقول: إنّ الصين تحركت بسرعة لتستفيد من الثغرات التي صنعتها الأخطاء الأميركية، وتضع نفسها في قيادة العالم لمواجهة كورونا. وأشار الكاتبان فيها كورت م. كامبل وروش دوشي إلى أن النظم العالمية تميل إلى التغيّر التدريجي بداية الأمر، ثم تتغيّر بالكامل في لحظة واحدة. ففي العام 1956 كشف تدخل فاشل في قناة السويس اضمحلال بريطانيا العظمى، وسجّل نهاية نفوذ المملكة المتحدة كقوة عالمي، .وإنّ صنَاع القرار في أميركا يجب أن يدركوا أنّ واشنطن إذا لم ترتقِ إلى مستوى التحدي الراهن، فإنّ وباء كورونا سيسجل “لحظة سويس أخرى”. وأنّ الصين تعمل حاليًا على تحويل هذا النجاح إلى قصة تحكيها للعالم بأجمعه، وتقنعه بأنها لاعب رئيسي في هزيمة كورونا. ويدرك الرئيس الصيني تشي جي بينغ أنّ توفير السلع العالمية، يمكن أن يلمّع قيادة الصين الصاعدة للعالم، فهو قد أمضى سنوات عديدة في دفع جهاز السياسة الخارجية الصيني إلى التفكير بجدّية أكبر في قيادة إصلاحات “الحوكمة العالمية”. وقد وفّر كورونا فرصة لوضع هذه النظرية موضع التنفيذ.

ولم يخرج الكاتب المعروف باتريك كوكبيرن في مقالة في صحيفة “الأدبندنت” عن الطريق: فقد حسبَ أنّ العالم يتغيّر الآن بطريقة لم يكن بوسع أي شخص أن يتنبأ بها، لأنّ الوباء في تأثيره السياسي يشبه الحرب تمامًا. يتم تحويل المشهد السياسي في كل مكان من خلال هذه النسخة الحديثة من الطاعون العظيم. ومن خلال الإخفاق في الرد بشكل متماسك على التهديد، وإلقاء اللوم على الأجانب لانتشاره؛ فإنّ ترامب يعزل الولايات المتحدة بشكل واضح، ويقوّض الدور المهيمن الذي أدّته منذ الحرب العالمية الثانية. ويختم: حتى لو تم انتخاب جو بايدن رئيسًا جديدًا ، فستفقد الولايات المتحدة أسبقيتها بلا منازع في عالم ما بعد الوباء”.ويختتم بيل آكرمان المشهد بالقول: إنّ “الرخاء الأميركي كما عهدناه سيغادرنا للأبد.”

فهل يكون الوباء قد سرّع في ولادة الجنين الجديد الذي كان ينمو في رحم المشهد العالمي، وفرضت الأحداث المتسارعة الولادة القيصرية المستعجلة لنظام عالمي يختلف عمّا اعتاده العالم. تصدّرت فيه واشنطن المشهد في الكرة الأرضية كقطب وحيد من دون منازع بعد سقوط جدار برلين، وانهيار المنظومة الاشتراكية؟ أم أنّ خصوم واشنطن يتمنّون ذلك؟ وأنّ الولايات المتحدة لن تسمح بذلك حتى لو كان االخراب هو الخيار الوحيد؟ ستكون الشهور القادمة حاسمة في بلورة المشهد العالمي الجديد.

*أكاديمي وباحث/لبنان

اقرأ أيضا

عن جورنال