فيصل جلول
التأمت في جامعة السوربون في العاصمة الفرنسية الاسبوع الماضي، حلقة ابحاث حول سياسة فرنسا الخارجية نظمتها “اكاديمية باريس للجيوبولتيك”، وشارك فيها باحثون من جنسيات مختلفة. تطرق جانب من ابحاث هذه الندوة الى سياسة فرنسا العربية. وتمحور هذا الجانب حول سؤال : هل مازال لفرنسا سياسة عربية مستقلة عن الولايات المتحدة الاميركية؟ ولعل السؤال يستحق ان يحال على سؤال اخر: هل كان لفرنسا سياسة عربية يوما ما حتى نتحدث اليوم عن طبيعة السياسة الخارجية الراهنة تجاه العالم العربي ؟
الجواب عن السؤال الاخير ليس صعبا، فقد كان لفرنسا سياسة خارجية مستقلة الى حد معين خلال الحرب الباردة بين القطبين الاميركي والسوفييتي، مع التحاق كامل بالولايات المتحدة الاميركية عندما يتعلق الامر باستقطاب حاد بين الطرفين، ونلاحظ ذلك من خلال وقوف الجنرال ديغول مع واشنطن في قضية خليج الخنازير وازمة الصواريخ الكوبية عام 1961 من القرن الماضي. وكان لباريس سياسة عربية خاصة، نجد اثرها في الابتعاد عن الحلف الاسرائيلي الاميركي في حرب حزيران/يونيو عام 1967 ، وفرض حظر لبيع الاسلحة على الدولة الصهيونية، باعتبارها معتدية ومحتلة لاراض عربية في الحرب المذكورة.
لا نحتاج الى امثلة اكثر فهامش المناورة الفرنسي في السياسة الخارجية كان واسعا ومعروفا، ولعل الولايات المتحدة الاميركية تعرفه اكثر من غيرها لاسيما في عهد الجنرال ديغول الذي طالب بسحب القواعد العسكرية الاميركية من فرنسا ولم ينخرط في الحلف الاطلسي انخراطا كاملا محتفظا لبلاده باستقلالية القرار وتدعيمه بسلاح نووي خاص كي لا تحتاج فرنسا الى حماية خارجية شان اليابان والمانيا.
بعد انهيار الحرب الباردة ضاق هامش الاستقلال في سياسة فرنسا الخارجية تدريجيا، الى ان وصلنا اليوم الى اصطفاف فرنسي بلا تحفظ تحت سقف سياسة الولايات المتحدة الاميركية.
اخر علامات الاستقلال في السياسة الخارجية سجلته باريس عشية حرب الخليج الثالثة عام 2003 عندما شكل جاك شيراك، حلفا ثلاثيا مع روسيا والمانيا، مناهضا للحرب وهدد باستخدام الفيتو في مجلس الامن لقطع الطريق على الرئيس السابق جورج بوش الراغب بالحصول على شرعية دولية لحربه التي كان يعدها منذ شهور لقلب نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين. اثار هذا الموقف الاعتراضي ردود فعل غاضبة ضد فرنسا في الولايات المتحدة الاميركية ، وصلت في بعض الحالات الى حد مقاطعة المأكولات الفرنسية والامتناع عن شراء النبيذ الفرنسي.. الخ. وعلى الرغم من قبول باريس من بعد بالامر الواقع ومساعدة المحتل على تشريع احتلاله في قرارات اممية، الا ان واشنطن ما كانت راغبة في طي الصفحة من دون التلويح بالعصا، الى حد ان كونداليسا رايس وزيرة الخارجية الأميركية، كانت تهدد قائلة “سنسامح روسيا ونتجاهل المانيا ونعاقب فرنسا” على موقفها من الحرب. ولن تطوى الصفحة الا بعد قفزة فرنسية من اقصى المواجهة مع واشنطن الى اقصى التعاون معها في اصدار القرار 1559 الذي يطالب سوريا بالانسحاب من لبنان وقد ادى التعاون بين الطرفين الى خلق بؤرة صراع في بلاد الشام لم تغلق بعد وقد لا تغلق قريبا.
كانت بلاد الشام فضاء تتحرك فيه الدبلوماسية الفرنسية بطريقة ميسرة، فصار بعد القرار 1559 موقعا لنفوذ اميركي تقرر فيه واشنطن ما تريد، واحيانا من دون استشارة الحليف الفرنسي الذي خسر ايضا نفوذه في العراق وضعف تأثيره الفلسطيني بعد رحيل ياسر عرفات رئيس السلطة الفلسطينية، واخذ يراهن على الاكراد في العراق وعلى حسن ظن الاميركيين وبعض الدول الخليجية الباحثة جزئيا عن اسواق سلاح بديلة لا تنطوي على شروط معقدة.
عندما تولى نيكولا ساركوزي الرئاسة، لم يتردد في استكمال المصالحة مع واشنطن، التي ادت الى عودة فرنسية غير مشروطة الى الحلف الاطلسي، ومساعدة الاميركيين في افغانستان والعمل تحت سقف السياسة الخارجية الاميركية في مجلس الامن وسائر المؤسسات الدولية. وسنلاحظ ذلك بوضوح في فترة “الربيع العربي”، فقد عرضت ميشال اليو ماري وزيرة الخارجية الفرنسية في عهد ساركوزي تزويد الشرطة التونسية بادوات قمع فعالة للمتظاهرين، قبل ثلاثة ايام من سقوط الرئيس زين العابدين بن علي المعروف بولائه المطلق للاميركيين والفرنسيين الذين تمسكوا به ضد ارادة شعبه حتى اللحظة الاخيرة.
وانتظر الان جوبيه وزير خارجية ساركوزي بعد اليو ماري، انتظر صدور تصريح علني عن اوباما يدعو فيه الى اسقاط حسني مبارك في مصر، حتى يذهب الى ساحة التحرير ويحاور المعتصمين في القاهرة، وقد راينا لوران فابيوس وزير الخارجية التالي يزايد على الاميركيين في تصريحات صادمة في فئويتها وخفتها وغير معتادة في سياسة فرنسا الخارجية.
والواضح ان طي صفحة السياسة الخارجية الفرنسية “المستقلة” نسبيا تجاه العالم العربي اقتضى تفكيك شبكة المستعربين في وزارة الخارجية المؤلفة من كادرات تمتلك خبرة ومعرفة دقيقة باللغة العربية وبالعالم العربي وتوزيع افرادها على سفارات في افريقيا واستراليا وكندا، بحسب سفير سابق، ليحل محلهم تكنوقراط اي شخصيات احترفت صياغة تقارير تقنية ليس من الصعب ان نقرأ فيها اخطاء اولية فادحة بحسب المصدر نفسه.
نعم لقد طوت فرنسا صفحة سياستها العربية، لكن المؤلم ان العالم العربي لم يأخذ علما بهذا الامر بعد.