الرئيسية » العالم والخليج » “ملاذكرد اقتصادية” : ترنح الليرة وامتحان اردوغان

“ملاذكرد اقتصادية” : ترنح الليرة وامتحان اردوغان

 

لم تكن المرة الاولى التي تتراجع فيها قيمة الليرة التركية، لكنها المرة الاكثر قساوة خلال العقدين الماضيين، حيث فقدت اكثر من 40 في المئة من قيمتها خلال شهور قليلة. منذ المحاولة الانقلابية قبل عامين، والاقتصاد التركي يترنح ما بين عوامل انهيار وعوامل قوة. فما هي حقائق المشهد التركي والتحدي الاخطر الذي يواجه رجب طيب اردوغان؟

 

++++++++++++++++++++++++++++++++++++

 

بنى اردوغان الكثير من “مجده” السياسي منذ صعوده الى السلطة في العام 2003، وصولا الى انتخابه كاول رئيس للاتراك بالاقتراع الشعبي المباشر في حزيران 2018، على النهوض الاقتصادي. ولعل اهم انجازاته انه، تمكن من مضاعفة متوسط دخل الفرد من ثلاثة الاف دولار (مسجل في العام 2001)، الى 11 الف دولار حاليا، مع تعهدات حكومية بزيادته الى 25 الف دولار بحلول العام 2023.

ولطالما اعتبر كثيرون ان اردوغان لم يحقق في ملف السياسة الخارجية ما حققه في الملف الاقتصادي، بالنظر الى العديد من الازمات الاقليمية والسياسية التي تورطت انقرة فيها وجلبت عليها انتقادات. السلاح الامضى الذي سمح لاردوغان بالاستمرار في الحكم، لا بل باعادة صياغة النظام السياسي للحكم نحو الصيغة الرئاسية، كان ورقة الاقتصاد.

وربما لهذا تحديدا، يتصرف اردوغان بهلع واضح لمواجهة ما يصفها بانها “حرب اقتصادية” تشن على بلاده. منذ الانقلاب الفاشل قبل عامين، بدات الليرة التركية تهتز، ثم استقرت قليلا. ثم منذ ما قبل الانتخابات المبكرة في 24 حزيران 2018، راحت تتدهور مجددا، لكن ذروة السقوط لها، جاءت مع تسلم سلطاته رسميا كاول رئيس منتخب في 9 تموز 2018.

“انها الحرب”، اعلن اردوغان اكثر من مرة، كمن يلوح بسيف القتال، ليحشد الجيوش خلفه. ان انهيار الليرة بنسبة 40 من قيمتها منذ بداية العام الحالي، كان مفجعا، لدرجة ان اردوغان، المتسلح بصلاحيات استثنائية كرئيس للجمهورية، ناشد الاتراك مرارا للخروج معه الى الحرب، الى بيع مكتنزاتهم من الذهب والجواهر والدولار، لشراء الليرة.

ذهب ابعد من ذلك. في 26 اب 2018، في الذكرى السنوية لمعركة ملاذكرد مع البيزنطيين في العام 1071، وانتصار الدولة السلجوقية، وهو انتصار مهد لاحقا لقيام الدولة العثمانية وانتزاع القسطنطينية (اسطنبول لاحقا)، خرج اردوغان لشحذ همم الاتراك، تمام كما فعل السلطان السلجوقي الب ارسلان قبل معركته التاريخية، قبل اقل من الف عام.

كتب كثيرون عن تعثر احلام اردوغان الاقليمية تباعا. لكن ورقتي الاستقرار السياسي والنجاح الاقتصادي، وفرتا الحماية الاهم لاردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم منذ اكثر من 15 سنة. ولهذا، فان محاولة الانقلاب الفاشلة في العام 2016، ثم ضرب الليرة في الصميم، هزت بعمق اطمئنان الرئيس في قصره المشيد وفق العمارة السلجوقية.

تعنون مجلة “فورين بوليسي” الاميركية تقريرا لها “الحرب الاقتصادية الخاسرة لتركيا”. ان كل من يراقب الليرة التركية التي راحت تتراجع من ليرتين مقابل الدولار حتى العام 2014، ثم الى ثلاث ليرات مع وقوع محاولة الانقلاب في العام 2016، ثم الى اربع ليرات وصولا الى ست ليرات خلال الاسابيع الماضية، يدرك ان الخطر، اكبر من مجرد ازمة عابرة.

صحيح ان كثيرين يعتبرون ان المسالة وصلت فعليا الى حد الكارثة، لكنها لم تصبح بلا رجعة حتى الان على الرغم من ان ترنح الليرة بهذا الشكل، يهدد بتبديد الودائع في البنوك، وقد يفجر موجة هائلة من الافلاسات المدمرة.

تحاول صحيفة “الغارديان” البريطانية اختصار القصة بالتركيز على مشهد لافت في اسطنبول. ناطحات السحاب التي ارتفعت على عجل خلال السنوات القليلة الماضية، جعلت بعض ضواحي المدينة، تبدو كانها دبي او هونغ كونغ.. وهنا، ربما، يكمن سر الكارثة الاقتصادية.

ففي التدقيق في المشهد، يتبين ان العديد من ناطحات السحاب هذه، فارغة، او لم تكتمل، او بالكاد مسكونة في بعض شققها. الطفرة العمرانية هذه، والتي تتضمن ايضا العديد من “المولات” والمشاريع العملاقة بما فيها بناء مطار جديد هو الاكبر في العالم، كلها شيدت بأموال مقترضة من البنوك، وبفوائد صغيرة، ما جعل قطاع الاعمار يساهم بنحو 20 في المئة من نمو الناتج الاجمالي المحلي خلال السنوات القليلة الماضية.

وللدلالة على طبيعة ما جرى، فان ناطحة السحاب المسماة “ياقوتة اسطنبول”، احدى اكثر المباني ارتفاعا في اوروبا، عندما استكملت، كانت بتمويل قروض قيمتها 164 مليون ليرة في العام 2013، من بينها 154 مليون ليرة كانت بالدولار الاميركي. القرض الان، مع انهيار الليرة، اصبحت قيمته 539 مليون ليرة تركية.

الارقام الحكومية تشير الى ان 90 في المئة من استثمار الشركات في القطاع العقاري بنهاية العام 2016، جاءت من قروض بالعملة الاجنبية. وهناك نحو 800 الف شقة جديدة لم تباع. هيستيريا الاعمار منذ العام 2001، تسببت الان في العجز المقدر تواضعا بنحو 50 مليار دولار، وربما اكثر، اذ ان استيراد مواد البناء وحدها بالدولار الاميركي، تجاوز حجم الصادرات التركية باشواط. ومن المهم ملاحظة ان تركيا، هي الدولة التاسعة عالميا في استيراد الحديد.

ان الاقتصاد التركي البالغ حجمه 880 مليار دولار، حقق نموا سنويا وصل الى 6.8 في المئة خلال العقد الحالي. وهذه احد ملامح القوة التي يتباهى بها مؤيدو السياسات الحكومية. لكن ذلك لم يوفر حماية كافية لليرة التركية، اذ ما ان اندلع خلاف ديبلوماسي بن انقرة وواشنطن حول القس الاميركي اندرو برونسون، المحتجز بتهمة التورط في المحاولة الانقلابية ضد اردوغان قبل عامين، وتبعها فرض عقوبات اميركية من بينها زيادة الرسوم على واردات الصلب والالمنيوم من تركيا، حتى ترنحت الليرة كأنها بلا اساس.

 

 

مشهد ناطحات السحاب المهجورة، مع انهيار عوائد الاتراك البنكية بالليرة، اثار موجات من الهلع في الاسواق والكثير من الضغط الاضافي على العملة الوطنية. الطفرة العمرانية بلغت ذروتها في عامي 2013 و2014، وظن كثيرون ان ذلك من علامات القوة، وكانت البنوك تقدم تسهيلات مصرفية كبيرة لقطاع الاعمار. ويعتقد ان 69 ناطحة سحاب (اعلى من 100 متر) شيدت في اسطنبول وحدها. المشاريع العملاقة الاخرى كانت تستفيد ايضا من التسهيلات البنكية. المطار الجديد خصصت له قروض بقيمة 5.7 مليار يورو في العام 2015 وكات تعادل وقتها 18 مليار ليرة، واصبحت الان تعادل 40 مليار ليرة.

ان الهوة ما بين 18 مليار ليرة و40 مليار ليرة في مشروع واحد، كبيرة. وقس على ذلك الاف المشاريع التي استندت على قروض بنكية من اجل قيامتها. ليس حدثا عابرا في بلد يحتل اقتصاده المرتبة 14 عالميا، ان تهوي عملته 40 في المئة خلال شهور، حتى وان كان هذا البلد يحتل المرتبة العاشرة عالميا بحجم احتياطه من الذهب (565 طنا).

بمعنى ما، فان الفقاعة التركية هذه، تقول ان الذهب لا يوفر لوحده الحماية لعملتك الوطنية. هذا نذير شؤم للعديد من الدول القريبة والبعيدة. وربما تكون الصين وحدها بين دول العالم التي تتباهى بانخفاض قيمة عملتها امام الدولار الاميركي، ذلك انها تتسلح بسلاح صادراتها الذي لا مثيل له من القوة والهيمنة في العالم.

اما تركيا، فهي ليست الصين. واردوغان يدرك ان التحدي الاقتصادي امامه ليس معركة سهلة. وتشير الارقام خلال النصف الأول من العام 2018-مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي- الى ارتفاع الواردات التركية بنسبة 13.5 في المئة محققة مبلغ 122.9 مليار دولار في مقابل ارتفاع للصادرات بنسبة 6.3% محققة مبلغ 82.2 مليار دولار فقط. اي ان هناك عجزا في الميزان التجاري يبلغ 40.7 في المئة.

لكن مما يعزز نظرية المؤامرة التي يتبناها اردوغان، ان الرئيس الاميركي دونالد ترامب وهو يفرض عقوبات اقتصادية على انقرة، اعلن صراحة عبر “تويتر”: “اصدرت امرا بمضاعفة رسوم الصلب والالومنيوم على تركيا، في وقتٍ تنهار فيه الليرة امام دولارنا القوي جدا”، مشيرا الى ان الضريبة على الالومنيوم سترتفع بـ٢٠ في المئة، بينما سترتفع على الصلب بـ٥٠ في المئة.

اذن ترامب يقولها صراحة بانه يريد النيل من الليرة التركية. وصحيح ان انقرة ردت على مضاعفة الرسوم الجمركية الاميركية، برفع الرسوم على الواردات الاميركية من التبغ والكحول والسيارات، الا ان اردوغان المسكون بطموحات كبرى، وهواجس كثيرة، خصوصا منذ محاولة الانقلاب الفاشلة ضده، يقول ان شعبه لا يخشى من الرصاص والدبابات.. والدولار.

لكن ذلك يعني ان تركيا صارت طرفا في “الحروب التجارية” التي يخوضها ترامب حتى ضد اقرب حلفائه، وهي حالة لا تبدد القلق الذي ينتاب اسواق تركيا، ولا مواطنيها. فالعلاقات بين واشنطن وانقرة متازمة، وتركيا العضو في حلف “الناتو”، يتفاقم التوتر بينها وبين الاميركيين الذين يرفضون تسليم الداعية الاسلامي فتح الله غولين، في حين تنظر واشنطن بريبة كبيرة الى تقارب اردوغان مع الروس والايرانيين، وتصطدم المصالح والاولويات في الحرب السورية، ويتاخر تسليم اسلحة اميركية للاتراك، وتفرض عقوبات اميركية على وزراء اتراك.

ولانها “حرب اقتصادية”، ولانه مسكون كثيرا بالتاريخ العثماني، يجد اردوغان كل الاعذار المشروعة ليتحرك بعيدا عن الهزيمة في “ملاذكرد الليرة” .. نحو المانيا وفرنسا، الرافضتان لحرب جنون الرسوم التجارية التي يخوضها ترامب… نحو روسيا في السياسة والاقتصاد والغاز… ونحو قطر التي وعدت الاقتصاد التركي ب15 مليار دولار من الاستثمارات… والاهم، نحو الاتراك انفسهم، لنصرته في معركة حياة او موت.

 

خليل حرب

 

http://www.general-security.gov.lb/uploads/magazines/61/15.pdf

 

عن خليل حرب

خليل حرب، صحافي لبناني، مدير تحرير في جريدة "السفير" سابقا. يشغل اليوم منصب رئيس تحرير موقع "جورنال".