لو كنت مكان المُغرّدين الذين اعترضوا على منْح لبكي جائزة سينمائية لربما غرّدت بطريقة أخرى غير وضع الشهداء بمواجهة الجائزة. ولربما غرّدت للجميع مُتسائلاً عن نوع الفيلم الذي كان يستحق جائزه عالمية خلال الاحتلال النازي لفرنسا، أهو الذي يتحدّث عن التسوّل في الشوارع أم عن أثر الاحتلال ومقاومته في لحظة تاريخية.. وفي هذه الحال لربما خلصت إلى مطالبة أصحاب الجائزة بمعاملة اللبنانيين بالمثل. لكني مع الأسف الشديد أعرف الجواب مُسبقاً.
دارت في بيروت مؤخراً سجالات متوتّرة حول فيلمي زياد دويري “القضية 23″ و”الصدمة” وذلك لاتهامه بالتطبيع مع الدولة العبرية، وفيلم ستيفن سبيلبرغ “ذي بوست” بسبب إدراج هذا المخرج الصهيوني الهوى في لوائح المقاطعة لإسرائيل، بعد أن تبرّع بمليون دولار لـ “تساحال” خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006. وامتد السجال إلى المخرجة اللبنانية نادين لبكي التي فازت بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان “كان” الـ 71 عن فيلمها “كفرناحوم” .. هذا الفيلم الذي وضعه ناقد “المدن” شفيق طبارة في مكان “بعيد عن السينما الجادة” أي في الموقع الذي يستحقه فنياً هو ومجمل أعمال نادين لبكي، لكن هذا الجانب على أهميته ليس محور هذه المقاربة السريعة.
في حالتي الدويري وسبيلبرغ لا بد من استعادة خاطفة للحجج الاعتراضية التي تم تداولها. فقد طالب طرف لبناني واسع التمثيل والحضور في الحياة اليومية اللبنانية والعربية باحترام قوانين مقاطعة إسرائيل، وحظر الفيلمين المشار إليهما. علماً أن فيلم دويري مُنِعَ في رام الله أيضاً، أي في عاصمة السلطة الفلسطينية التي تنسّق مع إسرائيل يومياً.
لا يلقى منطق المقاطعة بالاً عند قطاع واسع من النخبة اللبنانية التي رضيت بالمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي بوصفها لحظة عابرة، وليس مشروعاً استراتيجياً رادعاً يستدعي ثقافة عداء هي الرد الطبيعي على ثقافة صهيونية وحشية واستصغارية تبثّ تهديدات دورية بإلغاء لبنان من خارطة الشرق الأوسط. ولهذا القطاع من النخبة اللبنانية، خلفية ثقافية وسياسية مستمدة من قِيَم غربية شديدة السطوة، وواسعة الانتشار في لبنان، تصنعها وتعيد تصنيعها رساميل واستثمارات “ديمقراطية” يفخر أصحابها بتقديمها كالمسلّمات الهندسية لا تتحمّل التأويل، هي عندهم حمالة “التقدّم والرقيذ والتنوير “مقابل “التخلف والظلام” عند غيرهم.
تلعب هذه “المسلّمات” دوراً خطيراً في تكريس التبعية بوصفها “حريات وديمقراطية” وفي شيطنة المقاومة باعتبارها لحظة ظرفية كان يجب أن تنتهي مع الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، وألا تستقر في العلاقات الاجتماعية اللبنانية كمحطة تاريخية لها ما قبلها وما بعدها.
ويقع السِجال حول سبيلبرغ ودويري وسط هذا التناقض بين وجهتين، الأولى تنهض على قِيَم التبعية وثقافتها وشروطها السياسية، والثانية تنهض على مشروع تحرّر شامل وندّي لا تابع فيه ولا متبوع. هنا الموقع الصحيح للسِجال وليس في مجال الحريات والإبداع. وللعِلم لا أحد في بلدنا يمنع فيلماً أو عملاً إبداعياً يكرّس ثقافة الحريات. فالسِجالات في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي اللبنانية لا يحدّها حد غير التعامل مع العدو وقوانين المقاطعة، التي تخترق كما لاحظنا من دون أن يقاضى المخترقون.
لا يندرج السِجال حول تكريم فيلم نادين لبكي “كفرناحوم” في مهرجان كان الأخير ضمن مقاطعة إسرائيل. بل يمكن ترجيح إجماع لبناني حول فكرته التي تنتصر للاجئين السوريين وخادمات المنازل. بيْدَ أن السِجال ــ وهو للمناسبة عرضي أقفلته المقاومة بعد ساعات من اندلاعه ــ لمح من دون إصرار إلى أولويات التعبير السينمائي في بلد مهدد بالتدمير من طرف عدوه، وأن قيمة الفن في هذه الحال تستمد من التعبير عن تضحيات اللبنانيين الجسيمة لكي يعيشوا أحراراً في بلدهم.
على الرغم من سحب التغريدات اللائمة من التداول بغرض إقفال السِجال عند حده الأدنى، صمّمت النائب المنتَخب للتوّ بولا يعقوبيان على إثارته مجدّداً بوصفه باكورة مهارتها النيابية. فقد افتعلت اقتراعاً تحريضيا لـ “نادين لبكي” التي ليست نائباً في البرلمان ولا يحق لها بالتالي الترشّح لرئاسته، وكأنها تريد ربط السِجال حول “كفرناحوم” بكليشيه “ثقافة الموت” و”ثقافة الحياة”.
لا أعرف إن كانت لبكي قد اغتبطت لمبادرة النائب يعقوبيان ولا أعرف إن كانت مهتمة بالانخراط في هذا السِجال. ما أعرفه هو أن جائزة لجنة التحكيم الخاصة التي نالتها في “كان” تنتظم في سياق منح نوبل لـ “شيرين عبادي”المعارضة الإيرانية ولـ “توكل كرمان” المعارضة اليمنية السابقة المنتمية إلى تيار “الإخوان المسلمين”، مع فارق أن جوائز السينما تحتاج إلى براعة فنية وأعمال تدافع عن قِيَم من النوع الذي دافعت عنه لبكي في “كفرناحوم”، حيث الإبن يقاضي أباه وليس البرجوازية اللبنانية العنصرية التي ترعى سوقاً لشراء الخدَم الأجانب أشبه بسوق الرقيق العصري.
هذا النوع من الجوائز الذي يستتبع مثقفين مدركين أو عفويّين لا فرق، هو جزء لا يتجزأ من صوغ وإعادة صوغ العلاقة بين التابع والمتبوع ونقلها إلى خيال وأحاسيس ومشاعر جمهور واسع تشرط أحلامه ووعيه وردود أفعاله.
ما من شك في أن هذه السيرورة كلية القدرة إلى حد أن رُعاتها لا يبالون بسحب جائزة نوبل من “أونغ سان سو تشي” رئيسة وزراء بورما المسؤولة عن مجازر مروّعة ضد أقلية الروهينغا في بلادها. ولا يبالي حمَلَة الجائزة أيضاً بالتخلّي عن جوائزهم احتجاجاً وتنصلاً من زمالتهم في نوبل مع الجزارة البورمية.
لو كنت مكان المُغرّدين الذين اعترضوا على منْح لبكي جائزة سينمائية لربما غرّدت بطريقة أخرى غير وضع الشهداء بمواجهة الجائزة. ولربما غرّدت للجميع مُتسائلاً عن نوع الفيلم الذي كان يستحق جائزه عالمية خلال الاحتلال النازي لفرنسا، أهو الذي يتحدّث عن التسوّل في الشوارع أم عن أثر الاحتلال ومقاومته في لحظة تاريخية.. وفي هذه الحال لربما خلصت إلى مطالبة أصحاب الجائزة بمعاملة اللبنانيين بالمثل. لكني مع الأسف الشديد أعرف الجواب مُسبقاً. ذلك أن الجانب الأهم في الثقافة اللبنانية، يخضع لتصنيف هَرَمي تتصدّره الثقافة الغربية، وبالتالي لا بد للراغبين في الارتقاء الثقافي من احترام هذه الهرَمية واستبطان وعي التابع للحصول على شهادات الأهلية وصولاً إلى قمة الهرم… هذا ما أدركه أمين معلوف الذي وصل إلى أعلى الهرّم وختمَ حياته الأدبية في الأكاديمية الفرنسية. وهذا ما تبحث عنه نادين لبكي في سيرورة تبدو طبيعية في عُرفها ما دامت محكومه بمعادلة التقدّم عندهم والتخلّف عندنا، بل ربما كان طرح السؤال عليها في هذا الشأن أشبه بالسؤال عما إذا كانت الأرض كروية أم مربّعة.
لقد عانت المقاومة اللبنانية ــ وتعاني اليوم أقل من ذي قبل ــ من صعوبات حقيقية في مواجهة هذه السيرورة. فقد حقّقت اختراقاً ندّياً مهماً في وسائل التعبير على اختلافها، لكنها لم تجد بعد وقد لا تجد في وقت قريب الفرصة الملائمة لصناعة سينمائية ناجحة، يمكن معها المُفاضَلة بين فيلم متّهم بالتبعية أو التطبيع أو كليهما، وفيلم يمكن معه تقدير أهمية التضحيات اللبنانية في ردع عدوّنا ورفع شأن بلدنا في محيطيه الأقرب والأبعد. هنا الزهرة وهنا يجب أن ترقص على ما قال ذات يوم مفكر هبطت إسهمه بعد الحرب الباردة ..
فيصل جلول في “الميادين”