سيكون فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين، الرئيس الاطول حكما في موسكو، بعد الزعيم السوفياتي جوزف ستالين. يخوض بوتين الانتخابات الرئاسية مرشحا لولاية رابعة، واثقا من فوزه، لكن في باله ثلاثة أمور مهمة فيما يدلي الناخبون بأصواتهم الاحد.
يقول المثل الروسي “تاج القيصر لا يحميه من وجع الراس”. صحيح ان بوتين يكرر دائما محاولات استبعاد صفة “القيصر” عنه، ربما خوفا من مدلولاتها في التاريخ الروسي، الا انه يعلم ايضا ان متاعب الولاية الرئاسية الرابعة، لن تكون اقل وطأة عليه من الولايات الثلاث السابقة.
التصعيد البريطاني المفاجئ بطرد عشرات الديبلوماسيين وتعليق الاتصالات بين لندن وموسكو ومقاطعة مونديال كأس العالم، خطوات لا تبتعد كثيرا عن مبادرات التشويش الغربي على التحدي الروسي القائم في اكثر من مكان في العالم، من أوكرانيا شمالا الى سوريا جنوبا. الولايات المتحدة سبقت البريطانيين، في التشهير بموسكو، في اطار صراع المحاور داخل إدارة دونالد ترامب الذي اقصى للتو وزير خارجيته ريك تيلرسون، لصالح احد صقور المواجهة مع روسيا وايران وكوريا الشمالية.
التصعيد البريطاني سرعان ما تلقفه المؤيدون، من واشنطن الى الاتحاد الأوروبي الى حلف “الناتو”. ملامح “حرب باردة” يراد التلويح بها في وجه الزعيم الروسي العائد بقوة.
بوتين، رجل “الكي جي بي” السابق، صعد فجأة الى واجهة الحكم على انقاض حكم التسعينات للرئيس “الثمل” بوريس يلتسين، ومخلفات “بريسترويكا” ميخائيل غورباتشوف. احكم بوتين ورجاله، وخصوصا من أوساط عالم الامن والمخابرات، خيوط السيطرة على مقاليد الحكم في الكرملين، وخارج اسواره.
الركام السوفياتي كان في كل مكان. الذل السوفياتي في أفغانستان ثم بعدها في الشيشان، والخراب الاقتصادي والاجتماعي، كان من الفظاعة ان اللحظة صارت تتطلب “منقذا”، “قديسا” او “بطلا”. اللحظة استولدت بوتين، ولو كان تأخر، كان سياتي حتما، كما يعتقد العديد من الروس الذين سرعان ما نسجوا حوله روايات واساطير.
لكن هذا الرجل لم يكن مجرد مالئ فراغ. سرعان ما اظهر قدرة هائلة على الزعامة والقيادة، سمحت له بالحد من الانهيار الروسي الشامل، سواء باعادة إنعاش الاقتصاد الروسي، او من خلال الحاق هزيمة شاملة بالتمرد الشيشاني الدموي، ولو على أنقاض العاصمة غروزني.
هذه كانت في بدايات عهده. بوتين الان يمضي الى ولاية رابعة، وهو في ال66 من العمر، لكن عقله مشغول بثلاثة امور ملحة بشكل فوري: اولا تحدي ضمان رفع نسبة المشاركة في الانتخابات للتأكيد على ان حكمه الطويل لم يترهل، وثانيا احتواء ارتدادات الاتهامات الاميركية لروسيا بالتدخل في الانتخابات الاميركية تحسبا لانتقام مضاد، وثالثا تمهيد الترتيبات النموذجية ليجلس متباهيا بعد النصر الانتخابي، على مقعد استضافة الحدث الرياضي الاهم في العالم، اي “مونديال” كرة القدم في حزيران المقبل.
ولوهلة قد تبدو هذه التحديات طبيعية. لكنها بالنسبة الى بوتين تجدد التأكيد على صورة يريدها لحكمه، العظمة والانضباط والابهار، والاهم الزعامة التي لم يغادرها منذ العام 2000 الا اضطراريا التزاما بقيود الدستور، عندما تبادل الأدوار مع ديميتري ميدفيديف في العام 2008، فترك مقعده في الكرملين لميدفيديف، ليتولى هو رئاسة الحكومة، ثم يعود لولاية ثالثة والان نحو الرابعة.
ويدرك هذا المحنك الذي عرف كيف يجمع بين احابيل السياسة والاعمال والدين والوطنية، ان البقاء في الساحة الحمراء طويلا، يتطلب منه استجماع كل ما يملك من مقومات القوة والدهاء ليستمر حتى العام 2024.
ولهذا، وهو يذهب بثقة الى صناديق الاقتراع في 18 اذار/مارس، حافظ على تكتيكاته الشعبية، والتزم بمؤتمره الصحافي المتلفز الذي يستمر لساعات ويشاهده ملايين الروس، مقتربا من مشكلاتهم الصغيرة، من اقصى الشرق الروسي وسيبيريا، وصولا الى المواجهة الاكبر مع النفوذ الأميركي والاوروبي المتنامي على حدود بلاده غربا. لن تكون “اوكرانيا ثانية”، يقول بوتين وهو يحذر من خطر “الثورات الملونة” التي دعمها الغرب في معاقل النفوذ الروسي تاريخيا.
وفي الواقع، لا يوجد منافس قوي لبوتين في انتخابات اذار. وافضلهم حالا، قد لا يحصل على اكثر من 10 في المئة من اصوات الناخبين. لكن بوتين يكتفي معلقا على ذلك بالقول “ليست مهمتي ان أربي منافسين لي”.
ويرجح مراقبون ان ينال بوتين نسبة لا تقل عن 60 في المئة من اصوات الناخبين. وهو واثق من ذلك، لكنه يريد ان تكون نسبة المشاركة اكثر من 30 في المئة ممن يحق لهم المشاركة في التصويت، وهي مهمة ليست سهلة بالنظر الى احساس قواعده الشعبية والناخبة وعامة الروس، انه يتجه الى فوز سهل. واذا لم يحقق بوتين مراده، فان ذلك قد يفتح الباب امام انتقادات اوسع من خصومه، والغرب، بانه لا يتمتع بتأييد الاغلبية من الروس، وبانه يحكم بقبضة من حديد ويقيد الحريات.
وفي اطار زيادة الضغط عليه عشية الانتخابات، اعلنت الادارة الاميركية عن لائحة سوداء جديدة تضم 114 شخصا من السياسيين ورجال الاعمال الروس، بينهم رئيس الحكومة ديميتري ميدفيديف، والمتحدث الرسمي باسم الكريملين ديميتري بيسكوف. وقالت وزارة الخزانة الاميركية، إن 96 شخصاً من الذين وضعوا على القائمة يحسبون من “الاوليغارش” وتفوق ثروتهم المليار دولار.
وتحاول الادارات الاميركية المتعاقبة منذ سنوات، الضغط على الاقتصاد الروسي بالعقوبات، خصوصا بعد احداث القرم واوكرانيا، وقبلهما بسبب علاقات موسكو مع طهران. والان تتخذ العلاقات منحى جديدا، بعد صدور تقرير رسمي للاستخبارات الاميركية قبل اسابيع يتحدث عن ان بوتين، امر بإجراء “حملة نفوذ” تهدف للاساءة لهيلاري كلينتون، ومساعدة الرئيس المنتخب دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية 2016.
ويشير تقرير الاستخبارات الاميركية الى ان الحملة، تضمنت قرصنة جماعات وافراد في الحزب الديموقراطي، بما في ذلك رئيس حملة كلينتون، جون بودستا، والافراج عن تلك المعلومات عن طريق مواقع اطراف ثالثة. وتخلص الاتهامات الاميركية الى ان روسيا صعدت بشكل ملحوظ من جهودها لتقويض “النظام الديموقراطي الليبرالي بقيادة الولايات المتحدة الاميركية”.
وسبق أن قال نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف، إن موسكو لديها أدلة على أن الولايات المتحدة تحاول التدخل فى الانتخابات الرئاسية الروسية، عن طريق بث الفوضى وزعزعة استقرار البلاد.
اذن، من حق بوتين ان يشعر بالقلق من محاولات التأثير الاميركية المحتملة على انتخاباته الرئاسية، وهي اصلا لا تتوقف وتتخذ اشكالا متعددة. وكان الرئيس الروسي قرر في العام الماضي تقييد نشاط المنظمات غير الحكومية الناشطة بقوة في انحاء روسيا. وقبل أيام، قال بوتين بوضوح ان الزعيم الروسي المعارض اليكسي نافالني هو “مرشح واشنطن” للرئاسة الروسية. نافالني هذا كان قد منعته اللجنة المركزية للانتخابات من الترشح بسبب اتهامات تطاله تتعلق بالفساد.
لكن لا نافانلي، الممنوع من التنافس في الانتخابات، ولا غيره من المرشحين الاخرين، يبدو انهم سيعرقلون انتشاء القيصر “بوتين الرابع” بافتتاح “المونديال” في حزيران المقبل. النصر الانتخابي شبه محتم. وعيون مليارات البشر، ستكون شاخصة نحو موسكو في ذلك اليوم الكروي، وما من شي سيقبل بوتين ان يلطخه. لكن القلق كبير.
بعد 18 اذار، سيشاهد العالم الصورة الشائعة لقاعة الاحتفالات الكبرى في الكرملين والباب العملاق المذهب يفتح امام الرئيس الجديد، وهو يتقدم بهدوء وثقة ليعبر وسط هتاف الحراس: فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين!
من الطرائف الكثيرة المتداولة حول بوتين، انه ليس انسانا عاديا، او ربما كوكب اخر. يتداول ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي صورة ثلاثية، لجندي سوفياتي من العام 1920، واخرى لجندي سوفياتي في العام 1941 خلال الحرب العالمية الثانية، وصورة من العام 2015 لبوتين بملابس عسكرية. بوتين يتكرر .. عبر الازمان فالوجه متطابق في الصور الثلاث !
خليل حرب