لم يعد الامر يحتمل مزاحا. وما كان يثير ضحك الناس حول العالم، صار مبعث خوف. لم تعد المسالة زلات لسان هنا وهناك. دونالد ترامب، لا يمرر يوما من دون إضافة جديدة على سجله الحافل بالزلات والفظاظة والاحراج الديبلوماسي والسياسي والاجتماعي والانساني.
ولا يحمل التاريخ الحديث الينا سياسيا كدونالد ترامب في زلاته وسقطاته. بالطبع، هناك زعماء ومسؤولون من انحاء العالم، ادلوا بتصريحات غريبة بل احيانا بالفاظ نابية وقاموا بتصرفات هوجاء امام الملا او الاعلام، لكن ما من احد يحمل مثل الارث الذي يحمله ترامب في هذا المجال. انه ملك متوج بلا منازع.
لكن القصة لم تعد شديدة التسلية بالنسبة لكبار القادة والمسؤولين حول العالم، بل وفي الولايات المتحدة نفسها، حيث تتعالى أصوات تارة مشككة باهليته ومطالبة باخضاعه لاختبار نفسي، واخرى تدعو الى تفعيل التعديل الخامس والعشرين على الدستور الأميركي، والذي يسمح … بتنحية الرئيس.
الى هذا الحد صار الامر خطيرا. وهو اشد خطورة من السابق لانه عندما لم يكن في عالم السياسة كان بامكانه ان يهاجم خصما في مشهد هوليوودي على حلبة المصارعة ويطرحه ارضا، او يحلق له شعر راسه امام الجمهور، ثم يغازل فتيات ونساء بشكل فظ امام كاميرات الاعلام التي كانت تتعامل معه كما يحب هو.. رجل اعمال نافذ وملياردير.
كما ان كثيرين احتملوا زلاته وتصرفاته الخرقاء عندما كان مرشحا باسم الحزب الجمهوري. البعض قال ان الرجل آت من خارج المؤسسة السياسية الاميركية التقليدية. وقال اخرون ان خطابه مختلف ليتمكن من كسر احتكار السياسيين التقليديين وخصومه الديموقراطيين، كما فعل عندما هدد بسجن منافسته الرئاسية هيلاري كلينتون. كثيرون برروا له ذلك وقتها. المسالة الان تتعدى ذلك بكثير.
ترامب الان رئيس الولايات المتحدة، الدولة الاكثر قوة ونفوذا على وجه الارض. بين يديه اكثر من سبعة الاف راس نووي. ولهذا بدا الامر للبعض مضحكا عندما رد الرئيس الاميركي على قول للزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون مؤخرا بان الزر النووي موجود على مكتبه دائما، بقوله عبر “تويتر” ان “الزعيم الكوري الشمالي قال لتوه ان الزر النووي موجود على مكتبه دوما. هلّا يبلغه أحد في نظامه المتهالك والمتضور جوعا بانني انا ايضا لدي زر نووي، ولكنه اكبر وأقوى من زره، وبأن زري يعمل”!
لكن كبار المسؤولين والسياسيين حول العالم لم يضحكوا. ترددت انباء بان كبار القادة العسكريين الاميركيين تداولوا تعليمات في ما بينهم تحذر من الانصياع الى رغبة ترامب المحتملة بالضغط على “الزر”، على الرغم من الرئيس الاميركي هو بمثابة القائد الاعلى للقوات المسلحة. قرعت اجراس الاستنفار الامني في موسكو وبكين وطوكيو، واشتعلت هواتف الطوارىء الحمراء.
التغريدة السمجة للرئيس الاميركي لم تكن فريدة من نوعها. بعدها بايام، فجر مفاجاة جديدة لا تقل فظاظة. فخلال اجتماع حول الهجرة مع برلمانيين في البيت الأبيض، هدفه تقييد دخول الأجانب الى البلاد والحصول على البطاقة الخضراء، قال ترامب كما نقل عنه، “لماذا ياتي إلى هنا كل هؤلاء الاشخاص من بلدان كبالوعات المجاري القذرة؟” في اشارة الى بعض الدول الافريقية وهايتي والسلفادور، معتبرا أنه يجدر بالولايات المتحدة استقبال مهاجرين من النرويج، بحسب صحيفة “واشنطن بوست”.
لم يكتف. تابع ترامب “لماذا سنكون في حاجة إلى اكثر من الهايتيين؟…كل الهايتيين يحملون فيروس الايدز”!.
في تشرين الثاني الماضي، وخلال الى زيارته الى طوكيو، انتهك البروتوكول المتبع تقليديا بعد زيارته الى امبراطور اليابان اكيهيتو. فبينما كان في القصر الامبراطوري يطعم اسماك “الكوي” الملونة بملعقة صغيرة قدمت اليه لهذا الغرض، بدا فجاة كانه اصيب بالضجر، امام عدسات المصورين، فسكب كامل محتوى علبة الطعام في البحيرة وهو ما قد يسبب بنفوق الاسماك او مرضها.
زلات ترامب لا تتوقف هنا. في بداية حملته الانتخابية كان يتحدث عن ضرورة بناء جدار فاصل على الحدود مع المكسيك. وبرغم جنونية الفكرة وشكوك في كلفتها الهائلة، الا ان المسالة ليست هنا فقط. قال ترامب متحدثا عن المهاجرين المكسيكيين “إنهم يجلبون المخدرات ويرتكبون الجرائم، فضلا عن انهم مغتصبون”.
في تلك الفترة تحدث عن ضرورة الترحيل الجماعي لنحو 11 مليون مهاجر في الولايات المتحدة. هكذا بكل بساطة. تحدث ايضا عن خطر التغيير المناخي الذي يؤرق البشرية بكل خفة قائلا انه مجرد “طقس”، والتغيير المناخي “خدعة” لفرض قيود بيئية على عمل الشركات. وفي احدى مهرجاناته السياسية، اتى على ذكر دولة بلجيكا واصفا إياها بانها “مدينة جميلة”.
ومن اجل التحايل على المطالبين بقيود على اقتناء السلاح وهو امر يرفضه ترامب، قال انه للحد من جرائم القتل العشوائية على الولايات المتحدة ان تستثمر في علاج الأمراض النفسية، وانه يجوز “للشرفاء اقتناء السلاح”، ومع ذلك لا يجوز التحقيق في خلفياتهم قبل السماح لهم بشراء قطعة سلاح!
وقد حاولت وكالات انباء من بينها وكالة الصحافة الفرنسية جمع البعض من تعليقات ترامب ومن بينها:
-ترامب للبابا فرانسيس: تنظيم “داعش” يسعى الى غزو الفاتيكان واعتقالك.
-“حاولت ان اقبلها وكانت متزوجة، أنا انجذب تلقائيا إلى الحسناوات واعانق بلا تردد. وحين تكون نجما، يدعنك تفعل ما تريد” (قالها في العام 2005)
-“انظروا الى هذا الشكل. من سيصوت له؟”. (قالها بحق منافسته السابقة في الانتخابات التمهيدية الجمهورية كارلي فيورينا).
-“يمكن أن نرى الدم يسيل من عينيها، ومن…. لست ادري اين؟” (قالها بحق صحافية في “فوكس نيوز” ميغين كيلي يعتبر انها تكرهه في العام 2015). وعندما اثيرت ضجة حول كلامه نفى ان يكون اراد التلميح إلى العادة الشهرية للصحافية التي وصفها ايضا بـ”بيمبو” (طفلة).
-“لقد زاد وزنها كثيرا، ما يطرح مشكلة حقيقية”. (قالها بحق اليسيا ماشادو وهي فنزويلية نالت لقب ملكة جمال العالم في 1996 حين كان المرشح ينظم هذه المسابقات. ثم اطلق عليها اسم “ميس هاوسكيبينغ”، اى خادمة لانها من اصول اميركية لاتينية. واشارت ماشادو التي أصبحت من أنصار هيلاري كلينتون الى أن ترامب نعتها بـ”ميس بيغي (شخصية خنزيرة كرتونية معروفة).
-“بيل كلينتون كان اسوا معتد على النساء في تاريخ السياسة، وهيلاري تواطات بمعاملتها هؤلاء النسوة بطريقة مريعة”.
(قالها للنيل من منافسته هيلاري ملمحا الى انها كانت تتغاضى عن نزوات زوجها).
-“انها خنزيرة. وتتحدث مثل سائق شاحنة”. (قالها بحق الممثلة روزي اودانيل التي نعتته بانه “دجال اعمال”).
-“اريانا هافينغتون قليلة الجاذبية، داخليا وخارجيا. افهم تماما لماذا تركها زوجها ليرتبط برجل. إنه خيار صائب”. (قالها بحق مؤسسة الموقع الأميركي هافينغتون بوست بعد انفصالها عن زوجها).
-في كتاب مايكل وولف، “النار والغضب: داخل بيت ترامب الابيض”، كان ترامب في اجتماع زع زعيم دولة عربية الذي كان يتحدث عن قضايا الشرق الأوسط. الرئيس الاميركي كان يستمع وفجاة قال للزعيم العربي “انا معجب بحذائك”!
يناقش خبراء علم النفس واجتماعيون ظاهرة ترامب بكثير من الاهتمام. خليط من نفسية استعلائية، فظة، شعور بالاضطهاد (خصوصا من وسائل الاعلام)، مميز جنسيا بحق النساء ومهينا لهن. يهاجم وسائل الاعلام عامة خصوصا تلك التي لا تسانده، ويصفها دائما بانها “صاحبة الأخبار الكاذبة”، خصوصا قناة “سي ان ان”.
اخطا في احدى المرات بالإشارة الى هجوم إرهابي وقع في السويد، وهو اعتداء لم يحدث اساسا. ولما استفسرت الخارجية السويدية عن الموضوع، ثارت ثائرة قناة “فوكس نيوز” اليمينية التي يفضلها ترامب، وبثت تقريرا قالت فيه ان “ستوكهولم أصبحت عاصمة الاغتصاب في العالم بفضل الهجرة”!
وربما من بين اكثر ما وصلت اليه هيبة ترامب من تردي ما جرى قبل اسابيع قليلة. جرى اتصال هاتفي بين ترامب وبين رئيس وزراء استراليا مالكوم تيرنبول. انتهى الاتصال بجدل بينهما فما كان من الرئيس الأميركي الا ان اغلق سماعة الهاتف فجاة في وجهه. المسؤول الاسترالي رد على ذلك بالخروج امام وسائل الاعلام حاملا ممسحة احذية عليها صورة ترامب.
المعضلة القائمة الان ان خصوم ترامب يؤكدون انه غير مستقر نفسيا، وهو بالتالي غير قادر على أن يكون رئيس الدولة. ويستشهد هؤلاء بشكل دوري بآراء أطباء نفسانيين، الا ان قواعد الجمعية الاميركية للطب النفسي تمنع الاختصاصيين من اصدار احكام طبية نفسية على شخصيات عامة، اذا لم يقوموا بانفسهم بفحص الشخص المعني. البيت الأبيض اعلن قبل ايام، ان الرئيس لن يخضع لفحوصات نفسية في اطار الفحوصات الطبية السنوية التي يجب ان يخضع لها رئيس البلاد…
ولهذا، سيسمع العالم بزلات لسان كثيرة في القادم من الايام.
التعديل ال25 في الدستور الأميركي
في ظل الجدل الدائر حول شخصية ترامب وسلوكه، هناك من يدعو من داخل الولايات المتحدة الى تفعيل التعديل الخامس والعشرين (خصوصا الفقرة الرابعة) على الدستور الاميركي. فعلى ماذا تنص هذه الفقرة؟
“عندما يبلغ نائب الرئيس وغالبية الموظفين الرئيسيين في الوزارات التنفيذية أو اعضاء هيئة اخرى، يحددها الكونغرس بقانون، رئيس مجلس الشيوخ المؤقت ورئيس مجلس النواب تصريحهم الخطي بان الرئيس عاجز عن القيام بسلطات ومهام منصبه، يتولى نائب الرئيس فورا سلطات ومهام المنصب كرئيس بالوكالة.
وبعد ذلك، عندما يبلغ الرئيس رئيس مجلس الشيوخ المؤقت ورئيس مجلس النواب تصريحه الخطي بعدم وجود حالة عجز لديه، يستانف القيام بسلطات ومهام منصبه ما لم يبلغ نائب الرئيس وغالبية الموظفين الرئيسيين في الوزارات التنفيذية او اعضاء هيئة اخرى يحددها الكونغرس بقانون، وفي غضون اربعة ايام، رئيس مجلس الشيوخ المؤقت ورئيس مجلس النواب تصريحهم الخطي بان الرئيس عاجز عن القيام بسلطات ومهام منصبه.
عند ذلك يبت الكونغرس في القضية في اجتماع يعقده في غضون 48 ساعة لذلك الغرض إذا لم يكن في دورة انعقاد. وإذا قرر الكونغرس، في غضون 21 يوماً من تسلمه التصريح الخطي الثاني، او في غضون 21 يوماً من الموعد الذي يتوجب فيه انعقاد المجلس، اذا لم يكن في دورة انعقاد، وباكثرية ثلثي اصوات مجلس الشيوخ والنواب أن الرئيس عاجز عن القيام بسلطات ومهام منصبه، يستمر نائب الرئيس في تولي هذه السلطات والواجبات كرئيس بالوكالة.
اما اذا كان الامر خلاف ذلك، يستانف الرئيس ممارسة سلطاته وواجبات منصبه.
خليل حرب